هل تكفي المهاترات التلفزيونية لتغيير النظام الفاسد في العراق؟

المسؤولية جسيمة جدّا أمام الشباب الثائر، ولكنهم قادرون على إنقاذ العراق من عقود عانى فيها من الفساد والحروب والاستقطاب الطائفي والتبعية للخارج.
البرامج الحوارية السياسية غير مخصصة لكشف الحقائق بل للإثارة والتهريج
مهما كان السياسي المجرم حاذقا فلا بدّ أن يغفل ولو مرة واحدة وتفلت منه إشارة

هذا هو الواقع المزري في العراق.
في معاجم اللغة العربية، كلمة (المهاترات) هي جمع مؤنث سالم لاسم المصدر (مهاترة) والمشتق من الفعل (هاتَر) والذي جذره الثلاثي (هَتَرَ). والمهاترة (اسم)، تعني القول الذي ينقض بعضه بعضا، وهي الردّ الوقح المتطاول، وانتقاص كل فريق للآخر، والإساءة إليه بالقول.
لقد أصبحت المهاترات التلفزيونية في القنوات الفضائية العراقية ظاهرة مألوفة قبل وبعد كل انتخابات مزيّفة. حيث ينشب الصراع بين رؤساء الأحزاب الطائفية العميلة الحاكمة في بغداد وأربيل مرة أخرى على اقتسام الأسلاب والغنائم بينهم كحصص شخصية بصبغة طائفية وحسب قوة هذا الطرف أو ذاك. وما يحدث بين هؤلاء في البيوت ودوائر المنطقة المعزولة الحمراء في بغداد (المسمّاة المنطقة الخضراء) يمتدّ إلى القنوات التلفزيونية والصحافة الورقية والرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي من خلال أذنابهم. وكل واحد من هؤلاء الأذناب والأتباع يظهر أمام الناس بصفة "رئيس المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية" والمحلل السياسي القدير وغيرها من الأوصاف الزائفة. ويستضيف مقدّم البرنامج شخصا آخر على النقيض من الضيف الأول، وهو قد يكون حزبيا أو غير حزبي ويحاول تمزيق حجج الشخص الأول تماما. وما تكاد بعض الثواني تمضي حتى يتأجّج الصياح والإرعاد والإزباد وتبادل الاتهامات والإهانات وربما الشتائم بين الضيفين، بينما يتولّى مقدّم البرنامج مهمة صبّ البنزين على النار ثم يطالبهم فيما بعد بالهدوء والاحترام. وكثيرا ما يدّعي الشخص المعارض أو الناقد بأنه مستقل، بينما هو كاذب متبجّح وقد كلّفه حزبه بأن يظهر بصفة المستقل. وكلّ مسؤول حزبي أو تابع للحزب يدّعي بأن لديه ملفّات مفصّلة عن فساد الآخرين ويهدّد بكشفها على الملأ عما قريب، وهو صادق فيما يقول بخصوص الفساد لأنهم يعرفون بعضهم البعض، ولكن لأنهم متكافئون بالرذيلة والفساد فإنهم لا يقدّمون تلك الملفّات إلى القضاء أبدا ليتولّى التحقيق فيها. وغالبا ما يترك أحد الضيفين البرنامج احتجاجا بعدما يستشيط غضبا على الآخر.
