نيتشه والمرأة

كل ما في المرأة يغري نيتشه خصوصا المرأة الذكية، التي تقدم نفسها بكبرياء.
نيتشه كان يتلمس خطى المرأة في أدق تفاصيلها
المرأة التي رغب نيتشه الزواج بها كانت مثقفة، وقهرت الكثير من المثقفين في زمنها

محنة الفيلسوف نيتشه (1844-1900) لا حدود لها في وحدته القاسية وعزلته، في تأويل أفكاره وما يتناسب وأهداف معينة، ووفق سياق المعرفة التي أنتجها عن ذاته، وقراءته للفكر السابق من تاريخ الفلسفة، وتباشير المستقبل الذي بشر به في أفق ميلاد الإنسان الأعلى صانع للقيم. محنة أن تتحول أفكاره للفهم المغلوط عندما يتم توظيفها لغايات وأهداف سياسية وإيديولوجية وترجمتها بما يخدم جهات معينة، تخرجها عن السياق والفهم الصحيح. 
عالم نيتشه مكثف بالألغاز والحقائق التي تنم عن صدق الفيلسوف وتماهيه مع الذات، صدق في القول والتعبير عن أزمة الإنسان ومعاناة الفيلسوف مع المرض، تعبير عن الممكن والمستحيل، يرسم بأفكاره ما ينبغي أن يكون للتجاوز والنسيان، مطرقة نيتشه كانت شديدة في نسف الحقائق، وتحطيم الأوهام وتفنيدها، صنم العقل وصنم الحقائق الثابتة المزيفة التي تغلغلت في أعماق المنطق والفكر الخالص. يعلن نيتشه عن أفول الأصنام، ويسدد الضربات العنيفة للفكر الثابت ولليقين المطلق، للأخلاق كذلك سواء في بعدها الديني أو الفلسفي، الأفلاطونية والمسيحية، تأملات الفلاسفة في مسار العقل والعقلانية، وفكرة الشيء في ذاته، فيلسوف النقد والهدم لكل ما يتعلق بالثبات، ينسف الثابت ويبقي على الصيرورة والتغير، ويقرأ الأشياء من رؤية بعيدة في تعاليم زرادشت وحكمته، الذي اختفى مدة طويلة وصلت لعشر سنوات في الجبال الباردة، ونزل يحمل مشعل المعرفة حتى تعود الإنسانية إلى رشدها، وتصحو من سباتها، إنه يحمل قبس المعرفة ونور الحقيقة، ونداء لفهم ما وراء الخير والشر في ميلاد الإنسان الأعلى، يخاطب العقول الحرة كما يقول، ويريد أن يبعث في الحياة نفسا جديدة بعيدا عن الثقافة الغربية التي أصابها الصدأ، يكتب بشكل نسقي وبالشذرات في أغلب الأحيان، فيلسوف وشاعر وفنان، عاشق للموسيقى والجمال، علاقته بالمرأة يمكن اختزالها بين الكراهية والانجذاب، بين خطاب ظاهر وخطاب كامن، يهيم عشقا ومحبة للمرأة، علاقته بالأم والأخت طبيعية، حياته قاسية في غياب الأب، ولد في أسرة متدينة، كان الأب قسيسا بروتستانتيا، مثاليا في أفكاره ومواقفه.    

رسائلها مع نيتشه ووصفها إياه من خلال سيرة حياتها دليل على قدرتها في الوصف والتحليل، وبقي الإعجاب بنيتشه صديقا وليس شريكا

لعل نيتشه إن صح التعبير كان يتلمس خطى المرأة في أدق تفاصيلها محاولا إقامة الدليل والبرهان على صدق أفكاره وحدسه القوي في التحليل والنتائج، يقلل من قيمتها ويعود مرة أخرى للرفع منها، تناقضات جمة في المواقف، ولغة مفعمة بالوصف لذاتها ممزوجة بالصراحة والنقد العنيف، لا تعني الكراهية المطلقة ولا المحبة الشاملة، كل ما في المرأة يغري نيتشه خصوصا المرأة الذكية، التي تقدم نفسها بكبرياء، ولا ترمي حبالها في الانقضاض على الرجل أو استمالته، وأعتقد أن نيتشه ظل يرغب في النفاذ لأعماق المرأة، وتحليل نوازعها النفسية ورغباتها.
