هل ولى زمن الشعر؟

علي جعفر العلاق: رغم كل ما يقال عن الرواية وصعودها الراهن، يظل الشعر أكثر فنون القول التصاقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط. 
فاروق شوشة كان يرى أن الشعر العربي في حاجة ماسة إلى وقفة نقدية جادة وشجاعة
محمد إبراهيم أبوسنة: نحن لا نعرف احتياجات الإنسان في المستقبل
فولاذ: الجامعة لا تغرس عادة التذوق لدى الطالب الجامعي
هدارة كان يرى أن الحياة الأدبية أصبحت بصفة عامة متدنية ومتدهورة

في ظل تصاعد "الرواية" وهيمنتها على سوق الأدب، واتجاه أغلب الأدباء الشباب الآن إلى الكتابة الروائية، رغم أنها تتطلب قراءات عميقة، وخبرات طويلة، ومعرفة كبيرة بمختلف الممارسات الإنسانية، ووسائل التعبير المختلفة، وغيرها من مهارات شخصية، فضلا عن الإجادة اللغوية والسردية والحوارية، وغير ذلك من تقنيات فنية قديمة وحديثة. فإن هذا بلا شك أخذ يهز عرش الشعر بقوة، بل والقصة القصيرة أيضا.
كما أنه من الملاحظ أيضا أن هناك عددا من الشعراء الكبار أو الشعراء المتحققين اتجهوا لكتابة الرواية وحققوا فيها صعودا جيدا، وبعضهم فاز بجوائز كبيرة، لم يفز بها عمَّا قدمه في مجال الشعر من دواوين وكتابة شعرية. فهل تدفعنا هذه العوامل إلى السؤال عن زمن الشعر، وهل ولّى ذلك الزمن الذي كان الشعر فيه هو السيّد وهو السائد والمتقدم صنوف الأنواع الأدبية المختلفة؟ 
بالإضافة إلى هذا لا نستطيع أن نتغافل عن طبيعة العصر، ورغبة الناس في أن تعرف شيئا عن الآخرين، فالآخر ليس كما قال سارتر هو الجحيم، ولكن الآخر قد يصبح مرآة أرى فيها العصر، ونبضه ومآله، وأرى فيه التاريخ والتنوع الزمني والجغرافي. زد على ذلك اتجاه الإنسان إلى الناحية العملية وإلى التشبث بالمخترعات الجديدة والتعامل معها بكفاءة تجعله ينفق معظم وقته معها، كما نرى في التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقعها ووسائل التواصل الاجتماعي، وأجهزة التليفون المحمولة وغيرها. فهل كل هذه الأمور – وغيرها - تسهم في انقطاعنا عن عالم الشعر، والابتعاد عن سماع الشعراء في أمسياتهم وندواتهم وحلقاتهم، مثلما تبعدنا عن قراءة دواوينهم الشعرية بمختلف تشكُّلاتها؟ والاكتفاء بما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من مقطوعات وقصائد اختلط فيها الحابل بالنابل؟

واقع النشر في العالم العربي أثبت أن قراءة الشعر في تراجع مستمر، وأن هناك تراجع في منشورات الشعر ونقده، وأن الإعلام لا يفي الدواوين الشعرية حقها

