نعمات البحيري ورحلة البحث عن اللؤلؤ

رحلة اكتشاف القصص التي تتماس مع السيرة الذاتية للقاصة المصرية في الحكايات.
الكاتبة تطبع "نصف امرأة" عام 1984، على نفقتها الخاصة بعد أن قامت ببيع ذهبها
الكتابة هي خط الدفاع الأخير في مقاومة الموات والانزواء وحوافز الإحباط واليأس التي تتراكم حولنا في الحياة

عندما طالعت المجموعة القصصية "حكايات المرأة الوحيدة" للقاصة الراحلة نعمات البحيري، والصادرة ضمن مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة، استشعرت فكرة واحدة هي مدار تلك القصص بل وأدب القاصة جميعه، فنجد صدى من ثيمات هذه القصص بمجموعتها القصصية الأخرى "ارتحالات اللؤلؤ"، فهناك ملمح أساسي في القصص بالحديث عن العلاقات الإنسانية الدافئة والروابط القلبية الدقيقة، وأن المشكلة هي أزمة اغتراب إنساني حيث دفء العاطفة أشبه بالحفريات الوجدانية في واقعنا المعاصر. 
وفي رحلة اكتشاف القصص التي تتماس مع السيرة الذاتية للقاصة في الحكايات، بحيث يقف التصنيف حائراً لإدراج النصوص تحت نوع معين، فالقاصة تؤمن في أدبها بمبدأ تداخل الأنواع الأدبية، وتري أن مساحات الإبداع تمتد لتشمل مختلف ألوان الكتابة، فتكتب القصة القصيرة بلغة شاعرية، وتكتب المقال ممزوجا بالسرد الموحي، ويتميز أسلوبها القصصي بالوصف السردي والقدرة على التقاط المواقف الحياتية من خلال حوار أزمنة ثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلال تفاصيل معبرة مشحونة بالتكثيف الفني وجعلها معبأة بفضاءات النفس الإنسانية ونبضات الإحساس والفكر بصورة ممتعة، خاصة لما تحمله من أمل وإدراك لقيمة الإرادة الإنسانية رغم المآسي. 

قصص نعمات البحيري تتحدث عن الفصام بين تلك المحاولة الدءوب في رحلة البحث عن اللؤلؤ والواقع المر المجرد من إنسانيته

وتتميز القاصة بقدرتها علي التقاط تفاصيل حياتية لدرجة أن البعض يري أن أدبها أقرب إلي السيرة الذاتية، لكن الأديبة ترد عليهم قائلة: "هناك الكثير من عناصر الحياة مثل قصص الحب أو الزواج أو السفر أو دخول الحرب يطمح كل مبدع لأن يكتبها في الروايات لتشير إلى عناصره من عالمنا ثم يعيد بناءها وفق رؤية فنية لا تغفل الذاتي والشخصي والسياسي والاجتماعي، لذا فدخول بعض العناصر الحياتية في النص الأدبي غالبا ما يمنح النص شبهة السيرة الذاتية، لكن دور الفن والموهبة في تصوري هو الذي يحدد مقدار المجسد والمغيب من التجربة الذاتية داخل النص الأدبي، أنا شخصيا لا أهاب مسألة تحديد ما هو ذاتي أو غير ذاتي في كتاباتي، لأنني أكتب دائما بخبرة الحياتي والمعاش سواء كانت من تجاربي أو من تجارب الآخرين، فالمبدع دائما عليه أن يتسلح بعناصر الثقة في النفس وأنه حتى لو أخذ من حياته وكتب فهذا أيضا لصالح الفن وليس لاستعراض الذات...".
تحدثت الأديبة عن بداياتها في الكتابة عندما كانت طالبة في الجامعة تكتب المقالات في مجلات الحائط وفي تلك الفترة تعرضت إلى موقف يعتبر البداية الأدبية الحقيقية لها، حيث تقدم شخص للزواج منها فراحت تجمع عنه كل المعلومات الإنسانية والاجتماعية، ووضعت تلك المعلومات في شكل قصة قصيرة وعرضتها حينئذ علي الناقد د. سيد البحراوي، والذي أشاد بأسلوبها في الكتابة، مما شجعها علي المواصلة، فكانت تلك هي البداية الفعلية لها، وقد ظهرت تلك القصة بعنوان "نصف امرأة" عام 1984، وقد طبعتها علي نفقتها الخاصة بعد أن قامت ببيع ذهبها، فالكلمة المبدعة لديها أغلى من الذهب، وهذا يمنح فتنة السرد فكل إنسان لديه قصص تحكي، قد تصبح يوماً فناً، خاصة مع عاصفة البوح علي شاشات الحاسوب.
ورغم القول إن القاصة عرفت الكتابة بطريقة قدرية إلا أنها اشارت إلي أن الكتابة هي التي أضاءت المناطق المعتمة في الحياة كي نفهمها علي شكل أفضل فتقول في كلمة معبرة: "الكتابة هي أيضا خط الدفاع الأخير في مقاومة الموات والانزواء وحوافز الإحباط واليأس التي تتراكم حولنا في الحياة، الكتابة هي البهجة مدفوعة الثمن من الوحدة وتأجيل الأحلام وتقليصها، وربما إلغائها، الكتابة هي كلمة أتبادلها مع الناس حتى نظل خيولا جامحة ترفض الانسياق لإغواءات الطرق السهلة دون كد أو تعب، هي الهواء النظيف دون عادم أو دخان، هي صرخات من القلب الموجوع بسياط الرغبة في تجديد الأحلام وتبديد الأوهام".  

