هل الولايات المتحدة دولة صديقة؟

الانتهازية جزء من العقيدة السياسية للولايات المتحدة. الأزمة الحالية تذكير عملي لمن نسي.

تدل أفعال الانسان على مشاعره، ولا يمكن الاعتماد على الأقوال وحدها للحكم على موقفه، وهذا يندرج على الأفراد والمؤسسات والدول، فجميع هذه الكيانات يصدر عنها أفعال تدل على توجهاتها، وقد ربط العرب أنفسهم بالولايات المتحدة منذ قرن ونيف، ومنذ قرن ونيف والبلدان العربية لم تسترح يوما من القلاقل والاضطرابات بسبب الولايات المتحدة، فهي التي تدعم إسرائيل وهي التي تغزو بلاد العرب وتدمرها وهي التي جلبت الخميني من باريس ونصبته رئيسا لايران وهي التي نهبت أموال العرب واستنزفت مواردهم، وهي اليوم تسعى لتفتيت البلدان العربية الى دويلات طائفية وعرقية، وهي التي تغدر بالعرب في أصعب الأوقات، وتسعى للاستفادة من الحروب الى أقصى حد ممكن.

يحتاج الأمر الى وضعه في إطاره الفكري، إذ أن سياسة الولايات المتحدة قائمة على النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وهي نتاج فكر فلاسفة مثل توماس هوبز ونيكولو ميكافيلي وهانز مورجانتو وهو الفكر الذي يبرز مفردات مثل الدولة، الصراع، الفوضى، القوة، الأمن، المال، البقاء للأقوى، الاعتماد على الذات، وبالتالي فإن الغاية لديهم تبرر الوسيلة، ولا مكان للصداقة الدائمة أو للتحالف الدائم، والدول التي تتبنى هذه النظرية تصادق فقط من يشبهها من حيث الديانة والنظام الاقتصادي والقيم السائدة في المجتمع، وإذا فهمنا هذه النظرية والى ماذا ترمي، سنفهم لماذا غزت الولايات المتحدة دولة كالعراق لم تهدد مصالحها بشيء، وهجومها على العراق كان اعتداء وليس دفاعا، إذ كان تدمير العراق واجبا تمليه الظروف السياسية والاقتصادية على الولايات المتحدة، فمن خلال تلك الحرب، تمكنت الولايات المتحدة من جني أرباح طائلة كنهب النفط وارتفاع سعر برميل النفط واسترداد تكلفة الحرب من الخزينة العراقية والتعاقد مع الشركات الأميركية لتنفيذ مشاريع في العراق، على الرغم من ادعائها بأن الحرب كلفتها مليارات الدولارات، هذا بالإضافة الى تحقيق الهدف المحدد وهو التخلص من دولة عربية قوية ونظام ذي توجهات قومية ومعادية للولايات المتحدة وإسرائيل.

وقياسا على هذا المثال، يمكننا أن نفهم الذي تفعله الولايات المتحدة اليوم في منطقة الخليج، وربما تدل الأحداث الراهنة على نية مبيتة لتدمير دول الخليج بحيث تسلم كل ثرواتها للولايات المتحدة أملا بأن تدافع عنها ضد ايران، وهذه فرصة ذهبية، وتبقى أخف وطأة من الحرب العراقية، وهي تعكس فهم ترامب للواقعية، فبينما هو متفق مع جورج بوش من حيث المبدأ، فإنه مختلف معه من حيث الأسلوب، كما أنه يعكس فهما أعمق للنظرية الواقعية، فلكي تكون قياديا ماهرا، عليك أن تحقق الهدف بأقل تكلفة ممكنة، فقد خسر بوش جنودا أميركيين، ولكن ترامب لم يخسر وهو في طريقه لتحقيق أرباح أكثر مما حقق بوش الابن بكثير. إنه يستغل الموقف ويسعى لانتزاع أكبر فائدة ممكنة.

عارضت دول العالم نهج الانتفاع الأميركي بعد ويلات حرب العراق والتهم الملفقة ضده، فخرجت بنظرية الواقعية الجديدة neo-realism. ومن أبرز رواد هذا الاتجاه فرانسيس فوكوياما الذي قال في عام 2006 "إنّ المحافظين الجدد ادّعوا أنّهم يستلهمون أفكار الرئيس الأميركي السابق ويلسون الذي دعا زمن الحرب العالمية الأولى لدور أميركي في نشر الحرية والديمقراطية حول العالم، وكان رائد المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية، لكن أنصاره يرفضون أن يدّعي المحافظون الجدد أنّه أستاذهم، لأنه لم يؤيد استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه، كما يفعلون هم اليوم." واقترح فوكوياما مدرسة أسماها "الولسونية الواقعية"، "تتضمن اهتماماً بما يحدث في الدول الأخرى، لكن بالتركيز على بناء الدول وتقليل استخدام الأداة العسكرية."

ولكن الواقعية الجديدة لم تؤثر في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، إذ أنها لا تزال تنظر الى الحياة كميدان للصراع، وأن الحياة في أصلها هي فوضى وصراع مستمر على الموارد والزعامة ولا يفوز في هذا الصراع إلا الأقوى وله في سبيل تحقيق ذلك أن يستخدم أية وسيلة تفضي الى انتصاره.

لا شك أن ساسة العرب يدركون الخلفية الفكرية التي ترسم خطوط السياسة الخارجية الأميركية، لكن ثمة أمر خفي يحول دون اتخاذ موقف حاسم، وهناك خيارات عديدة أقل تكلفة وأكثر فاعلية ومنها التحالف البيني مع الدول العربية والتحالف الخارجي مع دول أجنبية ذات سجل نظيف مع الدول العربية، والامتناع عن دعم الجماعات الإرهابية وتحديث النظام الداخلي وتسهيل الحركة بين الدول العربية، وهذا كله يمحو العداء المستحكم بين بعض البلدان العربية، لأنه لا يوجد مانع يحول دون خلق هذا النظام الجديد سوى طبائع العرب النزقة وضيق أخلاق الرجال الذين لا ينفكوا عن توجيه الشتائم لبعضهم البعض وفي النهاية، يساقون كالأغنام من قبل الدول القوية والمتحالفة والتي تنعم بالأمن والرفاه.