ألكسندر دوغين فيلسوف روسيا

علاقة بوتين والفيلسوف دوغين الداعي لبعث روح القومية الروسية يمكن اعتبارها التقاء في الأفكار ونقطة تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ويمكن اعتبار هذا الالتقاء إعادة نظر في الجغرافية السياسية وتشكيل عالم متعدد الأقطاب بإرادة الحضارات على أساس الاحترام والتنافس ومجابهة المشروع الغربي الراغب في احتواء روسيا والصين.

الشعب الروسي كما قال الفيلسوف نيقولاي برديائيف في كتابه "فلسفة اللامساواة" ليس شعبا أوربيا غربيا، هو، على الأغلب شعب شرق أسيوي بتركيبة متعددة يتقاطع فيها الشرقي مع الغربي، في رسائل الفيلسوف إلى زعماء الثورة الروسية، تتضمن ما يعتبره قضايا جوهرية تتعلق بوحدة المصير وبقاء الأمة الروسية بقيمها النابعة من الثقافة والتاريخ، الأمة كما قال جسم عضوي لا يمكن محوه بمجرد اعتناق نظرية معينة، ويمكن هنا تتبع الأفكار في عمقها ودلالتها عن رغبة الفيلسوف الواعية في عودة الروح للثقافة الروسية ما قبل هيمنة النظريات الغربية، كالشيوعية والليبرالية والفاشية. رسائل للثوار تشير لما يحمله المفكر الروسي من مواقف وتأملات في العودة نحو الأصل والتاريخ. الأمة لا تُعرف بالسيادة ولا بالدين أو العرق فقط، الأمة هي المحافظة مع التجديد، هي العودة نحو الماضي والنظر بعيدا للمستقبل، نهاية روسيا وانطفاء الروح يعني سيادة الاستبداد وعصر الانغلاق، بحيث تصبح روسيا أسيرة أفكار جديدة نمطية ونهائية. فالشيوعية كنظرية ظلت توجه الخطاب للعمال والفلاحين، نظرية في جوهرها مادية، مركزها العامل الاقتصادي والصراع الطبقي، ونهاية الملكية الخاصة، والليبرالية نمط من التفكير وأسلوب خاص بفئات معينة من الطبقة المثقفة، أما الجماهير الواسعة هاجسها تحقيق العدالة أكثر من الحرية الفردية، شروط بناء الفرد داخل شروط اجتماعية وثقافية، الفرد وحدة ضمن المجموع الكلي، أما الميتافيزيقا الديمقراطية الغربية فقد أصبحت خطرا على الأرستقراطية، عندما يصبح هذا النظام مدافعا عن القلة أو يكرس للأغلبية المطلقة. فالطبيعة الإنسانية الخيرة كما قال المؤرخ الروماني شيشرون هي الصانعة للعدالة، روح الشعوب تصنع القوانين المناسبة والملائمة للهوى والتفكير، فلا يمكن أن تكون هذه الأنماط السياسية والاقتصادية صالحة للكل أو يمكن تعميمها على باقي الحضارات. العالم اليوم أقطاب متعددة. طموح الفيلسوف بناء الدولة الروسية لما بعد الشيوعية بهوية سلافية وقيم أرثوذوكسية، يعني الربط بين الدين والقومية.

من يقرأ كذلك في كتابات الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار معالم النظرية السياسية الرابعة، نظرية الثورة وتصفية الاستعمار، نظرية في أبعادها الثلاثة: الجيوسياسي والأمني والاقتصادي، ضد النظريات الغربية، إنها ملامح روسيا الأوراسية، طموح الفلاسفة الروس تلتقي ورغبة السياسيين في العودة بروسيا إلى منبعها الأصلي وتاريخها البعيد والقريب، روسيا العظمى التي تضم الأطراف المجاورة، القرم والجزء الشرقي من أوكرانيا، روسيا العظمى بعلاقات متعددة مع دول الجوار، من دول آسيا الوسطى، منفتحة على الحضارات، تتضمن النظرية مجموعة من التحليلات والتصورات والنتائج في مجال الجيوبوليتكا في تفسير مختلف الظواهر السياسية، والربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، ملاح روسيا الأوراسية بهويتها الفعلية، لا ينبغي لروسيا أن تتحرك لوحدها، ولا يمكن أن تكون ذيلا للغرب، أحادية القيم وتعميمها من دعاة العولمة المتعصبين للفكر الليبرالي والقطبية الواحدة. الغرب ليس صديقا وليس حليفا، يرسم الغرب لذاته خطوطا ومواقف، يحدد الأهداف من التحالفات، يدخل في حروب وصراعات دون ردع للقوانين الدولية، كما تسخر أميركا المنظمات الدولية في تبرير شرعية عملها، وتعارض بالفيتو ما يخالف مصالحها الحيوية، قواعدها موجودة في العالم وسفنها تعبر المحيطات ومؤسساتها المالية ترغم الدول على اختيارات تناسب أهدافها.