The Egyptian Story
تفاصيل مشحونة بالتكثيف الفني 

فالقاصة رأت "الكتابة" شكلا مثاليا من أشكال المقاومة، ثم كان أن توقفت عن الكتابة خمس سنوات حتي تقوم باستكمال أدواتها الفنية إلى أقصى درجة تجويد متاحة، وتلك من سمات الأديب الذي يطمح إلى الإرتقاء إلى ذري الإجادة احتراما للكلمة وقيمتها في الحياة وتقديرا لجمهور المتلقين لأدبه، وتوالى بعد ذلك صدور أعمالها الأدبية: "نساء الصمت"، "النار الطيبة"، "إرتحالات اللؤلؤ"، "ضلع أعوج"، و"أشجار قليلة عند المنحي"، والتي استقبلتها الحياة الأدبية والنقدية بحفاوة في أرجاء الوطن العربي، وغيرها. 
وعاشت القاصة حياة ثقافية عريضة بإنتاجها، وتفاعلها، وعطائها الأدبي، يصف أحد الكتاب عطاءها الإبداعي بقوله: "غاصت بقلمها في بحر الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة.. واجهت مصاعب الحياة المادية والإنسانية بمفردها دون أن تنكسر أو تشرخ جدران روحها.. حولت آلام الغربة في المدن الجديدة إلي إبداع جيد". 
والقاصة تتميز بقدرتها على مقاومة الغربة ففي قصتها "الضوء الآخر" تعبر عن الإرادة من خلال محاورة البشر الذين يؤمنون بالحياة، هذا الحوار الحي في مدينة موحشة وفي طقس عاصف بارد يدل على صمود الإنسان، ويصف الكاتب عبدالله فرج مؤشر الغربة في كتابات الأديبة: "في قصص وروايات نعمات البحيري تبدو هواجس القلق والخوف والتمرد على شروط الواقع وكأنها الحراك الأول لفعل الكتابة، ومن هذا المنطلق نفسه قدمت رؤية شديدة التمايز والخصوصية لعالم الغربة في روايتها (أشجار قليلة عند المنحنى)، وتسللت روح هذه الرؤية بإيقاع مختلف في مجموعتها القصصية (ارتحالات اللؤلؤ)". 
لذا نجد في قصصها مواصلة رحلة البحث عن اللؤلؤ الإنساني في أدبها، وهم البشر الجيد الجميل، لذا نجد أن إهداء مجموعة "حكايات المراة الوحيدة" مقدما إلى الأصدقاء وهم اللؤلؤ، ولم تكتف بذلك بل كما قالت أيضا في "ارتحالات اللؤلؤ" عن مشاركة القارئ: "ثم أدركت بعد وقت أنني توصلت إلي سياق قصصي يمنحني بعض القدرة على الإدهاش وإقامة علاقة حميمة مع المتلقي من خلال هذه النصوص، فطيلة عمري أطمح في جذب القارئ المنصف الحميم والمشارك والمتورط في الفن الجميل والملتصق دائما بلحظته التاريخية والجغرافية إذا جاز التعبير". 
وقالت: "أقيم وطنا داخل جدران خاصة بي، وطن صغير ربما يطرح بشرا جددا يحلمون نفس أحلامي في الحرية والعدل والجمال، وطن يساوي إنسانا جديدا". 

وبالفعل تتحدث قصص نعمات البحيري عن الفصام بين تلك المحاولة الدءوب في رحلة البحث عن اللؤلؤ والواقع المر المجرد من إنسانيته، فهي تحاول ترويض الوحدة، تقول: "ورحت في محاولة لترويض الوحش الجميل (الوحدة) وشيئا فشيئا صار الخوف يتراجع باتساع الحلم عبر القراءة والكتابة .. وهل هناك غير الفن لترميم الأنقاض، فصار للإبداع ألف قمر وشمس، وبمقدورها إبتعاث الضوء والدفء والألفة، وامتدت الجسور لإستئناس العالم الجديد"، ومن شاء تلمس هذا العالم الفريد فليقرأ حكايات نعمات البحيري.