يتكلم نيتشه عن حياء المرأة وجمالها، وعن كراهيتها الأشد للرجل في حالات معينة، كلما قلّل من شأنها وأهان كرامتها أو قلت العناية بها، رغبتها في حب التملك قوية، فالمرأة الكاملة يعتبرها أرقى من الرجل، ولعل هذا الصنف من النساء يكون قليلا جدا لأنه يستند بالأساس على تربية وذوق، يتناسب هذا النوع مع ذوي العقول الحرة من الناس، مواصفات المرأة التي يطلبها نيتشه متحررة وقوية، لا أسيرة القيم الماضية المكبلة للفعل، يقنعك نيتشه في أصل الأخلاق عند القول بنوعين منها: أخلاق السادة وأخلاق العبيد، الشر كل ما يصدر عن ضعف، والخير أيضا كل ما يصدر عن قوة، وكل الأشياء تنمو وتتضاعف بمقدار القوة، التحرر من القيم البالية، جوهر ومقياس الحقيقة الواقع، والحياة التي نرسمها مليئة بالنشوة والاعتدال، كفة ديونيزوس أقوى من أبولون في توازنه وسيطرته على الغريزة، آراء نيتشه غريبة في الصراع الظاهر بين جموح الرغبة وقمعها وتهذيبها وعقلنتها، كما للفن دور في ذلك، بحيث يتجاوز الفنان المنطق الثابت والقواعد الصورية الصارمة نحو حياة غير مقيدة بشروط أو قواعد في الفعل، هنا يتجه الإنسان نحو تحطيم الأصنام وترسيخ فكرة إرادة القوة. 
الزواج من امرأة يطرح الكثير من الأسئلة، كلها تنصب على المعاشرة والمحادثة، إمكانية تأثير الزواج على التفكير والحرية قائمة، يجرك الزواج للتقهقر الذهني عندما تتجاوز الثلاثين، أما الزواج النافع والمفيد يكون في العشرين من العمر، المرأة تريد أن تكون محبوبة بدون منافس، عندما تلبس القناع تخفي عيوبها وتظهر الجانب الودود والعاطفي منها، لا تنظر للرجل إلا كوسيلة في عملية الإنجاب بمجرد أن تحصل على طفل، كل ما في المرأة لغز، والرجل الحقيقي يطلب المرأة من أجل أمرين: المخاطرة واللعب، وهي أخطر الألعاب، ما يقوله نيتشه على لسان زرادشت، هل يعني هذا أن النساء اللواتي رفضن نيتشه كانوا على شاكلة الألعاب، ولم يحسن نيتشه اللعب معهن أو المراوغة؟ 
فن المرأة التحايل والمراوغة، وهذا ضد الحقيقة التي كانت تعني دائما الصدق والصواب، ضد أشكال اللاحقيقة التي أصبحت تعني الكذب والخطأ والوهم، هل يعني أن الحقيقة امرأة؟ عندما نكتشف هذه الحقيقة، نزيل عنها ما تعلق فيها من أفكار خاطئة، ربما يريدنا نيتشه مراجعة أفكارنا عن المرأة، لا من خلال رأي المرأة في ذاتها، أو بناء على ما سمعه من امرأة كنصيحة منها في استعمال السوط، لكن التوغل في أعماقها والتغلغل في سيكولوجيتها، وقراءة المخفي من حقيقتها، تنكشف أجزاء من اللعبة وتنجلي المرأة في السلوك والرغبات، أخطر الألعاب كما يدعي الفيلسوف، ولن تكون بمأمن عن شرها وكراهيتها إلا إذا كنت لاعبا محترفا أو هكذا تبدو الفكرة التي يمكن اعتبارها ثنائية المعنى. 
كراهية الفيلسوف وخوفه من المرأة، وما يحمله من عشق ومحبة تتجلى في اللغة العنيفة التي تخفي كل أشكال الود والاقتراب من عالمها. زوجة سقراط كمثال لدى نيتشه عنيفة وقاسية، والسبب الملل من سقراط كرجل غير مسؤول، والوقت الضائع الذي يقضيه في الساحات العمومية بأثينا، جعلت من بيته جحيما لا يطاق بتعبير نيتشه، سليطة اللسان وجبارة، ترغم سقراط في الخروج والبقاء مدة طويلة خارج البيت، وفي الأمر حقائق تذكرها المصادر التاريخية الخاصة بحياة الفلاسفة، أن سقراط كان لا يقوم بواجباته كزوج، وأنها بالفعل كانت ترى فيه رجلا عديم المسؤولية، ومنشغل بالأفكار الفلسفية، وكل أوقاته يقضيها في الفضاء العمومي يسأل الناس في قضايا كثيرة، ليست هذه الأمثلة وغيرها سوى محاولة من نيتشه في تعزيز أفكاره عن المرأة وعلاقتها بالرجل.