الاستقرار والعظمة تعني الارتباط بالماضي، القيم الأرثوذوكسية، ومنطق التاريخ يفرض نفسه على الكل. فالعالم لا يبقى على حاله، هناك تغيير يصيب المجتمعات، تتوهج الروح وتندفع الأمم نحو صيانة ذاتها من الاختراق الكلي والذوبان، الفيلسوف دوغين منظرا وبوتين منفذا، دون أن يكون الفيلسوف بالقرب من السياسي أو مستشاره مباشرا له، لكن الأفكار تتطاير ويلتقطها الزعماء عندما تتطابق وطموحات السياسي، تنسل وتستقر في الوجدان والوعي الذاتي. ما تنطوي عليه الأفكار من مضامين تعيد للروح وهجها، وتبعث الوعي من جديد نحو آفاق أرحب من العمل لأجل روسيا الأوراسية الممتدة أطرافها بين الشرق والغرب، بعيدا عن ثقافة الاستهلاك وتغلغل الليبرالية، وبعيدا عن المادية الفجة والنظريات الغربية التي هيمنت على الفكر الروسي.

يرغب الفيلسوف دوغين في العودة للماضي نحو القيم الأصلية، يرغب في قيصر جديد بمرآة العصر. فالقيم الغربية الليبرالية لا علاقة لها بالثقافة الروسية، ولا بالثقافة الكونفوشوسية الصينية أو الإسلامية، هكذا يقر الفيلسوف بتعدد الحضارات والثقافات، يرغب في التعايش والتجاور. طريق الغرب واضح في الفكر الليبرالي وسياسة العولمة، هذا التعميم للفكر الأحادي نتج عنه العداء المستمر بين الحضارات المناهضة للغرب، في العالم يقبل الناس التبادل والتواصل، يرفضون القيم البديلة بطرق تعسفية لأن روح الإنسانية مفعمة بالحرية والرغبة في التحرر من العبودية والاستعباد، لا يمكن أن يكون دعاة العولمة ونهاية التاريخ مقررين بديلا عن الثقافات الضاربة جذورها في التاريخ، روسيا والصين تمثلان الموقف المضاد، وتشكلان نوع من الموازنة في القطبية الدولية، مواقفهم تمثل نقطة تحول في النظام العالمي، نواياهم المعلنة إعادة رسم العالم وفق الخرائط السياسية والاقتصادية، يمكن للصين أن تقود العولمة الاقتصادية والتجارية عن طريق مبادرة "الحزام والطريق"، والربط المتين بين الشرق والغرب.

لازلنا نعيش على مخلفات القرن العشرين، قرن الإيديولوجيات والحروب الضارية

بداية انتفاضة على القيم الغربية لأنها غير شمولية وليست مطلقة، روح الحضارة منبثقة من الفكرة الدينية ومن التاريخ والقيم، أميركا ليست بمنأى عن العودة نحو الأصل، نحو القرن السابع عشر وهجرة الغربيين نحو العالم الجديد، وبناء أولى المستعمرات للرجل الأبيض. كتابات "صمويل هنتغتون" والبحث عن الجذور والبدايات الأولى التي نقلت الإنسان نحو هذا العالم المتعدد التركيبة السكانية، مجتمع المهاجرين والحالمين الذين أصبحوا جزء منه. خصائص المجتمع الأمريكي القائم على القيم البروتستانتية والديمقراطية كنظام للحكم، لكن تبين مؤخرا مدى الصراع الداخلي التي تعيشه أميركا بين القوميات، والصراع الحزبي، ونظرة الأطراف للأزمات العالمية ولمستقبل أميركا وثقافة الرجل الأبيض. صراع على الهوية ينهي الوحدة ويؤدي لانقسام في النسيج الاجتماعي مما يقوض من دعائم المجتمع الذي بني على الحرية الفردية والفكر الليبرالي ومبادئ الرأسمالية. فالسياسة الخارجية الأمريكية ساهمت في تأجيج صراع الحضارات والقوميات الرافضة للذوبان، آراء ومواقف تطالب أن تكون العولمة منصفة، والعالم متعدد الأقطاب، والقانون الدولي الحكم في الصراعات والنزاعات مع احترام خصوصية الشعوب، ومن هنا جاءت الدعوة للتعايش والتلاقح. النازيون والفاشيون والقوميون الجدد، ودعاة هيمنة الإمبراطورية مقابل الملوك الخمسة وباقي العالم، وأصحاب فكرة الاستبدال. هؤلاء يؤمنون بالقيم الليبرالية، ولا يؤمنون بقيم الآخر، يتبادلون السلع والبضائع والمنتجات، يرغبون أن يكون عالمهم خال من حضور الثقافات الأخرى، يرفعون شعار الحرية الفردية والمساواة، وبالمقابل ينتجون خطاب مضاد للآخر، يمكن توصيفه  بخطاب الاستعلاء والدونية.