هذا المشهد يتكرّر بشكل مقرف في الفضائيات العراقية، وكلّها تابعة إلى أحزاب وتيارات وتكتلات وتحالفات سياسية بغيضة، وتفتقر إلى الروح الإعلامية الرصينة. ومن المؤسف جدّا أن هذه البرامج السياسية غير مخصصة لكشف الحقائق حسب الوثائق والوقائع وإنما مخصصة للإثارة والتهريج وجذب المشاهدين. والشيء الوحيد المؤكّد الذي تكشفه البرامج هو وجود خلافات حادة بين الزعماء الطائفيين، وهو ما يعرفه العراقيون تماما عن الطبقة الحاكمة الفاسدة، ولا حاجة بهم إلى إضاعة وقتهم عليها. وبعد مدة تقصر أو تطول ومن خلال ضغوط داخلية أو خارجية يتقاسم الحزبيون المناصب والمقاولات ومناطق النفوذ، ثم يظهرون في وسائل الإعلام وهم يضحكون لبعضهم البعض وكأنّ شيئا لم يكن. وسواء كان مقدّم البرنامج يدّعي لنفسه أنه يكشف كل الحقائق للناس معزّزة بالتقارير والحجج الدامغة أو أنه محلّل سياسي قدير فهو غالبا لا يكشف أية وثيقة إدانة ضد شخص محدد بالاسم ولا مصادر الإحصاءات التي يقدّمها، وبالتالي فإنه يضيّع الفرصة على نفسه وعلى المواطنين العراقيين بالعمل الجادّ وتجميع الأدلة الجنائية المضبوطة لتقديمها للقضاء. ليس هذا وحسب بل إن مقدّم البرنامج يجعل من المجرم الحقيقي يبدو كأنّه "ضحية اتهامات باطلة" يفتريها خصمه ومنافسه السياسي. وبذلك تصبح هذه البرامج عبثية بكل معنى الكلمة، وتؤدّي بالناخبين إلى المزيد من الإحباط واليأس من إمكانية التغيير الإيجابي للنظام الفاسد في العراق.
الأمل بالشباب العراقي الثائر
من حسن الحظ فإن بعض الشباب العراقي تعلّم من الظروف والأخطاء التي مرّت بها تجربة ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، وأدرك بأن المظاهرات السلمية في الساحات والشوارع والتضحية بأنفسهم أمام رصاص السلطة الإرهابية والعصابات التابعة لإيران لا تكفي، وأخذ بتجميع الأدلة الجنائية ضد المجرمين بطرق ذكية. فالمجرم السياسي بالصدفة، الذي جاء مع قوات الاحتلال الأميركي البريطاني سنة 2003، مهما كان حاذقا بإخفاء علاقته بالجريمة، لا بدّ أن يغفل، ولو مرة واحدة، وتفلت منه إشارة تقود إليه وتدلّ على ضلوعه بالجريمة.
ويبدو أن هؤلاء الشباب العراقيين الواعين يقومون حاليا بالخطوات التالية:
أوّلا: تجميع ملفات وثائقية جادّة عن رؤساء الأحزاب الطائفية العميلة الحاكمة في بغداد وأربيل قبل وبعد الغزو والاحتلال الأميركي البريطاني (سنة 2003)، والتيارات والتحالفات وغيرها من المسمّيات الزائفة. ومن أهم الأمور الخاصة بالوثائق (كتابة، صورة، فيديو، تقرير وثائقي مصوّر، إلخ) التي يراعونها هو تحديد الزمان والمكان والمناسبة وأسماء المعنيين، وأن تكون الوثائق أصلية.
ثانيا: الأخذ بالقوانين النافذة الآن في العراق لتثبيت العلاقة بين الفعل الإجرامي والمجرم، وهي:
قانون العقوبات العراقي المعدّل رقم 111 لسنة 1969.
قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.
قانون جهاز مكافحة الإرهاب رقم 31 لسنة 2016.
دستور جمهورية العراق لسنة 2005، المواد من 50 إلى 73.
وعند مطالعة القوانين أعلاه يرى الشباب بأنفسهم العجب العجاب وكيف أنهم يستطيعون إدانة هؤلاء المجرمين والعملاء والخونة والمخربين بنفس القوانين التي شرّعوها أو عدّلوها على مدى السنين العشرين الماضية. وحسب هذه القوانين فقط لن ينجو أحد من المتنفّذين في السلطة منذ بداية الاحتلال الأميركي البريطاني سنة 2003 حتى الآن.
