نظرية مؤامرة كورونا.. تعاسة على شماعة الآخرين

سليم العبدلي: ما كان يتبجح به الغرب بعد مضي أكثر من سبعين عاما، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، لم يكن إلا تبجحا فارغا.
فرصة ذهبية غير مسبقة لإعادة التفكير في منهاج جديد ومثل وقيم جديدة لكي نستطيع أن نعيش في سلام مع بعضنا البعض
لا يمكن لعاقل الظن أن هناك من يتسلى بمصائر البشر على هذا النحو

قبل الإعلان عن جائحة كورونا وانطلاق شعار "خليك بالبيت" ودعوات المثقفين إلى طرح الأسئلة حول مفاهيم الثقافة والسياسة والاقتصاد، ودخول البشرية دائرة التباعد والعزلة الإجبارية، كان الشاعر والمترجم وعالم الفيزياء الدنماركي من أصل عراقي سليم العبدلي، قد قرر الابتعاد فيما يشبه العزلة، متأملا ومتسائلا وباحثا في الماضي والحاضر والمستقبل، وفي هذا الحوار يسرد تجربته الخاصة ثم رؤيته لما يجري جراء جائحة كورونا والتأثيرات التي طالت الغرب الأوروبي وينتظر أن تترتب عليها الكثير من الأمور. 
يقول العبدلي: ليست العزلة وإنما هي الابتعاد عن يوميات مضى عليها أكثر من عقود ثلاثة، عندما أصبحت الحاجة الذاتية ملحة لتغيير هذه اليوميات وتغيير المكان الذي لم يعد ملهما. ولذا قررت، منذ بضعة سنين، البحث عن مكان جديد أجد فيه لنفسي الهدوء ويوفر لي بعضا من الإلهام الذي افتقدته أخيرا. وبعد بحث طويل، رسى الأمر على أثينا، المدينة العريقة التي تفرد ذراعيها لتمسك بأوروبا بيد، والشرق الأوسط بيد، وتقف على قدمين يرتكزان على منبع غزير من التاريخ البشري، يُعد ينبوعا فريدا لثقافات كل هذه الدول والأمم التي تحيط بها في أوروبا والشرق الأوسط. إن هذا المزيج الفريد لا تجده في أي مكان آخر، حيث آثار هذه الحضارة وتأثرها بالحضارات المجاورة لا يزال واضحا في الحياة اليومية وفي شخصية الإغريقي لليوم، على الرغم من التغيرات التي طرأت على هذا البلد وعلى هذه المدينة منذ قرون عديدة.
الانتقال لأثينا
ويضيف العبدلي: انتقلت إلى أثينا دون أن يكون لي معرفة بأي شخص فيها، لا صديق ولا قريب، لا أحد يعرفني، كانت المدينة كالبحر، ترمي نفسك فيه لأول مرة دون أي سابق معرفة بمياهه وأمواجه وسكناته، وأنت لا تعرف إلا السباحة. نعم، رميت نفسي في ذلك البحر لأجرب قدرتي على السباحة، ولحسن الحظ لم يمض وقت طويل حتى أصبح لي مكان يعرفني، وناس يعرفونني، وشوارع وبنايات أعرفها. كل ذلك حصل في وقت لم يتجاوز بضعة أشهر، لأجد نفسي عائما في محيط المدينة وفعالياتها اللامتناهية دون أن أبذل الكثير من الطاقة لكي أبقى عائما في مياهها. 

لنضع نصب أعيننا مقولة الفلسفة الصينية، إن هزة جناح فراشة رقيقة في الصين لها أن تخلق إعصارا في أقاصي العالم

