نقص عالم الأشرار واحدا

لا تترك دولة كبرى مثل روسيا جيشا تابعا لها في قبضة طباخ لا يملك سوى موهبة تفادي تناول السم الذي صنعه.

قُتل يفغيني بريغوجين زعيم مجموعة فاغنر الروسية في حادث تحطم طائرة خاصة.

الحدث ليس مفاجئا. وليس مفاجئا أيضا أن تعتبر أوكرانيا مقتله رسالة من بوتين إلى النخب الروسية.

تفرح أوكرانيا لأنها تخلصت من عدو، غير انها تحاول أن تصنع مناسبة لتشهر بعدو ثان هو الأكثر خطورة.

ليست أوكرانيا الجهة الوحيدة التي ذهب ظنها في اتجاه الرئيس الروسي. كل الجهات المعنية بشؤون الحرب الأوكرانية توجهت أنظارها صوب صاحب الكرملين. ولكن الأخير ليس ساذجا إلى هذه الدرجة ليهب اعداءه فرصة ثمينة للتشهير به.

لم يعد بريغوجين يشكل مشكلة لبوتين. الرجل استسلم في صراع لم يخض منه إلا ساعاته الأخيرة. مجموعته عادت إلى بيت الطاعة. لا ينسى بوتين ما حدث. ولكنه رجل مخابرات سابق وهو يعرف كيف يضع مشاعره في ثلاجة. سيكون الثأر مؤجلا إلى حين انتهاء الحرب. بالرغم من استسلامه لا يزال بريغوجين رقما صعبا في الحرب الأوكرانية وحروب أخرى تخوضها روسيا.

وفي كل الأحوال فإن نهاية بريغوجين طبيعية ومتوقعة كونه زعيم عصابة. فالرجل الذي قضى حياته وهو يجمع المرتزقة من كل حدب وصوب لابد أن يجمع من حوله في الوقت نفسه عددا لا يُحصى من الأعداء الذين يفضلون أن لا يعلنوا عن أسمائهم والأطراف التي يمثلونها.

رجل شرير مثل بريغوجين يلتقط الأشرار من كل مكان غير أنه في الوقت نفسه يدوس في طريقه مصالح كثيرين. فهو يقود مجموعة لا تقاتل من أجل روسيا وأن كانت روسيا تنفق عليها وتستعملها لأهدافها. ما يحدث هو أبعد من ذلك وأشد غموضا.

فبريغوجين قائد مجموعات من المرتزقة وهو يحصل على الأموال من خلال تحريك تلك المجموعات بين مختلف انحاء العالم، يضعها في خدمة حكومات وفي الوقت نفسه في خدمة معارضيها حسب نوع المقاولة وما يمكن أن تجلبه من أموال. وهو مبدأ لم يخترعه الروس. لقد سبقهم الفرنسيون والأميركان إليه في قارتي أفريقيا وآسيا.

صفته شريرا معاصرا تضعه في الأرض الحرام. لن تنجح الحمايات دائما في منع الرصاصة الأخيرة من الوصول إلى صدره. بريغوجين كان دائما هدفا مرصودا للقتل. ما نعرفه يعرفه بوتين قبلنا.

ما يمنع أن يكون التفجير من تدبير مجموعة داخل فاغنر؟ دمر بريغوجين المهمة كلها وقد تُحال فاغنر إلى التقاعد حين يتخلى الرئيس الروسي عن تمويلها بعد أن صارت تشكل خطرا على موسكو. الروس يعرفون أن بوتين لا يلعب. وهو ما يعرفه العالم جيدا وتعرفه أوكرانيا قبل غيرها.

لا أحد يعرف ما الذي حدث. هل انقلب طباخ بوتين عليه فعلا أم أنها كانت مجرد مسرحية كما يتوقع البعض؟ هل تراجع بريغوجين عن تمرده وطلب العفو من سيده الذي وإن عفا عنه قد شعر بخطره وقرر إزاحته لا من موقعه العسكري فقط بل ومن الحياة أيضا؟ ولكن قبل ذلك لا يمكننا أن نتوقع أن شريرا محترفا يمكنه أن يكون بمثل تلك الحماقة.

في الجانب الآخر ليس من المتوقع أن يتخلى بوتين عن خدمات فاغنر في أوكرانيا ودول أخرى في مقدمتها سوريا. فاغنر في حقيقتها هي جيش روسي رديف. أموال وأسلحة روسية هائلة خُصصت من أجل أن يقوم ذلك الجيش بمهماته القتالية وقد لا يعني كثيرا وجود بريغوجين على رأس ذلك الجيش. لا تترك دولة كبرى مثل روسيا جيشا تابعا لها في قبضة طباخ لا يملك سوى موهبة تفادي تناول السم الذي صنعه. قد لا يكون بريغوجين سوى أداة مؤقتة أو واجهة لما كان الكرملين يخطط له.

ليس بريغوجين بالنسبة لموسكو قائدا عسكريا، يمكن أن يوهب أعظم الأوسمة لخدماته الجليلة في حروب روسيا. هو مجرد مقاول وجد في طبخ المرتزقة في حروب روسيا بديلا عن أن يطبخ طعاما روسيا للأثرياء. لذلك فإن التخلص منه ليست مسألة شائكة. لم يكن صعبا على الرئيس الروسي التخلص منه من خلال اخفائه لا من خلال قتله علنيا ليكون حجة عليه في أيدي أعدائه.

في كل الأحوال فإن روسيا لم تخسر شيئا بمقتل بريغوجين وأيضا لن تربح شيئا. فالرجل بعد أن تراجع عن انقلابه الفاشل بات صفرا. وإذا ما كان الرجل قد قُتل فإن هناك جهات كثيرة يمكن أن تكون واحدة منها قد خططت لاغتياله وقد لا يكون الكرملين واحدة من تلك الجهات.