هل جاء كارل يونغ بدين جديد؟

قراءة المؤلف الأشهر 'الكتاب الأحمر' لعالم النفس السويسري كارل يونغ تحيل الى انه غيّر مفهوم الله وجعله مفهوما نفسيا واعتبر أنه 'الروح' وعلى الانسان أن يبحث عنها في داخله وليس في خارجه.
نظرية كارل يونغ في جوهر التحليل النفسي تقوم حول تكامل الشخصية
يونغ يعتبر ان الأمراض النفسية في عصرنا الحديث سببها التركيز على الجانب المادي واهمال الجانب الروحي

كارل يونغ هو عالم نفس سويسري ولد في عام 1875 وتوفي في عام 1961 وكان زميلا لسيغموند فرويد ثم افترقا لأن يونغ لم يكن مقتنعا بالتحليل النفسي الذي قدمه فرويد القائم على تفسير الأمراض النفسية على أساس الكبت الجنسي.
 وقدم نظريته حول التحليل النفسي وجوهرها تكامل الشخصيةwholeness، حيث اعتبر أنه كلما نقصت المسافة بين الوعي واللاوعي كلما اقتربت الشخصية من الصحة النفسية وكلما تنافر الوعي واللاوعي كثرت الظلال والأماكن الداكنة في اللاوعي ووقع الانسان في المرض النفسي ويحدث كثيرا أن المريض النفسي لا يشعر أنه مريض ولكن الآخرين يرون ويفهمون ويدركون أن الشخص يعاني من مشاكل نفسية.
 وقد اعتمد يونغ على الأحلام والفن كالكتابة والرسم لرصد المطبات النفسية من خلال الرموز التي تشير الى النماذج الكبرى archetypes وهي واحدة عند جميع البشر، فكل إنسان يعيش وفقا لهذه النماذج مثل الحياة والموت والله والسحر والبطل والطفل والحكيم والخادم والناسك والصياد والضحية والعبد والسيد والفارس والجبان والذكر والأنثى والظالم والعادل والأم المعطاء والأب الذي يحمي.

'الكتاب الأحمر' لا يعترف بالأديان
'الكتاب الأحمر' لا يعترف بالأديان

 وقد امتدت هذه النماذج بحيث أصبحت كثيرة جدا، فكلما كتب باحث حول نظرية كارل يونغ أدخل نموذجا جديدا، فالانسان يمر في مواقف ومراحل من حياته ينطبق عليها نموذج من أحد هذه النماذج وربما أكثر من نموذج، ولا يستقيم حال الانسان إلا إذا خلق توازنا بينها، وإذا فشل، فإنه يفقد التكامل والشخصية "الروح" أو تمرض روحه، فيصبح مريضا نفسيا. 
إن عصرنا الحديث هو عصر ازدهار الأمراض النفسية، حتى في أرقى المجتمعات، فكل إنسان لا بد أن يذهب الى الطبيب النفسي يشكو من مشكلة ما مثل: كل الناس يكرهونني، فشلت في جميع علاقاتي الغرامية، لا أنسجم مع أحد، الناس يتآمرون علي، أنا مدمن، أنا فاشل، أشعر بالضياع، ارى أشباحا، أسمع أصواتا، الخ. وبحسب التحليل النفسي لكارل يونغ، فإن كل هذه المشاكل ناجمة عن عدم القدرة على دمج النماذج الكبرى وتنسيقها بحيث تكون متوازنة ومنسجمة مع بعضها البعض، ولا يجوز أن يطغى نموذج على باقي النماذج، وحتى الرجل عليه أن يوازن بين جانبه الأنثوي وجانبه الذكري، أي أن يكون رقيقا اذا استدعى الموقف الرقة.
 ونفس الأمر ينطبق على المرأة، حيث تستدعي بعض المواقف أن تكون قوية وصارمة كالرجل. فأين هو الدين وما هو مفهوم الله في فلسفة يونغ؟
من خلال قراءة مؤلفه الأشهر "الكتاب الأحمر" يبدو أن يونغ غيّر مفهوم الله وجعله مفهوما نفسيا.
 وقد صرح بذلك وقال أن له الهه الخاص ككل البشر وكان يقصد بالله "الروحانية" وليس الجانب الشعائري والتعاليم المقدسة، ونفى أن يكون الله رمز للخير للمطلق بل أن الأمر يعتمد على الانسان، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، بحسب التقلبات النفسية لدى الانسان التي تتراوح ما بين الخير والشر.
 وفي "'الكتاب الأحمر"، عرض مفهوم الله على أنه "الروح" وعلى الانسان أن يبحث عنها في داخله وليس في خارجه، فهي غير موجودة في الخارج، ويجب على الانسان ألا يذعن لمفاهيم الناس التي تملى على الفرد إملاء، ولكل انسان روح خاصة به، وإلا لأصبح البشر متشابهين ولا توجد لهم شخصية مستقلة، وهو ما أطلق عليه مصطلح التفردية Individuation  والناس ليسوا قطعانا ولهم راع واحد، يسوقها ويوقفها ويذبحها، وإذا أصبح الناس كالقطيع، فلا يمكن لهم أن يستمتعوا بالحياة ويرتادوا آفاقها ويبدعوا فيها. وعزا يونغ الأمراض النفسية في عصرنا الحديث الى أن الحضارة الحديثة ركزت على الجانب المادي وأهملت الجانب الروحي، ففقد الانسان روحه ووقع فريسة للأمراض.
 واذا أراد الانسان أن يستعيد توازنه فإن عليه استعادة الجانب الروحي من شخصيته، لذا فيمكن القول أن نظرية يونغ لم تكن قائمة على أساس علمي ومخبري ولكن على أساس يشبه التصوف، فقد خلع عباءة العلم، وارتدى عباءة الصوفية ليسبر أغوار الإنسان ويعرف ما خطبه ولماذا يمرض نفسيا. 
وحتى نظرية فرويد لم تكن قائمة على أساس علمي، بل على قناعات شخصية لفرويد الذي أنكر وجود الله أصلا.
ولا يمكن للقارئ معرفة صحة النظرية من عدمها إلا من خلال معرفة مدى نجاعة التحليل النفسي في علاج المرضى النفسيين، هل فعلا تمكن فرويد من علاج المرضى على أساس الكبت الجنسي؟ هل فعلا تمكن يونغ من علاج المرضى النفسيين من خلال رصد الظلال والأماكن الداكنة في اللاوعي ومصالحة الانسان مع نفسه ومساعدته على محو الظلال وإعادة التكامل في نفسه؟ 
إن التأكد صعب جدا ما لم يدخل الانسان الى عيادة التحليل النفسي ويخضع لهذا النوع من العلاج ومعرفة ما اذا كانت النظريتان صحيحتين أم لا. 