في هذه الأثناء كنت أنظر إلى الخارج وقتا وإلى الداخل وقتا آخر، أي توفرت لي الفرصة لكي اختار متى أنظر إلى ما حولي لكي أضيف إلى معرفتي شيئا عن هذه المدينة وثقافتها، ومتى أعيد النظر فيما علق بي من السابق، بأفكاري وقراءاتي ومعرفتي. هذا المزيج من التفكر خلق عندي حاجة لإعادة قراءة مسيرة حياتي ومعرفتي وأفكاري، وكل ما كان له دور في نحت شخصيتي. بدأت بإعادة قراءة الكثير مما قرأت في السابق، مما أعادني إلى زمن قراءة هذه الكتب وإلى أحداث تلك الأوقات وأناسها وأمكنتها. كل ذلك كان في رحلة تأملية للذات أولا وللمعرفة في النهاية. هكذا استغل فترة بقائي في أثينا. أما الكتابة فهي لا محالة جزء لا يتجزأ من يومياتي، كالقراءة والتفكر والتأمل طبعا.
الاغتراب
وحول تأثير ذلك أكد العبدلي أن هناك تأثيرا نفسيا واجتماعيا، وقال: أن ترمي نفسك في بحر غريب لأول مرة وأنت لا تجيد إلا السباحة، يصاحبه القلق والشك وحتى الرهاب أحيانا، فأنا أكرر السؤال يوميا إن كان الأمر يستحق هذه المجازفة؟ غير أن شمس أثينا وصباحاتها تؤكد لي يوميا ضرورتها، على الأقل للفترة الحالية. يسألني معارفي في أثينا، إن كنت سأكون مقيما دائما في المدينة، وجوابي لا يزال هو: "لا أعلم، ولكني باق هنا الآن". كذلك لك أن تعلم أني لم أهرب من معارفي وأحبائي في الدنمارك، فاتصالي بهم مستمر، إما من خلال شبكة الإتصالات الإجتماعية أو من خلال الزيارات التي أحظي بها من البعض، كذلك زياراتي إلى الدنمارك تتيح لي التواصل المباشر معهم ومع المدينة التي قضيت فيها ما يقارب من أربعة عقود. وبالنسبة للتبعات النفسية، فلا أخفي عليك مدى ثقلها، ولكني كباحث في العلوم الطبيعية، وككاتب، لم أشعر يوما بالوحدة أو الغربة، فلي ما يغني يومي ويلهيني عن الإكتئاب. 
أما الإغتراب فأجد نفسي وكأني خلقت له، ففي طفولتي وفترة شبابي كان اغترابي كبيرا في المجتمع الذي ولدت فيه، وبعد هجرتي من الوطن الأم واجهت غربة المنفى في بلدان غريبة تضغط عليّ وتحاصرني في مجتمعات أغرب مما تركت. ولذا فلك أن تعتبر أني ألفت الغربة والاغتراب في أي مكان من العالم، وفي أي مجتمع من مجتمعاته. أما اللغة، فإني كنت محظوظا في سرعة تعلمي للغات الأجنبية وإجادتها، ورغم تقدم العمر، إلا أنني أجد ما تعلمته من لغات يسهل عليّ تعلم أية لغة جديدة، وهذا ما أمارسه اليوم بمواظبتي على تعلم اللغة اليونانية الحديثة .
التبجح الأوروبي
ويتابع العبدلي: لا أدري إن كان يصح الآن القول إنه من حسن الحظ أن أجد نفسي في هذا المكان والعالم يتخبط في مواجهة كارثة طبيعية متمثلة في فيروس COVID-19، أو ما يسمى بالكورون. فأنا في خضم هذا التأمل والتفكر، وفي أثناء تواجدي في أثينا، وجدت أن ما كان يتبجح به الغرب وبعد مضي أكثر من سبعين عاما، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، لم يكن إلا تبجحا فارغا، جعلني أعيد النظر في محاولة جديدة لفهم الإنسان الأوروبي، فِهم أفكاره وردات فعله والقيم والمثل التي تشكل سماته العامة والخاصة، والتي يعتبرها الأوروبي حجر الأساس لحضارته التي يسعى إلى أن تكون، أو يظن أنها يجب أن تكون الطليعية في العالم، تتعلم منها وتتبعها كافة شعوب وأمم العالم. 

