هل إعادة شعب إلى بلاده خيانة

هدف تحويل التعددية اللبنانية إلى تعددية مطعمة بغرباء مرفوض.

هناك أطراف يريدون تطبيع العلاقات مع النظام السوري من خلال مطالبتهم بعودة النازحين السوريين سريعا، وهناك أطراف يماطلون بإعادة النازحين لمنع التطبيع مع النظام حاليا. كأن مشكلة لبنان هي الاعتراف بالنظام السوري وليست إعادة النازحين. هناك دول عربية ودولية دخلت على الخط ومصالحها تتناقض مع مصلحة لبنان الدنيا والوسطى والعليا. لكن، هناك شعب لبنان الذي، بكل طوائفه، يريد عودة النازحين السوريين فورا رأفة بهم وإنقاذا للبنان. هكذا يبرز التباين بين مصالح الطبقة السياسية، المتشعبة الارتباطات، وبين مصلحة الشعب المعذب.

الذين يأخذون على رئيس الجمهورية تعدي صلاحياته المنصوص عليها في "اتفاق الطائف"، ليتهم ينسقون موقفهم مع موقفه الصحيح في موضوع النازحين السوريين تحديدا، فيزول الصراع على الصلاحيات. المسألة ليست مسألة صلاحيات، بل مصير وطن. وأمام مصير لبنان تفقد المرجعيات، أكانت مسيحية أم مسلمة، صلاحياتها إذا استخدمتها خارج مصلحة لبنان العليا، لأن سوء الاستعمال يهدد هوية الأمة، فلبنان هوية شعب قبل أن يكون وحدة أرض.

ما قيمة لبنان مع بقاء مليون و700 ألف نازح سوري ونصف مليون لاجئ فلسطيني على أرضه، علاوة على الذين جنسوا سنة 1994 وأصبحوا اليوم نحو 800 ألف "متلبنن"؟ أي مصلحة بتأخير عودة النازحين وربطها بمصير النظام السوري والمعارضة السورية والكيان السوري والتسوية السياسية وانسحاب إيران وخروج الجيش الروسي ووقف التدخل التركي والملف النووي وسلاح حزب الله، وقيامة الأموات؟! ألم نتعلم من تجارب سنوات 1948 و1969 و1975؟ أنظل نراهن على البندقية الرديفة والشعب الاحتياط والعدد الإضافي؟

هذا الانقسام اللبناني حيال عودة النازحين السوريين يؤكد مرة أخرى أن مكونات لبنانية تفضل "تعدد الشراكات" على الشراكة الوطنية الثنائية: تارة تضيف اللاجئين الفلسطينيين وطورا تضيف المجنسين العرب، وها هي اليوم تضيف السوريين. إن إدخال شريك غريب إلى شراكة وطنية هو إخلال بعقد الشراكة نصا وروحا، ويشكل سببا كافيا لفسخه.

إذا كان هذا هو الهدف من تحويل التعددية اللبنانية تعددية مطعمة بغرباء، فنحن نرفض ذلك ونتمسك بوحدة لبنان وهويته. ولهذه الغاية نطالب بعودة النازحين السوريين فورا إلى ديارهم الواسعة. المعادلة اليوم هي: أنت مع بقاء النازحين فأنت مع التقسيم. أنت مع عودتهم فأنت مع وحدة لبنان. يكفي اللعب على الألفاظ وتغطية التلكؤ بكلمات من نوع: العودة الآمنة والطوعية والأبية والكريمة والحرة والمشرفة... نريد عودتهم ونقطة على الحدود. الكرامة بالعودة لا بالنزوح.