  فكرة الله كروح وليس كدين قائمة منذ زمن بعيد، فالتصوف قائم على الروح والعقل وليس على الشعائر والعبادات

استدل يونغ على زيف الأديان من خلال التجليات المختلفة للأديان وصورة الله فيها، التي تختلف من دين الى دين، وهذا يعني أن نموذج الله موجود لدى كل البشر ثم يأتي البعض ويصورون الله بصورة معينة ويجعلون له صفات مختلفة من مجتمع الى آخر.
 وبينما يكون مفهوم الله فطريا، فإن تجلياته ليست فطرية وهي من صنع البشر وهي تنزل بالمفهوم من مستوى ميتافزيقي جليل الى مستوى دنيوي رخيص بل أن البعض أسبغ عليه صفات البشر فهو يأمر وينهى ويحب ويكره ويعطي ويحرم ويكافئ ويعذب، في حين أن اله يونغ كامن في النفس البشرية يساعد الانسان على التطهر من الرغبات المادية ويسمو بالروح عن التوافه والآلام ويجبرها اذا انكسرت وهذا ما أطلق عليه يونغtranscendentalism  أي التسامي، وهو مفهوم مختلف ما بين فرويد ويونغ، فهو عملية إعادة تأهيل لدى فرويد ولكنه عملية إيقاظ الروح لدى يونغ. 
لكن السؤال الأهم هو كيف يربي الانسان ابنه بحيث يكون متوازنا؟ من خلال مؤلفات يونغ يظهر أن يونغ يؤمن ان الحياة تأخذ مجراها الصحيح ويكفي للوالدين والمجتمع أن يعطوا للطفل كرامته واحترامه وسوف تسير الحياة به سيرا صحيحا، أي أن عليهم ألا يقرروا له كيف يجب على تفرده وشخصيته وروحه أن تكون، وألا يقودوه الى المرض النفسي بأيديهم.
 فمجرد توفير البيئة الصحية واحترام شخصية الطفل والتوجيه الهادف الى حمايته وتقديم القدوة الحسنة، سيعرف الطفل كيف يرتب النماذج الكبرى بحيث تكون متوازنة.
 فلا هو بالبطل دائما ولا الضحية دائما ولا الحكيم دائما، لأن الانسان يمزج بين هذه النماذج يقدر معقول ومتوازن فقط اذا لم يعرقل أحد نموه الفكري والعاطفي وصادر "روحه" وعاش له حياته بدلا منه.
وعليه، فإن الله أحد النماذج الكبرى داخل الانسان، ويلجأ إليه الانسان فطريا فهو المنقذ والمنجي من المهالك وغالبية الناس يلجئون اليه فور دخولهم في خطر يهدد حياتهم، ولكنه ليس خارج النفس، وقد صرح يونغ انه لا يذهب الى الكنيسة بل يستدعي الله في نفسه. 
أي أنه لم يكن مسيحيا ولكنه مؤمن بالله في نفسه كأحد النماذج الكبرى في حياة الانسان وإيمانه هو ايمان فطري ويقيني ويختلف عن الايمان الذي تعرضه الأديان. 
يظهر سؤال آخر حول هذه النظرية وهو خلق الركيزة الأخلاقية لدى الانسان، فقد كان يونغ يعتبر الفطرة الانسانية السليمة تعرف ما هو خير وما هو شر، لأن الانسان يعرف ما هو مؤلم وما هو غير مؤلم فإذا ارتكب عملا تعدى فيه على حقوق الآخرين، فقد تجاوز الأخلاق، مما يدل على أنه فشل في خلق توازن في شخصيته بين الخير والشر، فلا يكون ايلام الآخرين إلا دفاعا وليس هجوما، واذا كان الانسان يعتبر أن من حقه الاعتداء على الآخرين لأنه أفضل منهم، فهذا مرض نفسي يسمى في علم النفس "النرجسية"، (ربما تكون النرجسية داء هذا العصر)، بل أنه ذهب الى أن الاعتداء مؤشر على الضعف وليس القوة، والاستسلام للعدوان أيضا مؤشر على الضعف وليس القوة. 
