نيتشه ومنبع الفلسفة

الفيلسوف الألماني كان شديد الإعجاب بالمعلمين القدماء، شديد التأثر بالحكيم هيراقليطس لذلك اعتبر الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي منبع الفكر النقي والأصيل.

إذا كانت الفلسفة في تاريخها الطويل عرفت ميلاد أنساق فلسفية وتصورات عن مختلف القضايا المركزية، من الوجود والمعرفة والقيم، فإن الأصل يشكل نقطة جوهرية في كل قراءة أصيلة عن منبعها ونشأتها، من منطلق أن الأصيل يبقى عظيما، ويحتوي على مكامن القوة والعظمة في ذاته، يستمر التفكير في النماء والتجديد، وعلى ضوء حقيقته، يطبع الأشياء والعقول بميزة تنقلب بموجبها المعرفة، ويطفو السؤال في صميم الحقيقة، وصوب فهم الإنسان والوجود، من هناك بدا التفكير الفلسفي، ومن هناك استطاع الإغريق هضم الثقافات الأخرى، عملوا داخل بيئتهم الغنية بما هو جغرافي طبيعي، وما هو ثقافي وسياسي، أن ينطلقوا بالتفكير الفلسفي نحو آفاق أرحب فصار كونيا وعالميا، شعلة تستنير بالعقل والخبرة لإزالة اللبس والغموض عن الغامض والخفي. قوة الأفكار في الجدة والأصالة التي تنم عن فكر خلاق في ميلاد هذا النشاط الذهني الذي تفنن فيه الحكماء السابقون على سقراط في السؤال والتفكير من قلب الطبيعة والوجود. هناك عناصر مادية وأخرى مثالية في المدرسة الملطية الأيونية والمدرسة الفيتاغورية والمدرسة الذرية.

 الكم القليل من الكتابات أعطى كما من القراءات، والتفكير في دلالة الوجود، وما يحمله من تناسق ووحدة، عودة للنبع الأولي من انبثاق التفكير الفلسفي، وانبثاق لحظة الدهشة، والسؤال من قلب الطبيعة وأحضان الوجود. هناك تقابل بين الكائن والكينونة، هناك تناقض بين الثابت والمتغير، وبدون أدنى شك، ميلاد الفلسفة وخطاب "اللوغوس" وانتشاله من سيادة وهيمنة خطاب "الميتوس". التفرد والتميز الذي تفنن فيه الحكماء السبعة، وعلى رأسهم طاليس الملطي، قراءة في المضمون والتحليل لمعطيات الفلسفة السابقة على سقراط تحمل بذور الولع بالوجود والطبيعة والتفكير مليا بعيدا عن أشعار هوميروس، والنزعة الأسطورية المغلفة بالقصة والحكاية عن القدرة الخاصة بالآلهة وضعف الإنسان، بعيدا في أهداف وغايات الإنسان من الإقامة والسكن في الوجود بلغة حية، تنبض بالحياة والحيوية، لا يتعلق الأمر هنا بتأملات "هايدغر"، لكن بالفيلسوف نيتشه، هذا الفيلسوف السقيم الذي يحمل في أعماقه نبل الفكرة، هذا الكائن الرقيق المشاعر، المفرط في إنسانيته، ديناميت، يحمل صورة لذلك المكان بما يفيض منه من عباقرة الحكمة، كان هؤلاء الفلاسفة جديرين بالاحترام والتقدير لأنهم صنعوا من الواقع أفكارا، عملوا على استنطاق الصيرورة والحقيقة، انغمسوا في التفكير والتأمل، وشدوا عن القاعدة السائدة في التفكير المشحون بالسياق الأسطوري وخيال الشعراء، المعلمين الأوائل كما يسميهم نيتشه، وهم على الترتيب من حيث القيمة والأولوية، لأن نيتشه وضع نفسه ضمن إطار يضمن الاستمرارية والتغير، يضمن التبدل الحاصل في الأفكار والمشاعر، كل الأشياء صائرة ومتغيرة، والعالم لا يحتاج لرسم  طرق الحقيقة والوجود على خطى بارمنيدس أو خطى امبادوقليدس.                                                          

