هل بقي شيء من مشاعر الفخر بالطب في الأردن

من المحزن والمحرج أننا لا نزال نتحدث عن "تميز" القطاع الطبي في الأردن، في حين يخطف الموت الأطفال داخل المستشفيات بسبب أخطاء في التشخيص أو تأخر في تقديم الخدمة أو لاعتبارات بيروقراطية بحتة.
الضغط الأشد هو من نصيب المواطن الذي يقع بين فكي كماشة
الاردن يخسر مئات ملايين الدولارات سنويا كفرص ضائعة في السياحة العلاجية

يختلط الحديث في الأردن بين الرعاية الصحية اللائقة بالناس والسياحة العلاجية الضرورية للاقتصاد، في نقاش تعلوه نفس العناوين التي تحولت إلى ما يشبه شعارات وطنية تتردد منذ عقود عن تميز المملكة في الخدمات الطبية على مستوى الشرق الأوسط.
الأرقام الرسمية تقول إن ثلث الأردنيين غير مشمولين بالتأمين الصحي. الشكاوى تتزايد على مراكز تقديم الرعاية الطبية. المستشفيات العامة تعاني في الغالب من نقص الأسرّة. الأخبار تتوالى عن الإهمال والأخطاء الطبية القاتلة.
يُنفق الأردن 3.5 مليار دولار سنويا على قطاع الصحة في ما يعادل حوالي تسعة في المئة من حجم الاقتصاد، وهو رقم تقول الحكومة إنه مرتفع نسبيا. وتتكفل بتقديم الرعاية الطبية أجهزة وزارة الصحة والمستشفيات التابعة للجيش وللجامعات الحكومية بالإضافة إلى المؤسسات الصحية في القطاع الخاص.
لا بد أن تدل هذه النظرة العامة على أن ثمة مواطن خلل واضحة في هيكلية النظام الصحي، وفي الحفاظ على القدرات والكفاءات الطبية وإدامتها، وغياب التعامل بطريقة جدية واستراتيجية وتكاملية مع منظومة تقديم الرعاية الطبية في المملكة.
من المحزن والمحرج أننا لا نزال نتحدث عن "تميز" القطاع الطبي في الأردن، في حين يخطف الموت الأطفال داخل المستشفيات بسبب أخطاء في التشخيص أو تأخر في تقديم الخدمة أو لاعتبارات بيروقراطية بحتة.
ومن المؤسف أن تتبخر السمعة الجيدة إقليميا للقطاع الطبي الأردني التي بنيت على مدى عقود وساهمت فيها أجيال من الأطباء والممرضين والعاملين في الحقل الصحي، لتتحول إلى كرة ثلج من المشاكل والصعوبات والقصص المؤلمة.
ثم إن فكرة التمايز مع دول الإقليم في المجال الطبي لم تعد صالحة للتطبيق. فهل تصح المقارنة الآن بين الأردن المستقر نسبيا من الناحية الأمنية وجواره الذي يشهد حروبا واضطرابات منذ سنوات طويلة في سوريا والعراق ولبنان، أو المقارنة مع دول الخليج الغنية التي دأبت في العقود الأخيرة على إصلاح أنظمتها الصحية وبناء القدرات في مجال الرعاية الطبية؟
هل من المعقول أن تتجرد مشاعر الفخر الوطني من كل ما هو واقعي ونبقى في حالة إغماض عن مشاكل القطاع الصحي مرددين نفس العبارات الجاهزة التي ربما كانت تصلح في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي عن تميز الخدمة الطبية في الأردن حين كانت الدنيا غير الدنيا والناس غير الناس؟
"العبرة في مَن ثبت وليست في من سبق". لعل هذه المقولة تلخص الوضع الحالي لخدمات الرعاية الطبية في المملكة وتقودنا إلى تشخيص مشاكل القطاع الصحي على أمل الخروج من الحلقة المفرغة التي دائما تبدأ بـ"كان الأردن أفضل في كذا.." وتنتهي بخيبة الأمل إزاء الواقع الفعلي الذي يلمسه الناس.
لن تجد أكثر من الدراسات التي تحلل وترصد علل النظام الصحي في الأردن ابتداء من الضعف الهيكلي، وليس المطلق، في أرقام الإنفاق العام، مرورا بالترهل الإداري إلى غياب الاستقرار عن قيادات المنظومة الصحية في البلد الذي شهد تغيير 14 وزيرا للصحة خلال السنوات العشر الأخيرة.
وربما تكفيك وقفة في أحد المستشفيات أو المراكز الطبية العامة لتلاحظ جانبا من الخلل الذي يظهر في شكل اكتظاظ على عيادات الأطباء وضعف في البنية التحتية بينما تلوح وجوه يائسة أو مقهورة أو مغلوبة على أمرها من المرضى وذويهم.
لا توجد أسرّة وعلى المريض الانتظار لأيام في قاعات الطوارئ. الطبيب الاختصاصي غير متوفر حاليا. لا يوجد الجهاز الفلاني وينبغي تحويل المريض إلى جهة صحية أخرى، أو أن الجهاز موجود لكن الموعد بعد عدة أشهر. لا يمكنك الاستفادة من الخدمة الطبية لأنك غير مؤمّن صحيا. كل هذه العبارات التي تقال على مسامع المرضى أصبحت شائعة الاستخدام من قبل مقدمي الرعاية الطبية العامة في الأردن.
وسط هذه الضغوط على القطاع الصحي الحكومي، يلجأ البعض إلى المستشفيات الخاصة ذات الخدمات المكلفة وهم يعلمون أنها ليست بأفضل حالا ولكن لا خيارات. وهكذا يكون الضغط الأشد من نصيب المواطن الذي يقع بين فكي كماشة: تدني مستوى الخدمة الطبية العامة والتعرض للاستغلال المالي في المستشفيات والعيادات الخاصة، حيث تضعف الرقابة الحكومية.
في الجانب الآخر، تعاني السياحة العلاجية من تراجع حاد منذ ما قبل انتشار فايروس كورونا وتحمل معها ملامح من أزمة النظام الصحي ومشاكل قطاع السياحة وترهل الجهاز الحكومي، وشيئا من عبارات الفخر إياها.
منذ أعوام ونحن نسمع أن الأردن في المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط والخامسة عالميا في مجال السياحة العلاجية لكن الواقع يقول إن المملكة صارت تخسر مئات الملايين من الدولارات سنويا كفرص ضائعة يمثلها ما ينفقه السياح الذين يبحثون عن الاستشفاء والنقاهة.
رغم الاهتمام الملكي بالسياحة العلاجية والخطط الحكومية المتعاقبة لإنقاذها، إلا أن مشاكل القطاع لا تزال قائمة وفيها نفس الشكل من العقبات والعراقيل التي تعطل النظامين الصحي والسياحي عن التطور وتحول دون مواكبة العصر.
الأحرى بنا الآن أن نزيل غمامة الفخر الوطني عن أعيننا ولو لبعض الوقت، ونعترف بالبقع القاتمة المزمنة التي تشوّه صورة الرعاية الصحية في الأردن ثم نضعها في سياقات الحل والمعالجة ضمن رؤية شاملة وقابلة للتنفيذ.