لازلنا نعيش على مخلفات القرن العشرين، قرن الإيديولوجيات والحروب الضارية، لازالت هناك إيديولوجيات الاغتراب والنظرة الأحادية للعالم، ما ينتقده  ألكسندر دوغين في الغرب هي النظرة الاختزالية والتسرع في تحيل النتائج دون قراءة عميقة لمنطق التاريخ، هيغل الفيلسوف الألماني في كلامه عن الروح ومسارات الحرية اعتبر أن العالم يدخل في خطة مشتركة للتغيير بالتدرج حتى الاكتمال. فالكل يشارك في عقل عالمي، ويدفع نحو التغيير، وإحلال القيم الإنسانية المشتركة، السياسية الغربية توحدت في النظر إلى الآخر من منطلقات أيديولوجية، أصبح الفرد عبدا للسوق ورقما في الاستهلاك، ومنفذا لسياسة الإملاء، العالم الآخر يعاني من الاغتراب والاستلاب، هناك حروب تصيب أفريقيا واسيا كالحرب في العراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان، والحروب التي نالت من شعوب كالفيتنام. فالخروج من هيمنة أميركا والفكر الليبرالي السبيل نحو عالم متعدد الأقطاب، يعني الخروج من الفكر الأحادي نحو التعددية.

الليبرالية نوع من البلاء حسب الفيلسوف دوغين، نتاج فلسفة القرن الثامن عشر في نسختها الأصلية عند الانكليز والفرنسيين، طابعها العام تحرير الفرد من كل أشكال القهر والاستبداد، والليبرالية في نسختها الجديدة تحاول السيطرة على النظريات الأخرى، وتريد الهيمنة على العالم وتستبدل قيمه، متطرفي العولمة والأطلسيين من الذين يعتبرون أن العالم انتهى بنهاية الاتحاد السوفياتي ونهاية الشيوعية والأنظمة الفاشية الحديدية. إنها تبشرنا بالرخاء الاقتصادي والتجاري وتجعل العالم قرية صغيرة، هذه القيم الغربية وحسب فلاسفة روسيا غير إلزامية، ولا تتطابق وروح الثقافة الأوراسية وفلسفة روسيا الجديدة، يطبقها بوتين كاملا أو جزئيا لكن يبدو من خطابه أن هناك كراهية للغرب ويصفه بإمبراطورية الأكاذيب، يتنصل هذا الغرب من كل الالتزامات ولا يعطي ضمانات لأمن روسيا وبالتالي من حق روسيا كما يقول أن تبادر في حماية أمن شعبها ووجودها بكل الوسائل والأدوات ولو اقتضى الأمر استعمال السلاح النووي. روسيا نقيض للغرب، ثقافتها الأوراسية صمام الأمان لاستمرار الوجود ككيان يجمع بين وحدة القيم ووحدة المصير، رؤية الفيلسوف للتخلص من الوعي الاستعماري والنفور من نزعة التفوق لدى الغرب. فالواقع الغربي لا يكس جملة هذه المخاوف خصوصا الطرف الغربي الأوروبي الذي يدخل في شراكة اقتصادية مع روسيا، هناك تساؤلات تنصب عن روسيا كدولة أوروبية وأخرى تشير إلى شخصية بوتين ورواسب أفكاره ومخططاته الآنية، إن كانت هناك تناقضات بين العالمين، فمن الصواب أن تكون المنافسة اقتصادية وسياسية على شاكلة الحرب الباردة دون أن تتورط القوى الكبرى في الحروب المباشرة، مخاوف الطرف الغربي في تزايد والحرب الدائرة في أوكرانيا تفسر بالتوسع تحت دوافع التاريخ المشترك والحق في جزء من أوكرانيا. علاقة الفيلسوف بالسياسي ليست كلها وردية وهادئة، ما يبتغيه الفيلسوف لا يرغب فيه السياسي، الحكمة في مقابل القوة، التنظير مقابل الفعل، من التاريخ، علاقة أرسطو بالأسكندر الأكبر وحروب الأخير في الشرق، حلم أفلاطون في إقامة الجمهورية العادلة والسفر إلى صقلية، الفيلسوف سينيكا والطاغية نيرون، وكيف انتهت حياة الفيلسوف منتحرا، وهناك أفكار الفيلسوف نيتشه واستعمالها من قبل هتلر عن إرادة القوة. أما علاقة بوتين والفيلسوف الكسندر دوغين يمكن اعتبارها التقاء في الأفكار ونقطة تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.                                    

على العموم يمكن اعتبار دوغين وبرديائيف من الفلاسفة الملهمين للفكر السياسي في روسيا اليوم، ويمكن اعتبار هذا الالتقاء إعادة النظر في الجغرافية السياسية، وتشكيل عالم متعدد الأقطاب بإرادة الحضارات على أساس الاحترام والتنافس، ومن الخطوات الأولى مجابهة المشروع الغربي الراغب في احتواء روسيا والصين، وذلك من خلال بعث روح القومية الروسية. الفيلسوف يقترح وينظر والسياسي يطبق ويصدر الأوامر، ولا ندري تبعات الحرب ونهايتها. ندرك الخراب والتدمير للحضارة والإنسان معا، ونعي ذلك التناقض الدائم بين الحكمة والقوة.