وهكذا فإن الفطرة السليمة تمزج بين الوعي واللاوعي وتتصالح مع نفسها، ولا تتضارب مع حقوق الآخرين. 
فمن أين تأتي الأمراض النفسية إذن؟ بشكل رئيسي فإن الأمراض النفسية تنشأ من عدم التوازن بين الوعي واللاوعي وإهمال الجانب الروحاني من النفس البشرية، وعدم المصالحة بين المرء وذاته بحيث يفقد الانسان نفسه الحقيقية، فيكون شخصية مختلفة في سره نظرا لأنه مر بتجارب مؤلمة تركت مناطق داكنة كثيرة أو ما أطلق عليه يونغ "ظلال" shadows وهذه الظلال تحول بين المرء والتفكير الواضح وتمنعه من تحقيق ذاته ورسم معالم شخصيته كما يريد. واعتبر أن من واجب الانسان أن يتصالح مع نفسه، وأن من واجب المجتمع أن يسمح للانسان أن يرسم معالم شخصيته و"روحه" لكي لا يحدث التضارب وتكثر الظلال في اللاوعي فيضطرب تفكير الانسان ويعجز عن الابداع والاستمتاع بالحياة بفطرته السليمة دون محاولة صبه في قالب يرى الآخرون أنه هو الصحيح وكل القوالب الأخرى خاطئة. 
يكمن التعقيد في نظرية يونغ في أن اللاوعي ليس شخصيا فقط بل يشمل اللاوعي الجمعي والمقصود به حصيلة ثقافة المجتمع، فليست التجارب الشخصية فقط هي التي تخلق الظلال والبقع السوداء في لاوعي الانسان، ولكن الموروث الثقافي أيضا يترك بقعا داكنة اذا كان متضاربا ولا يتفق مع الفطرة الانسانية ولا يساعد على بناء شخصية متكاملة ومتوازنة.
 وهذا ما يخلط الاسلاميون فيه، فهم يعتبرون الدين متفقا مع فطرة الانسان، ولكن الذي يتفق مع فطرة الانسان هو الايمان وليس الدين، ولو كانت الأديان تتفق مع فطرة الانسان لما كانت متعددة ومختلفة عن بعضها البعض ولما رأى كل دين نفسه أنه هو الصحيح والأديان الأخرى افتراء، وقد سُئل يونغ في مقابلة معه سؤالا طرحه السائل عليه وهو "هل تؤمن بالله" فرد يونغ قائلا، "أنا لا أؤمن، بل أنا أعرف".
 فالله في نظرية يونغ أحد النماذج الكبرى التي تولد مع الانسان ولا سبيل للإيمان بها أو رفضها، فهي جزء لا يتجزأ من اللاوعي، وتابع يونغ قائلا "أنا أقول "يا الهي" فور حدوث شيء غير متوقع تلقائيا." 
وهكذا يمكن القول أن يونغ أتى فعلا بمفهوم جديد لله وليس بدين جديد فقد كان ينكر الأديان مع أنه لم يصرح بذلك تصريحا حرفيا وربما أنه صرح في أحد مؤلفاته الكثيرة والضخمة ولكن الذي يستنتج من "الكتاب الأحمر" هو أنه لا يعترف بالأديان، ولكن فكرة الله كروح وليس كدين قائمة منذ زمن بعيد، فالتصوف قائم على الروح والعقل وليس على الشعائر والعبادات.