الإغريق والفلسفة

قراءة الأفكار والمواقف الخاصة بالمؤرخين الغربيين تحيل الى أن الفلسفة يونانية الأصل ولا يعني ذلك التقليل من حضارة الشرق ونكران فكرة التلاقح والالتقاء بينهما.
نشأة الفلسفة بالاعتماد على نظرة عميقة بين الإنسان والطبيعة
الإغريق يمنحون وجود الفيلسوف شرعيته

يمكن اعتبار العنوان مدخلا أساسا للبحث في الأصل والنشأة من منطلق المواقف الفكرية عن أصول الفكر اليوناني، وعلاقة اليونان بالحضارات الشرقية. علاقة قرب جغرافي من الضروري أن تعطي مؤشرات ودلالات عن التأثير المتبادل بين الحضارات، هنا يتدخل المؤرخون من أجل الإنصاف، أو من أجل التحيز بالقول تارة، أن الفلسفة إغريقية الأصل والمنشأ أو بالقول كذلك أن هناك رواسب من الأفكار موجودة لدى الحكماء، ومن أولئك الذين زاروا الشرق وعاشوا بالقرب من ثقافته. فالحضارة كما يقول هيغل بدأت من الشرق وانتقلت نحو اليونان، ومن ثم نحو الغرب.
فلا توجد حضارة منغلقة على ذاتها دون أن تكون هناك علاقات متبادلة في جوانب أخلاقية وفكرية.
 فمن قراءة الأفكار والمواقف الخاصة بالمؤرخين الغربيين من أمثال ول ديورانت وجون بيير فرنان وغيرهم تبدو الفلسفة يونانية الأصل، ولا يعني التقليل من حضارة الشرق ونكران فكرة التلاقح والالتقاء، الشرق غني بتراثه وقيمه، لكن نمط التفكير في الشرق ممزوج بين الرؤية الدينية والسحرية للعالم، وهيمنة سلطة الفرد الواحد من الناحية السياسية وطغيان الجماعة أو العائلة على المستوى الأخلاقي والقيمي عموما، وغياب فكرة الحرية الفردية. 
ميلادها في القرن السادس قبل الميلادي في مدينة "ميلتوس" على ضفاف آسيا الصغرى، نشأت الفلسفة بناء على نظرة عميقة بين الإنسان والطبيعية، وبين النظرة العلمية للعالم، والعبقرية الفذة للحكماء الذين وضعوا مبادئ جديدة في الأصل، وذلك الانسجام بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية .                                                                                            
 جاءت عبقرية الحكيم طاليس في إرجاء الكثرة والتعدد إلى مبدأ واحد وهو عنصر الماء، بمعنى تفسير الطبيعة بعللها وأسبابها والأشياء الكامنة والظاهرة فيها، المحدد واللامحدد، قوة التفكير ايجابية وصلبة لانتزاع طابع القداسة عن كل ما يتعلق بالآلهة ومغامراتهم الخارقة، منزلة التفكير الفلسفي لا يخلو من عبقرية علمية في سبيل التفسير المنطقي للأشياء، وفي سبيل تغيير الفكر نحو الأفضل، إنها دهشة كبيرة بالتعبير الأرسطي، بداية انكشاف الحقيقة لذاتها وراء ركام من المعارف الغامضة والمبهمة، إنها التعبير الصريح عن عالمنا الذي بدأ يتجلى بالفكر العلمي والتأمل الفلسفي دون الانجرار نحو الخرافة والتفسير الأسطوري، إشاعة الوحدة والانسجام بين الإنسان والطبيعة، الإحساس بالوجود يولد في الفيلسوف الرغبة نحو التجريد والفهم العلمي للأشياء.
 كانت الفلسفة ولازالت في سعي دائم نحو البحث عن الحقيقة وليس امتلاكها، نيتشه فيلسوف المطرقة الذي تماهى كثيرا مع الفكر اليوناني السابق على سقراط وأفلاطون يشير أن الروح اليونانية جمعت بين المرح والاعتدال أو بين الروح الأبولونية والروح الديونيسوسية ، هضموا الثقافات وتعلموا كيف يحولون هذه الثقافات إلى عصارة جديدة تولي أهمية للحياة، الفيلسوف اليوناني كما يرسم ملامحه نيتشه مسافرا وحيدا يمشي صدفة في وسط معاد، والإغريق يمنحون الفيلسوف شرعيته دون نواقص أو خوف منه، نقاء خالص من التفكير في الوجود وتأملات ترمي نحو رسم أفق جديد، مسار يتجه فيه التفكير نحو تكريس معالم الروح اليونانية التي رسخت الشعور الواضح بالحضارة والانتماء، الحرية أسمى المفاهيم والإنسان مقياس كل الأشياء، والحكمة تفيض بالمعاني والعبر التي تزيل الغموض واللبس عن العالم وترفع الفكر نحو السمو والتجلي.