يستدعي العالم قراءة في أفكار الفيلسوف هيراقليطس، كل صيرورة بمثابة التحرر من الوجود الثابت والأبدي، وحدة الأضداد وصراع المتناقضات، فكرة أصيلة تتولد منها الصيرورة، وتتبدل الأشياء، فلا وجود للسكون والثبات، الصيرورة مع النشوة والمرح والانسجام والتناغم نتاج الأضداد، والعالم نار حية دائمة البقاء، فلا يحتاج الوجود للتقسيم بين عالم فيزيائي وعالم متافيزيقي، كل الأشياء التي تبدو ساكنة على عكس ذلك يسكنها التغير والنمو، العالم واحد يتميز بالصيرورة والتغير، كل الأشياء قابلة للدوران والتحول، قريبا من فكرة العود الأبدي، كل الأشياء في حالة تبادل مع النار، هناك بداية وصعود ونمو وفناء. فكل الأشياء تتلون وتتغير تبعا لمنطق خاص بالصيرورة، وليس تبعا لمنطق ديني أخلاقي، يعني العناية بالوجود العيني، والعناية أكثر بالإنسان، ولذلك نعثر على تأويل رائع تفرد فيه نيتشه للمعلمين الكبار من قدماء اليونان، ما قبل سقراط. إنهم الحكماء الذين ينتمون إلى "جمهورية العباقرة" كما قال شوبنهاور، لا يمكن أن يقلل منهم الأقزام أو ذوي المعدن الهجين من الأقزام وذوي الخبرة القصيرة في ميدان التفلسف.                

كتب نيتشه كتابه " الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، حاول قلب الفلسفة الأفلاطونية، وصف أفلاطون بالهجين وكرس نقده لكل ما هو مثالي وميتافيزيقي محاولا أن يكشف قيمة الكائن والكينونة من خلال تفسير يولي قيمة للقيم والمعنى، القيمة بناء على فكرة التراجيديا والجمع بين ديونيسوس وابولون . كل ما نصفه ونفهمه بالوجود هو حركة أو صيرورة، هناك قانون كلي دقيق ومحكم يسري على الموجودات، يسري على الطبيعة والعالم، منطق فكري يحرك كل العناصر الموجودة في العالم، وحدة العالم الظاهر هو الوجود، عالم ديونيسوس يعبر عن اللذة والنشوة والألم، وعالم أبولون يعبر عن الاعتدال، قوتين متناقضتين ومتصارعتين، تلك معنى الحياة ومعنى الوجود في عالم ينشد فيه الفيلسوف نيتشه الامتلاء على خطى هيراقليطس، ليست اللذة شرا ولا يتصور الألم كذلك، هناك وحدة للأضداد الذي يتولد عنها الصيرورة والتغير، إنك لا تستطيع أن تسبح في النهر مرتين لأن النهر ببساطة دائم الجريان، وكل ما في الوجود يصيبه الانسياب، والحقيقة نسبية تقاس بمقياس التحول والقيمة، الاختيار هنا يتأسس على القيمة والفائدة. فالحمير لا تختار الذهب على الشعير أو التبن، ينتهي نيتشه مدافعا عن الصيرورة، وميلاد التراجيديا إلى قلب القيم، تعرية قيم الانحطاط التي تسود الغرب من جراء هيمنة الأفلاطونية والمسيحية، تفلسف الإغريق في الزمن التراجيدي بمثابة تنقيب عن المعنى، ورؤية في الحياة المفعمة بالقيم الثابتة من مخلفات الميتافيزيقا وتأملات فلاسفة الأخلاق والمنطق، لا وجود في الحقيقة سوى وجود الصيرورة، ولا تحتمل الصيرورة الثنائية على خطى أناغاكوراس أو خطي بارمندس، مهمة الفيلسوف رسالة أمل في الوجود، رسالة عشق بنبرة صادقة مفعمة بغريزة الحقيقة التي تثير السؤال عن علاقة الوجود بالموجودات، وكيف يحيا الكائن في واقع يتميز بالانسياب والتغير، أن نمنح للحياة معنى وقيمة، لا نسيجها بالقيم المثالية أو التي تعكس عالم المثل وعالم المطلق، ومبادئ العقل الخالص، اللعب والمرح والشعور بالمتعة والابتهاج، كل ما يبهجنا حتى لا نكتوي بنار العدم، هذا المعطى المبهم يصيبنا في نفوسنا ويزرع فينا البحث عن المجهول، ويجعلنا نقيم التضاد الدائم بين الوجود واللاوجود، وبين الخير والشر.                                           