إن كل يوم تأخير في إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم يرفع نسبة خطر بقائهم في لبنان. نحن أمام مشكلة مزدوجة: 1) إذا استعادت سوريا وحدتها الجغرافية كاملة، سيقنن النظام عودة النازحين لاعتبارات طائفية ومذهبية وعقائدية؛ فأعمال الفرز السكاني المدروس التي قام بها النظام عسكريا منذ سنة 2011 لن يعود عنها ديبلوماسيا لعيون لبنان. 2) وإذا أعيد النظر بوحدة سوريا المركزية على أساس مذهبي، تتعقد عودة النازحين أيضا بسبب بدائية المؤسسات المناطقية الجديدة وفقدان مستندات الأحوال الشخصية وإشكالية التهجير الداخلي.

لذا، يجدر بالحكم اللبناني أن يرفق مطالبته بإعادة النازحين بخطوات عملية. لسنا في مجال تسجيل موقف للتاريخ، إنما بصدد تنفيذ موقف تاريخي. إن انتظار موافقة الدول العربية والدولية والمانحة على إعادة النازحين لا طائل منه لأن مشروعها هو دمج النازحين السوريين والفلسطينيين في المجتمع اللبناني "المضياف" في إطار حركة نقل سكاني تشمل منطقة المشرق: العراق وسوريا ولبنان وفلسطين (مقالتي بعنوان "لا ضيقا بالنازحين بل خوفا من التقسيم" - جريدة الجمهورية 13 شباط 2017).

آخر بدعة ما قاله مسؤولون عرب وغربيون لمسؤولين لبنانيين. قالوا: "إن عودة النازحين السوريين الآن إلى سوريا تزيد فرص التجديد للرئيس بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية سنة 2021 في حين أن بقاءهم حاليا في لبنان يبقيهم بمنأى عن ضغط النظام فيصوتون ضده وتقل حظوظه بالفوز" (ذكية هذه الدول إن كانت تنتظر انتخابات ديمقراطية في سوريا).

وقالوا: "إن إعادة النازحين قبل حصول التسوية السياسية ستدفع بالنظام السوري إلى رفض التفاوض مع المعارضة وعدم التنازل، وسيدعي أمام المجتمع الدولي أن الوضع السكاني أيضا عاد إلى طبيعته ولا حاجة بالتالي إلى مؤتمرات دولية لحل النزاع ووضع دستور جديد".

وقالوا: "إن إعادة النازحين الآن هي شهادة أمنية للوجود العسكري الروسي وللدور الإيراني في سوريا، ونحن، كدول مناهضة للمحور الروسي/الإيراني، لا نقبل بإعطاء هذا المحور شهادة حسن سلوك من خلال عودة النازحين". وقالوا: "إن إعادة النازحين تتسبب بتصفيات كبيرة يقدم عليها النظام ضد المعارضين العائدين، وهو أمر لا يتحمله المجتمع الدولي" (أين كان ضميره حين كان يقتل ألوف المواطنين السوريين طوال سنوات الحرب؟ وهل نسي هذا المجتمع أن النظام السوري قادر على الفتك بمعارضيه النازحين وهم في لبنان مباشرة أو عبر وكلائه؟)

وتترافق هذه الأقوال البائسة مع أموال طائلة تضخها دول محسوبة صديقة لبنان في منظمات دولية غير حكومية، وفي مراكز دراسات، وفي جمعيات من المجتمع المدني، وفي بعض الجامعات الكبيرة، من أجل خلق ثقافة اندماج النازحين ونشرها في مختلف الأوساط اللبنانية. هكذا تبرز دوريا دراسات وندوات ومقالات وبرامج تلفزيونية وإذاعية تشيد بهذه الثقافة وتحاول إشعار اللبنانيين بالذنب، كأنهم يرتكبون جرائم ضد الإنسانية حين يطالبون بعودة النازحين فورا.

لتكن لدينا شجاعة مواجهة هذه المؤامرة الكبرى على وجودنا ومستقبلنا. للمجتمع الدولي ضميره الانتقائي ولنا ضميرنا الوطني. وحري بالدولة اللبنانية أن تنقل النازحين فورا إلى الحدود السورية، وليتكفل المجتمع الدولي والنظام السوري بإدارة شؤونهم هناك وليس هنا. هل إعادة شعب إلى بلاده خيانة؟