سيطرت على الفكر اليوناني خصوصا في لحظة الحكمة مجموعة من الآراء بصدد الوجود والطبيعة، لعل أبرزها  كما يشير لذلك الفيلسوف العربي عبدالرحمان بدوي في كتابه "ربيع الفكر اليوناني" تلك الوحدة بين الداخل والخارج أي الوحدة بين الإنسان وذاته، والتناغم بين الإنسان والطبيعة، وحدة الأشياء وصراع الأضداد وفكرة الثبات والصيرورة والقول بالضرورة أو تلك القوانين التي يسير عليها الوجود، وكل ما يرسمه هذا القانون تحت اسم اللوغوس، كذلك فكرة الانفصال والاتصال، والتقابل بين الحب والكراهية، هذا المبدأ الخلاق الذي يوجد في الطبيعة، ويرمي فيه الإنسان نحو التأمل لإدراك الحقائق والجواهر، فكرة لا تخلو من عبقرية فذة، ونظرة شمولية للعالم المليء بالألغاز والأسرار.
 إنها الدهشة التي اعتبرها شوبنهاور نوع من الحيرة والقلق الوجودي الذي يساور الفيلسوف ويشده نحو فهم الصيرورة والتغير، دهشة من الأمور الفلسفية والميتافيزيقية، إنها الدهشة التي أزالت الغرابة عن العالم وطابعه القاسي عندما جعلت من المبادئ الأساسية نقطة تحول في فهم الطبيعة والنظر للأشياء بعيون منطقية وحدسية، ولو كانت المبادئ مادية فهنا تتجلى حكمة اليونان الأوائل وعبقريتهم في نشأة الفلسفة عند الثبات على المبدأ الواحد.
 حكمة طاليس قادت مجموعة من الحكماء إلى اختيار مبادئ من الطبيعة، والتقابل بين الوجود واللاوجود، وبين الصيرورة والثبات، محاولة ذكية لفهم قانون العالم .
 لم يكن الحكيم هجين بتعبير نيتشه في المزج بين الآراء واللعب على الألفاظ والكلمات لنقل الحقيقة من الواقع وسياق الحياة نحو عالم المثل والمقصود هنا أفلاطون، من فكرة غريبة تفلسفوا وجعلوا من الطبيعة موضوعا، ومن الوجود أساسا للفهم، إنهم يمنحون للحياة قيمة، يجمعون بين الجمال والتناسق وبين الحكمة والمعرفة واللعب، رفعت الفلسفة من قيمتهم، دخلوا التاريخ فصاروا معلمين، فكانت مواقفهم بالفعل تعبير صريح عن حياتهم الواقعية.
 نال الفيلسوف الإعجاب والتقدير، فكانت كل مدينة تفتخر بحكمائها، كما يقارن الفيلسوف نيتشه بين ما يملكه اليونان من حكماء وعباقرة، وما يملكه الغرب من قديسين . الفيلسوف صديق الحكمة كما قال بذلك دولوز والقديس خنوع وضعيف أمام الحياة والغرائز .                                                                                                                    
 مجتمع المعلمين الأوائل الذين شكلت مغامراتهم الفكرية ولادة تفكير من رحم التأملات ، من الحياة الفياضة بالمتعة واللعب، من فكرة الاتساق والاعتدال، ولذلك بقيت الفلسفة قوية في اليونان، فلا يمكن الاتفاق مع نيتشه أن اللحظة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد شكلت انتكاسة أو تراجعا للتفكير الفلسفي بفعل أفلاطون في دعوته لعالم المثل، بل يمكن النفاد إلى جوهر الحياة الأثينية في هذا القرن، ونعاين ما يقوله المؤرخون عن ولادة نظام جديد في المدينة، والذي ساهم أكثر في نهضة فكرية وثقافية وسياسية، فانتقل الثقل الفكري من المدن المطلة على آسيا الصغرى إلى مدينة أثينا، ويمثل ظهور النظام الديمقراطي لحظة مميزة بفكر جديد يشكل نوع من الوحدة بين الفكر والممارسة، فكان الفضاء العام نموذجا فريدا في العالم القديم، هذا النموذج الذي شجع النقاش الحر والسجال الفكري، نتج عنه بناء دولة المدينة على مجموعة من المفاهيم