الإغريق بهذا المعنى صنعوا حضارة بنظام سياسي وجغرافي، وبيئة مترامية الأطراف، جعلت منهم عباقرة يفكرون في ظل الصعوبات الطبيعية، وقلة المواصلات، فكانت كل مدينة بقيمها وألهتها وتقاليدها فخورة بتكريم الفيلسوف وليس إدانته، هناك قانون صارم يشيد بالفلاسفة أو كما يقول نيتشه لدى الشعب الإغريقي حكماء ولدى الشعوب الأخرى قديسين، لا يجعل الإغريق من الفيلسوف مذنبا، يمنحونه الشرعية، ويرفعون من مقامه، طاليس أول الفلاسفة، من فكرة غريبة بدأت الفلسفة كدهشة عظيمة من الوجود والموجودات، كانت فكرة المبدأ الواحد، الماء عنصر طبيعي مفسر لأصل الأشياء، المبدأ نابع من سلطة معرفية وقناعة المعلم في تحويل الكثرة والتعدد إلى مبدأ واحد، فكرة غريبة لأنها لم تكن تعني شيئا للكثير من الناس سوى أنها لا تعكس ما هو قائم من أفكار خرافية وأساطير تشحن الذهن، وتعلي من بطولات ومغامرات الآلهة، عشق الفيلسوف نيتشه للمعلمين القدماء عشق للفلسفة في بعدها الوجودي الخاص بالوجود والموجود، فلسفة نابعة من واقعهم وعشقهم للفنون والألعاب، مولد التراجيديا من الموسيقى، المأساة بالوجود، ومن خلال الرهبة واللذة والنشوة، الرهبة والخوف لا يعني الركون والتخلي عن الحياة، بالألم والمعاناة تتحول إلى لذة، هكذا يقتفي الفيلسوف نيتشه معالم التفكير الفلسفي السابق على سقراط، يعتبره أصيل، ومنبع الكلمة والحكمة، ولو كان موقفه ينطوي على المفاضلة بين الحكماء من حيث القول بالصيرورة أو نفيها، بارمنيدس الإيلي، فيلسوف الثبات القائل بالوجود الثابت، والذي قابل بين الوجود واللاوجود، حدد طريق اليقين والحقيقة وطريق الظن والشك، اختيار واضح للعقل واستبعاد للحواس، التقابل بين الوجود واللاوجود، العدم لا نتعلم منه شيئا، طريق العدالة والحقيقة التي تأتي بفضل العقل والتأمل في المجرد، حكمته واضحة، يسوقها نيتشه في شذرات بعنوان "في الطبيعة"، كذلك يمنح نيتشه قيمة في تحليل أفكار اناغساكوراس، ويعتبر هذا المعلم امتداد لفلسفة بارمنيدس، ومخالفا لأفكار هيراقليطس واناكسمندر في القول بالتعددية، كل شيء يولد من شيء آخر، وتبنى المذهب القائل " إن كل شيء يولد من كل شيء"  الولادة من الطبيعة، والعالم عبارة عن كتلة من الأشياء الدقيقة اللامتناهية في الصغر، وبالتالي حسب نيتشه، لم يستخلص التعددية من الوحدة، ولا الوحدة من الصيرورة .                                                                     