ومن أجل تشخيص المسؤولية الجنائية للطبقة الحاكمة في العراق (حكومات ونوّابا ورؤساء تحالفات)، لا بدّ من وجود العلاقة السببية بين مواقفها وقراراتها السياسية وبين جرائم القتل العمد والخطأ، الفردية والجماعية. لذا من الضروري جدّا البحث عن العناصر الثلاثة من الركن المادي للجريمة السياسية والعادية، وهي:
الفعل والسلوك الجرمي، والنتيجة وهي الأثر المترتب على الفعل الجرمي، والعلاقة السببية وهي الرابطة بين الفعل والنتيجة- سواء كانت الجريمة عمدية أو غير عمدية.
ثالثا: عند تعيين الرابطة السببية بين السياسيين المجرمين وبين جرائمهم وضحاياهم على ضوء ما تقدم، يستطيع الشباب الثائر إعداد لوائح إدانة أصولية مفصلة ضد كل مجرم على انفراد، وتقديمها إلى الجماهير العراقية لتبنّيها، وإلى القضاء العراقي بهدف تحدّيه وإحراجه بسبب خضوعه للطبقة الحاكمة الفاسدة، وإلى المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court – ICC)، التي تأسست سنة 2002 ومقرها في هولندا، والمنظمات الإنسانية لكي يأخذ الموضوع مكانته الجدّية. وعادة يمكن اللجوء إلى هذه المحكمة كملاذ أخير إذا أخفقت دولة معينة في دورها القضائي عمدا أو اضطرارا، كما هي الحال في العراق. ومن صلاحية المحكمة الجنائية الدولية محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. بالإضافة إلى ذلك توجد محكمة العدل الدولية (International Court of Justice – ICJ)‏، التي تأسست سنة 1945 ومقرها في هولندا أيضا. ولمحكمة العدل الدولية نشاط قضائي واسع، حيث تفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، كما تمارس وظيفة استشارية من خلال إصدار الفتاوى للهيئات والوكالات التابعة للأمم المتحدة. ونظرا إلى أن الحكّام الفاسدين في العراق فشلوا في حماية السيادة العراقية على أراضيه ومياهه وأجوائه، وعجزوا حتى عن التفاوض مع تركيا وإيران حول تأمين الحدود والحصص المائية حسب الاتفاقات الدولية النافذة، فلا بد من اللجوء إلى هذه المحكمة. وترتّب على الفشل الذريع من جانب الحكّام الفاسدين خسائر بشرية ومادية وتغيرات بيئية خطيرة تهدد الحياة بكافة أشكالها في العراق.
إذاً، المسؤولية أمام الشباب العراقي الثائر جسيمة جدّا، ولكنهم قادرون على إنجازها، وهم الأمل الوحيد لإنقاذ العراق بعد 20 سنة من الاحتلال الأميركي البريطاني (سنة 2003) ومجيء عملاء مؤتمر لندن (لسنة 2002) وأسلحة الفساد الشامل والنهب المنظّم لثروات الشعب العراقي والحروب الأهلية والاستقطاب الطائفي والظلم الشديد والتبعية للدول الأجنبية والتخريب المتعمّد للأجيال العراقية. وأتت هذه الكوارث على رأس ثلاثين سنة أخرى من النظام الاستبدادي والسياسة الخرقاء للطاغية صدام حسين. لقد حان الوقت أن يأخذ الشعب العراقي زمام المبادرة بنفسه ويتمرّد على الوصاية القسرية التي فرضتها الأحزاب الطائفية العميلة الحاكمة في بغداد وأربيل، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والتي تمكّنت من تغييبه بالتعاون المباشر مع قوى محور الشر المتمثل بأميركا وبريطانيا وإسرائيل.
أما الاكتفاء بالظهور في البرامج الفضائية وعرض المهاترات التلفزيونية بين ذيول الحكّام الفاسدين وبين الشباب المعارض لهم فهي مسألة غير مجدية إطلاقا، وثبت فشلها لدى شعب العراق وغيره من شعوب العالم المتطلعة إلى أنظمة سياسية واجتماعية عادلة. وإذا كان المشاركون في البرامج الفضائية العراقية جادّين في دعاواهم فما عليهم إلا أن يكشفوا ما لديهم من الملفات المزعومة لكشف الفاسدين وإدانتهم قضائيا بدلا من التهديد بها ثم السكوت عنها.