كالعدالة والمساواة والقانون، كرس للثقافة وفن السياسة والبلاغة، وقدرة المتكلم على إتقان فن الخطابة والقول في مجال السياسة وداخل البرلمان، أشياء تنم بالفعل عن الحياة الاجتماعية والسياسية في القرن الرابع قبل الميلاد، لعل المؤرخ الفرنسي جون بيير فرنان في كتابه "أصول الفكر اليوناني" يوضح تلك العلاقة بين السياسة والمجتمع، وبين إيقاع هذه الحياة الأثينية ودورها في تكريس الفلسفة والتشجيع على التفلسف، أصول الفكر لا تمتد شرقا بل نابعة من التفكير الأخلاقي وتشريعات المشرعين اليونان، ومن إشاعة القوانين والحرية بشتى صورها 
الروح اليونانية التقطت الأفكار والثقافات، وعملت بالفعل على هضمها وإخراج المفيد منها، وما يتناسب والثقافة المحلية، حضارة اليونان فكرية بامتياز ، قائمة على عقلانية شمولية تعترف بالحياة وقيمتها، وتولي أهمية للوجود المادي والإنساني، ميزة التفكير الفلسفي غير منفصل عن الرؤية العلمية للعالم، ميزة الشعوب التواقة للحرية والتحرر من التسلط، فلا يبدأ التفلسف كما قال نيتشه عندما نكون تعساء، بل ما يجعل الإنسان فيلسوفا هو المرح والبهجة، فما يبهجنا هي رغبتنا في الحياة. فالفلسفة كما قال نيتشه يجب أن تكون مالكة لكل حقوقها، لا يمكنها أن تضمن العافية لشعب يعاني من القهر والاستلاب أو العافية للشعوب المريضة. إن الفلسفة تضاعف من مأساة هذه الشعوب التي تعيش الوهن وتصاب بالفقر الروحي والفكري، ولا يقوى الفلاسفة على منحها السلامة والعافية، قيمة الفلسفة في جوهرها، وما تحمله من قيم تعلي من الحياة والإنسان، والتفلسف فعل يذكي في الإنسان محبة الحكمة والرغبة في امتلاكها، إنها تناقض الجاهز، وترغب في الإجهاز عليه، لكنها بالفعل تتماهى والحياة المرحة، لا تتوغل الفلسفة كثيرا في الحقيقة، ولا تلبس الأخلاق المثالية والفكر الدوغمائي، لهيبها يصيب الإنسان فتراه ينزوي، ويترك أثرا في العالم بالخطاب الهادف، وما ينبغي أن يكون عليه إنسان المستقبل .                                                                      
رحلة الفيلسوف في دروب المعرفة والحياة مهمة حتى يحيا بالقرب من الناس على شاكلة الفيلسوف سقراط، من جهة الرغبة في تعليم الناس فن التفلسف وفن توليد الحقيقة من النفوس، وعلى منوال ما يرمي إليه نيتشه في ولادة الإنسان الأعلى على منوال زرادشت المبشر الجديد بقيم التفوق والنبوغ جاءت نتيجة تأملات من أعلى الجبال الباردة، ونتيجة ما تعانيه الإنسانية من قيم العدمية والانحطاط، حاملا قيم بديلة بإرادة القوة المفعمة بالعطاء والحيوية، هنا تكمن قيمة الإغريق الذين منحوا للفيلسوف قيمة، طاليس الحكيم الأول عرف بالفعل كيف يصيغ سؤالا فلسفيا عن أصل الأشياء، تحرر من سلطة "الميتوس"، وهام في تأملات فلسفية غاية في الدقة والعبقرية، ولو كانت في بعض أفكاره شذرات من الأفكار والمعتقدات التي يعتنقها المجتمع اليوناني، فقد كانت البداية عظيمة، وما هو عظيم يبقى كذلك وينتشر، فقد كانت الشرارة الأولى من الإغريق الذين جمعوا بين التفكير في الطبيعة والإنسان معا، أما الفلسفة التي جاءت في باقي الحضارات فما هي إلا حوار مستمر مع الفكر اليوناني المادي أو المثالي، ومسايرة المباحث الكبرى للفلسفة . لذلك قال نيتشه : "إن الإغريق يمنحون وجود الفيلسوف شرعيته، لأنهم الوحيدون الذين لا يكون الفيلسوف في نظرهم مذنبا".