يحاول الفيلسوف قدر الإمكان أن يعثر على كل ما يؤكد أطروحته عن النساء عموما، سيكولوجية المرأة مركبة تنم عن الحاجة في الفهم، يحاول أن يشخصها ويحللها في عدة شذرات من كتبه، زرادشت الذي قضى  سنوات في التأمل، يقاسي شدة البرد والعزلة لم يتكلم عن النساء، وعندما طلبت منه امرأة سبقته إلى تحديد التعامل معهن بالقول "هل أنت ذاهب إلى النساء؟ لا تنسى السوط"، صوت المرأة هنا، لا يعني أن الفيلسوف يتوافق مع آلية القمع والإكراه، لم يكترث بالفكرة، استمر في نزوله من الجبل قاصدا الناس ومبشرا بالفكر الجديد، أعتقد أن نيتشه أراد أن يكون خبيرا في فهم سيكولوجية المرأة وطرق تفكيرها، يربطها باللغز والحقيقة، يتعمق في خصائصها النفسية والشعورية، يترك فكرة هنا ثم يعود لتفنيدها، يربط فعلها بالعمق ويعري ذلك بالنفي، بعدم وجود عمق ولا سطح، المرأة لا تهوى الأعماق، كائن فارغ، لا تحقق متعتها إلا بإخضاع الرجل، أنها غالبا تهرب من العلم والعمق والإرادة. ربما يكون الفيلسوف جاك دريدا على صواب أن نيتشه ألبس الحياة لباسا أنثويا، ولم يكن يعبر عن المرأة كذات، مجرد تأويل ليس إلا. 
فكرة نيتشه فكرة غير المعلن عنها في سياق التقابل بين المرأة والحياة واللعب بالرموز واللغة، يلتمس نيتشه الأفكار من الفلاسفة عن المرأة، يقترب منها، ويدنو نحوها ثم يلوذ للوراء، النساء اللواتي عرفن نيتشه كن بالفعل يرغبن في صداقته ويعجبن بأفكاره الفلسفية، لكن لا يرغبن في الزواج به، وعندما يصرح أن المرأة كائن غير قادر على الصداقة أو أنها نصف البشرية الضعيف والمضطرب وصفات أخرى في حقها، فإن الأمر هنا يجعل المرأة تنفر من قبول طلب الزواج، رفضت ماتيلدا الزواج به، كذلك الحسناء الروسية لو أندرياس سالومي الشابة العبقرية الماكرة التي كانت معتزة بنفسها، لا ترغب في الرجال الطامعين بجمالها، رغم ما كتبته عنه من أفكار ووصف دقيق دليل على محبتها لأفكاره وإعجابها بذكائه، لم تبادله نفس المشاعر . كلامها عن نيتشه ووصفها لأفكاره وحركاته وملامح وجهه دقيقة، رجل هادئ، متوسط القامة، يتحدث بصوت منخفض، يمر أمامك دون أن يلفت انتباهك، يداه الرائعتان، وفمه مدفون تحت شارب كث، جاذبيته في النظر، رقيق المشاعر، آلامه كانت واقعية، يحمل قناعا ويخفي أشياء.                                                                                
يحمل نيتشه في ذاته عشقا رقيقا وهياما، وعاطفة جياشة للمرأة، يخاطب نوعا من النساء، نفوره من المرأة في الكتابة يعني اقترابه منها أكثر، وصفها بالمواصفات العامة لا يعني كراهيتها، إنه ديناميت قابل للانفجار، وشديد الإعجاب بذاته إلى حد الزهو، لهب يريد أن يبعث في الإنسانية فكرا جديدا، إنه الفيلسوف الذي سيولد من جديد، يُدرس زرادشت في الجامعات والمؤسسات، وتخصص له كراسي، ينهض فكره حتى تنهض الأمم من سباتها، ينبعث الإنسان من الانحطاط نحو الزيادة في المعرفة والقوة، ساهمت فلسفته عن المرأة في إيقاظ النزعات النسائية في الغرب، وربما يكون من الفلاسفة الذين تعتبرهم