يلتف نيتشه على أفكار المعلمين القدماء، ويبسط النقد العنيف بمطرقته كما العادة على الفكر الذي ينساق وراء المجرد ويتعالى على الحياة، ولا يقول بالصيرورة والتغير، وحده العالم الظاهر هو الوجود، دونية الفلاسفة من أمثال سقراط وأفلاطون وكانط، أنهم قللوا من التغيير والتحول، فكانوا يبحثون عن المجرد في عالم مفارق للطبيعة، عالم الكمال والمطلق والحقائق السرمدية، هيراقليطس صاحب مذهب، الفيلسوف الباكي الذي قيل عنه أنه كان مزهوا بنفسه، وكان متعجرفا ومنعزلا، هذا لا ينفي حسب نيتشه أنه صاحب موهبة فذة في مجال التفكير الخاص بالوجود، ومجال القول بالمبدأ الواحد هو النار، والصيرورة من خلال المعاينة للحياة، وما تحمله من تناقضات جمة . كل الأشياء يحكمها منطق الظهور والاختفاء، الصيرورة تتضمن قيام الأشياء وفنائها، الإنسان محكوم بالحياة والموت، فلا مفر من الصراع باعتباره قانونا يؤدي للتناغم والانسجام، والصيرورة لا تحدث إلا طبقا لنظام طبيعي، والعالم يتميز بالتغير والانسياب، لا تظل الأشياء على حالها، كل الأمور محكومة بجدلية الصراع ووحدة الأضداد، ومن كان يعلو نظره القصور والضعف عليه التأمل أكثر في الوجود والحياة . جوهر الوجود الحركة الدائبة والمتواصلة، كل الأشياء تحمل في داخلها النقيض، العالم يحكمه قانون يسميه "اللوغوس" والأشياء تتحول وتتغير.                                                             

كان نيتشه شديد الإعجاب بالمعلمين القدماء، شديد التأثر بالحكيم هيراقليطس لذلك اعتبر الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي منبع الفكر النقي والأصيل، هذا النوع من التفكير يمكن أن يضاعف من تعب الحضارات الأخرى، يصيبها بالمرض والهزال، يجب أن تكون الفلسفة مالكة لكل حقوقها المشروعة، وعندما نتفلسف يحب أن نكون أولا سعداء لا تعساء، نشتكي من كل الأشياء، نلقي اللوم على الآخر، دور الفلسفة وقيمة التفكير الفلسفي خاص بالشعوب المتعافية، لا مكان للفلسفة عند الشعوب المريضة، بذلك قال نيتشه في كتابه " الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" عن مضمون وقيمة الفلسفة، والتفلسف على خطى قدماء الإغريق من الحكماء السبعة: "إن الفلسفة لخطيرة حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها، وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب، ولكن ليس مطلق شعب". تفلسف الإغريق فكانوا مسلحين بالبهجة والسرور، منحت لهم الطبيعة القدرة على الفعل، والتجاوز لكل عائق طبيعي، اندهشوا من الوجود، وراحوا يتفلسفون، ويعبرون عن أسمى مشاعر الغبطة والامتلاء، تعبر أخلاق اليونان عن التراجيديا بالمعنى الخاص لدى نيتشه عن الأفق المجهول، مقاومة للموت والألم، وممارسة اللذة والشعور بالنشوة، سيطرة الروح الديونيسوسية كإقبال على اللذة، والأسطورة هي مادة التراجيديا، وخصوصا الملاحم والأشعار، انتصار للحياة والغريزة والعاطفة الجارفة، والفن التراجيدي، يجعل الإنسان يقبل على الحياة، لذلك قال نيتشه في كتابه " هذا الإنسان" عندما أراد أن يعرف ذاته باختصار "أنا تلميذ لديونيسوس" يفضل نيتشه كذلك أن يكون مهرجا على أن يكون قسيسا . ديناميت ولهب يصيب ذات القارئ في وجدانه وتفكيره من شدة الصراحة وصدق الكلمة والوجدان، امتداد للمعلمين القدماء خصوصا هبراقليطس، فيلسوف الصيرورة والتغير.