ولكي نضع الأمر في معيار الفهم، طرحت العديد من الأسئلة، منها كيف للأوروبي أن يفسر مسيرته خلال السبعة عقود الأخيرة والتي انتهت به إلى عدم قدرة مجتمعه مواجهة أول كارثة طبيعية تحل في قارته؟ بعد كل هذا التقدم في العلوم والمعلومات والمعرفة، كيف لمجتمعه الذي يصرف الترليونات من اليوروهات على احتياطي الأسلحة، وبموافقة الشعوب الأوروبية طبعا، ولم ينتبه، رغم تحذير العلماء، إلى توفير الإحتياطي الصحي لمواجهة فيروس جديد؟ وانتهى به الأمر، بعد أن هزأ من الصين عندما اجتاحها الفايروس بداية هذا العام أن يقبل مساعدات الصين يوميا بعد مضي شهرين فقط؟ فاليوم تصل مساعدات الصين إلى انكلترا وألمانيا وهولندا وبلجيكا واليونان والدنمارك، وحتى أميركا. هل له أن يرجع، بعد التمكن من احتواء هذا الفايروس، إلى ما كان عليه قبل انتشار الوباء؟ وأسئلة أخرى تتعلق بالضمان الإجتماعي، وبالثقة شبه المطلقة بالحكومات المنتخبة وبالقطاع الصحي وبريادة العلم وحرية الرأي والصحافة والإعلام. أسئلة علينا طرحها الآن، ليس في أوروبا وحسب، وإنما في كل العالم، وذلك لأني أرى أن انتشار هذا الوباء قد فضح العالم، فضح الساسة والإعلام والمفكرين ورجال الدين وكل من كان يعتبر أن العالم والطبيعة التي نعتاش منها وعليها هي شيء مسلم به، قائم إلى ما لانهاية، أو إلى نهاية الكون البعيدة والمحددة بانطفاء الشمس.
شركات الأدوية
وأكد العبدلي أنه لا يعير أهمية إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة وتابع: لا يمكن لعاقل الظن أن هناك من يتسلى بمصائر البشر على هذا النحو، وأجد مثل هذه النظرية ليس إلا متكأ سهلا لعدم تشغيل العقل في البحث والتحليل والتأويل، كذلك الذي يضع كل أعباء تعاسته على شماعة الأخرين. وفي العالم العربي الإسلامي، نجد الكثير من هذه الشماعات، من الإستعمار إلى الأغنياء إلى الديكتاتور إلى الدين إلى التحرر إلى الفنون إلى العلم، نعلق عليها سبب تأخرنا أو فقرنا أو عجزنا عن العمل والمثابرة، لكي نضع أصابعنا على مواطن العجز الحقيقي. ولكن إن ألقينا نظرة سريعة إلى الوراء، وبالتحديد إلى تاريخ الشركات العالمية للأدوية، لوجدنا العديد من الأدلة على نهج هذه الشركات الذي يرجح الربح على حساب نتائج البحث العلمي أو على حساب الوقت، وذلك في استعجالهم في طرح العقاقير في السوق قبل التأكد من الفعالية الشمولية لهذه العقاقير. 
في أواسط القرن الماضي طرحت إحدى الشركات عقارا جديدا يمنع حدوث الوحام عند الأم الحامل أثناء الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل. وقد اتضح لاحقا أن هذه الأدوية منعت الوحام غير المريح للأم الحامل، ولكن الجوانب السلبية لهذا الدواء لم تكن مجربة بشكل شامل، حيث ولدت هذه الأمهات أطفالا معوقين يفتقدون إلى أحد أو جميع أطرافهم. كذلك عندما كشف عن ممارسات شركات الأدوية العالمية والمتعددة الجنسيات في أفريقيا، حيث كانوا يوزعون أدوية منع الحمل أو عقاقير ضد مرض الإيدز، وغيرها إلى الأفارقة، وفي الحقيقة أنهم كانوا يعطونها لهم لكي يستخدموهم كحيوانات مختبرية يجربون هذه الأدوية عليهم! كذلك فضائح الشركات المتخصصة في أدوية السيطرة على مرض السكر، والتي تنصح في نفس الوقت شرب الحليب الحلو والكامل الدسم، وذلك لاعتمادها على مساعدات شركات الألبان. 
هناك العديد من الارتباطات بين شركات الأدوية ورأس المال الذي يحتم رقابة مشددة على هذه الشركات من قبل برلمانات الدول الأوروبية. وفي هذه السياق يمكن أن يشكك بتخوف هذه الشركات من منافسة الطب الصيني الذي بدأ يجد له مكانا في الجامعات والسوق الأوروبية، وبذا يهدد أرباح شركات الأدوية ذات الأعداد الخيالية، والتي يمكن أن تستغل هذه الأزمة التي يزعمون سببها الأسواق الصينية التي يباع فيها جميع انواع الحيوانات لاستخدامها في عقاقير الطب الصيني، وفي غلق هذه الأسواق ستكون فعالية هذا الطب الذي يستند على خبرة تزيد عن 5 آلاف عام.
فرصة ذهبية
وخلص العبدلي إلى القول: أرى اليوم أن ما انتهت إليه الحياة في العالم يمثل فرصة ذهبية غير مسبقة لإعادة التفكير في منهاج جديد ومثل وقيم جديدة لكي نستطيع أن نعيش في سلام مع بعضنا البعض. أرى أن على العالم بعد أن توقف الآن، أن يظل واقفا ولا يخطو خطوة قبل أن يطرح رؤية جديدة للحياة على هذه الأرض، حياة تضمن العيش للإنسان بسلام مع الآخر من جهة ومع الطبيعة من جهة أخرى. وهذه المهمة يجب أن ينوط بها المفكرون وعلماء الطبيعة والعلوم الإنسانية والأدباء والفنانون، بعيدا عن الساسة والدين ومن يمثلهما. ويخبرنا التاريخ الحديث كيف كان لازما على الدول الأوروبية بعد أن توقفت الحياة فيها أثناء الحرب العالمية الثانية، لتبدأ في التفكير في إطار جديد للحياة بعد الحرب، واستطاع مفكرو القارة أن يطرحوا بعد انتهاء الحرب نمطا جديدا من الحياة، تمثل في إنشاء هيئة للأمم وبعدها اتحاد للدول الأوروبية. نعم، لقد استطاع هذا النمط أن يضمن السلام والتقدم لأوروبا فقط، ولكن اليوم لا يستطيع أن يكون هناك سلام لمنطقة أو قارة بمعزل عن أية دولة أو شعب أو نظام في القارات الأخرى. فما علينا إلا شحذ أفكارنا لإيجاد نمط جديد يكفل العيش مع بعضنا البعض بغض النظر عن الثقافات المختلفة، وبغض النظر عن مراحل تطور هذه المجتمعات، ولنضع نصب أعيننا مقولة الفلسفة الصينية، إن هزة جناح فراشة رقيقة في الصين لها أن تخلق إعصارا في أقاصي العالم، أو ما تقول به الكليشات الحديثة، إن العالم ليس إلا قرية صغيرة.