الحركات النسائية أشد أعداء المرأة، كبرياء المرأة وطموحها أرغم نيتشه على طلب الزواج، والتوسل من المرأة الذكية، أجهضت رغبته في تجربة الزواج، وقضت على خفقان قلبه عند مشاهدتها، عشق من أول نظرة، سالومي بجمالها وذكائها سحرت نيتشه وآخرين، لكنها تركت جروحا غائرة في نفسيته، كبرياء المرأة وإرادتها في الاختيار نابعة من الشعور والتفكير في مواصفات الرجل الشريك، كان الفيلسوف يبحث في خصائص المرأة، فعثر على مجملها في سالومي، هام بعشقها وترك لها رسائل عدة، ورغب أن تجتمع الأرواح، زواج النفوس الحرة، طرق الحب هي الحرب، صراع نيتشه مع ذاته ومرضه ساهم في شفائه إيمانا منه أن الفيلسوف طبيب حضارة، يعني طبيب نفسه والآخر، وما يقدمه من دواء للإنسانية في معالجة أمراضها الخاصة بهدم الأصنام والقيم الراسخة والأوهام، نيتشه عالم فريد في أفكاره وفلسفته، لا يمكن فهمه كما يقول على ضوء حياته  وطفولته، لا ينبغي إسقاط أفكاره على سيرته الذاتية. 
يعبر عن زمنه بكل شاعرية، يغوص في الأعماق ويلتف نحو المرأة والرجل بصفة عامة، يلقى ضوء في خبايا الأشياء، ويكشف عن المستور بكل جرأة، يعطي الانطباع بصدق، صلابة كلامه تنم عن رغبته في الفهم واستخلاص الحقيقة، كان يبحث عن النموذج في الإنسان الكامل، وفي بناء العقول الحرة، تربى في حضن المرأة بعد موت أبيه وهو في السادسة من عمره، نعتقد أن تأثيره بالفيلسوف شوبنهاور كان واضحا في كره المرأة، التقليل من قدرتها واختزالها في الجمال والجسد يلغي بالفعل فكرها وذكاءها، ولا ينبني القول إلا على كلمات عابرة وتحليل غير دقيق لشخصيتها، المرأة فخ نصبته الطبيعة، لا يحمل الإنسان الأعلى قيم الضعفاء، ولا يخفق قلبه إلا للحقيقة الجلية الواضحة المبنية على الحياة، ولا يمكن فهم نيتشه في علاقته بالمرأة بالعودة للماضي، ولا للفشل الذريع في مسألة الحب والزواج، بل كيان نيتشه ينبض بالحياة، ويهيم عشقا بالمرأة، ويعكس نظرة أخرى للخصائص السيكولوجية وللسمات الثقافية والفكرية التي رغب نيتشه فيها، كان حريصا في البحث عن نوع من النساء حتى تلتحم الأرواح. 
بقيت الحكاية مستمرة عن نيتشه في العشق والجنون، وظلت أفكاره قوية، وشذرات الأقوال دالة على نقده الشديد للعصر والقيم الغربية، لكن الفيلسوف حذر كثيرا من اختزال أفكاره في مسار حياته، لأنه فرق بين ذاته وكتاباته، ويجب أن يعاد قراءته على ضوء ذلك. فلا يعني أن الحب كان سببا في نهايته وجنونه، تفكيره الخارق وعزلته الصعبة، مزاجه المتقلب، رهافة العواطف والمشاعر، أحلامه في البحث عن النموذج المثالي في الإنسان، صداع في الرأس وألم لا ينتهي، الإخفاق مرده لأسباب لا نفهمها أو للحظ العاثر مع النساء لما يحمله نيتشه من تناقضات بين الظاهر والباطن، والمرأة التي رغب الزواج بها كانت مثقفة، قهرت الكثير من المثقفين في زمنها وكانت أشد إلماما بعلم النفس وفهمها كذلك للرجل وطبائعه. رسائلها مع نيتشه ووصفها إياه من خلال سيرة حياتها دليل على قدرتها في الوصف والتحليل، وبقي الإعجاب بنيتشه صديقا وليس شريكا.