هل تحول الممثل لسلعة في مزاد الترند؟

الأعمال الدرامية في رمضان تفقد القيمة الفنية وتخضع لمنطق السوق.

الرباط - برزت ظاهرة الدراما الرمضانية في العالم العربي كإشكالية معقدة تتعلق بتحول دور الممثل من فنان مبدع إلى عنصر يخضع لقوانين السوق. ففي هذا الشهر، تتكاثر المسلسلات وتشتد المنافسة بين القنوات والمنصات، ويصبح الممثل فيها أشبه بسلعة تُعرض في واجهة الإنتاج التلفزيوني لجذب المشاهدين بعد الإفطار. هذا التحول يقودنا إلى مفهوم "التشييء"، وهو مصطلح صاغه الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش في القرن العشرين، ويعني تحويل الإنسان أو قدراته إلى شيء مادي يُقاس بقيمته الاقتصادية في النظام الرأسمالي. فهل يظل الممثل حاملًا لرسالة فنية، أم أنه يُختزل إلى أداة تجارية تخدم مصالح المنتجين والمعلنين؟ وكيف يؤثر ذلك على الفن والجمهور المغربي الذي يترقب هذه الأعمال بشغف؟

تتطلب هذه الإشكالية مناقشة معمقة لفهم أبعادها وانعكاساتها أكثر مما يمكن تناوله في هذا المقال. تُفصّل هذه الظاهرة في وجهتي نظر متضاربتين تعكسان تعقيد الموضوع. تؤكد الرؤية الأولى أن الممثل في رمضان يتعرض لعملية تشييء واضحة، حيث يتم اختياره بناءً على قدرته على تحقيق "البوز" أو الضجيج الإعلامي وجذب نسب مشاهدة عالية. وهنا يتحول الممثل إلى سلعة تُروَّج لها عبر الإعلانات والمقابلات التلفزيونية، ويصبح أداؤه رهين توقعات السوق أكثر منه تعبيرًا عن رؤية فنية.

على سبيل المثال، نرى كيف تُفضل بعض شركات الإنتاج نجومًا بعينهم لضمان نجاح المسلسل تجاريًا، حتى لو كانت أدوارهم متكررة أو سطحية. بينما تُعارض هذه الرؤية وجهة نظر أخرى تدافع عن هذا الواقع، معتبرة أن المنافسة الرمضانية تمنح الممثل فرصة ذهبية للظهور أمام ملايين المشاهدين، وأن تحوله إلى سلعة هو جزء لا مفر منه من تطور صناعة الترفيه في عصر العولمة.

جزء لا مفر منه من تطور صناعة الترفيه في عصر العولمة

تُضيف هذه الرؤية أن الممثل نفسه قد يستفيد ماديًا ومعنويًا من هذا التشييء، فيرتفع أجره ويزداد حضوره الإعلامي. لكن، هل تبرر هذه الفوائد التضحية بالعمق الفني؟ وهل يمكن اعتبار النجاح التجاري مقياسًا كافيًا لقيمة الممثل؟

يعد تشييء الممثل في رمضان إلى سلعة نتيجة حتمية لسيطرة المنطق الرأسمالي على الفن، كما تنبأ بذلك لوكاتش في تحليله للتشييء. تُظهر الدراما الرمضانية كيف يتم اختزال الممثل إلى رقم في معادلة الإنتاج: عدد المشاهدين، نسب الإعلانات، ومدى الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي. ففي المغرب، مثلًا، نلاحظ أن بعض المسلسلات تعتمد على نجوم محددين لضمان التفاعل الجماهيري، حتى لو كانت السيناريوهات ضعيفة أو الأدوار تفتقر إلى الابتكار. تزيد هذه الظاهرة من ضغوط الإنتاج في رمضان، حيث يُطلب من الممثل تصوير عشرات الحلقات في وقت قصير، مما يحد من قدرته على الإبداع ويجعله أشبه بآلة تعمل بلا توقف. تُشير هذه الدينامية إلى أن الفن يفقد روحه عندما يصبح أداة للربح فقط. لكن، تُلقى المسؤولية أيضًا على الجمهور المغربي والعربي، الذي يساهم في استمرار هذا الواقع بتفضيله الأعمال الشعبية على تلك ذات المضمون العميق. فإذا كان التشييء يحرم الممثل من إنسانيته الفنية، فهل يمكن للجمهور والمنتجين معًا إعادة تعريف قيمة الفن بعيدًا عن منطق السوق؟ أم أن الفن أساسًا تجارة، والحديث عن الإبداع يشبه شعار الديمقراطية بدون ديمقراطية؟

تشييء الإنسان بصفة عامة هو مفهوم فلسفي وسوسيولوجي يشير إلى تحويل الإنسان أو العلاقات الاجتماعية إلى كيانات مادية جامدة، تُفقدها طابعها الديناميكي والإنساني. في الفكر الماركسي، كما طوره جورج لوكاتش، يظهر التشييء كنتيجة للرأسمالية، حيث يُختزل العامل إلى مجرد ما يمكن أن يقدمه كطاقة تُباع وتُشترى كسلعة. وهنا أيضًا ظهر مفهوم الاغتراب عند كارل ماركس، حينما يفقد الفرد اتصاله بجوهره الإنساني نتيجة تحكم العلاقات الاقتصادية.

ينتقد جان بودريار تشييء الإنسان عبر مفهوم المحاكاة، عندما تتحول الهويات البشرية في عصر الإعلام والاستهلاك إلى صور ورموز فارغة من المعنى الأصيل. فعلى سبيل المثال، في المجتمعات الحديثة، يمكن أن يُعامل الفرد كرقم في إحصائية أو كأداة لتحقيق أهداف مؤسساتية. وهنا ندرك كيف تتجاوز هذه الظاهرة الفن لتشمل الحياة اليومية بأكملها. تؤكد هذه النظريات أن مبدأ التشييء يكشف عن تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية بسبب التدخلات السياسية الرأسمالية، التي تتخذ من الديمقراطية شعارًا خاصًا بفترة الانتخابات فقط.

يستغل السياسيون الرأسماليون مبدأ التشييء بذكاء، ويغلفونه بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة الاجتماعية لإضفاء شرعية زائفة على سياساتهم. فبينما يروجون لمفاهيم مثل الحرية الفردية وتكافؤ الفرص، يتم اختزال المواطنين إلى مجرد أرقام في استطلاعات الرأي أو أدوات انتخابية تُستخدم لتعزيز سلطتهم، دون معالجة جذور التفاوت الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، في النظم الرأسمالية المتقدمة، تُقدم برامج الدولة الاجتماعية كشبكة أمان، لكنها غالبًا تُصمم للحفاظ على استدامة النظام الاقتصادي بدلًا من تمكين الفقراء فعليًا. هذا المبدأ يؤدي إلى استمرار الفقر وزيادة ثراء الأغنياء. يعكس هذا التناقض ما أشار إليه هربرت ماركوزه في نقده للمجتمعات الصناعية المتقدمة، حينما تُستخدم الديمقراطية الزائفة لتجميل الاستغلال وإخفاء التشييء، فتتحول الشعارات الإنسانية إلى أدوات لتبرير التفاوت الطبقي.