ليس الأمر مفاجئا، أو مفاجأة، لأنه سبق لي في عام 1986 – وقبل أن تنتشر مقولة د. جابر عصفور إننا نعيش زمن الرواية - أن أجريت حوارا مع بعض الشعراء والنقاد حول مستقبل الشعر، وهل ولّى هذا الزمن الذي كان فيه الشعر هو المتسيّد والمسيطر والكل – شبانا وشيوخا – يتمنى أن يُطلق عليه لقب "شاعر". وأثبت هنا مشاركة ثلاثة شعراء وناقد حول تلك المقولات والتساؤلات.
قال الشاعر الراحل فاروق شوشة: إنني أرى أن الشعر العربي في حاجة ماسة إلى وقفة نقدية جادة وشجاعة تعكف على التقويم والتمييز وطرح الزائف والمدعي بعيدا عن الساحة، وتعميق وعي المتلقي بحقيقة الشعر والقدرة على تذوقه والتفاعل معه، ومن ناحية أخرى فإنني أعتقد أن مستقبل الإبداع الشعري ما زال مرتبطا بإنجاز جيلنا وقدرته على الاستمرار والتجاوز  والإضافة، ذلك أن هذا الجيل بحكم مكوناته الأساسية واستيعابه الواعي لتاريخ هذه الحركة الشعرية وقدرته على التأثر والإحكام مازال هو الجيل الذي يحمل مسئولية الشعر العربي الآن، وعلى الذين يختلفون معي أن يعكفوا على قراءة الإبداع الشعري ذاته وتأمله والحكم من خلاله على المسار الشعري في تجرد وموضوعية. 
ويرى الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة أن الحكم على المستقبل ببساطة شديدة يمكن أن يكون صحيحا في مجال اكتشافات البترول أو في التنمية الاقتصادية أو التنمية الاجتماعية، وفي تصور لأشكال الأنماط الاقتصادية في المجتمع، طبقا لما تحدده العقول الإلكترونية وحسابات الكمبيوتر، أما فيما يتعلق بالإبداع، فإن القضية أساسا ترتبط بحاجة الإنسان إلى هذا الفن أو ذاك. ونحن لا نعرف احتياجات الإنسان في المستقبل، فربما انقرضت هذه الأشكال الدرامية، وعاد الشعر هو المعبر الوحيد عن وجدان الإنسان، ذلك لأننا كما نرى حتى في الأمم المتقدمة فإنه لم يعد هناك الوقت الكافي لمتابعة حتى برامج التلفزيون والإذاعة بشكل حقيقي.
ويتابع أبوسنة: في رأيي أو في تصوري أن الشعر هو جزء من كل نفس مرهفة، وهذا حقيقي، بمعنى أن كل نفس تحمل قدرا من الشعر في أعماقها، وهذا القدر يؤكد إنسانية الإنسان أو ينفيها. أقول إذا كان الشعر جزءا من كل نفس إنسانية، فقد عرفت الإنسانية الشعر حيث لم يكن لها أبجدية، وحيث لم تكن تعرف القراءة والكتابة، ومع ذلك كانت تغني أغاني العمل وأغاني الحرب وأغاني الحب، فهل يرجى لهذا الإنسان الذي يدعي أنه يتقدم، أن يتخلص من إنسانيته بالتخلص من الشعر. هذا شيء مستحيل، ذلك لأن الشعر من حيث الشكل هو أقرب الأشكال العصرية لطبيعة الزمن العصري، توفر الوقت، ولكنها في الوقت نفسه ابتلعته ابتلاعا شديدا، لأن وسائل الاتصال تخلق كثافة من الحركة وليست توفر هذه الحركة، فحينما يكون لديك هاتف أو سيارة فأنت تتحرك أسرع مما لو لم يكن لديك هذا الهاتف أو تلك السيارة، وأنت تتصور أن الهاتف سيوفر لك وقتا أو السيارة، ولكن الحقيقة هي العكس لأن الهاتف والسيارة سيجلبان لك مزيدا من الحركة في العالم، وبهذا سيأكلان الوقت المتبقي.
ويؤكد الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة أن الإنسان يواجه انقراض هذه الذات في زحمة العمل، وفي زحمة الطموح والتنافس ودوامة الحياة العصرية، ولا شاطئ ولا منجاة له إلا بالخلو أحيانا إلى نفسه فيراها في قصيدة شعرية، وطالما ظل الإنسان يحمل هذا اللقب فيسظل الشعر كامنا في أعماقه ينتظر لحظة الظهور ليشبع فيها حقيقته الأساسية.

الشاعر فولاذ عبدالله الأنور يرى أنه في ضوء التحولات الباهظة على الساحة العربية من حولنا، وفي ضوء الغزو الإعلامي يصبح من المجازفة التنبؤ بمستقبل القصيدة العربية، ففي كل يوم تحدث المتغيرات، ونوشك أن نلمس تراجع الآداب والفنون بشكل عام، والشعر بشكل خاص، لكن سوف يظل للشعر وجوده ومستقبله، والحركة الأدبية في مصر تبشر بأجيال جديدة، مازالت تواصل طريقها، رغم كل هذه المطروحات المعاصرة. 
وفي تصور الأنور أنه إذا كانت هناك حتمية للحديث عن مستقبل القصيدة فيمكن أن أقول إن مستقبلها مرتبط بمدى اقترابها أو ابتعادها عن الحس الدرامي – إن جاز هذا التعبير – هذه واحدة، والنقطة الثانية أن هناك جهات ينبغي عليها أن تحتشد من الآن لمستقبل القصيدة من خلال ما نلمسه من واقعها المعاصر هذه الجهات على الترتيب: 1 – وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزيون والإذاعة والصحافة. 2 – الجامعة، فما زالت الجامعة تدور حول التراث من ناحية والحداثة من ناحية أخرى دونما غرس مجرد عادة التذوق لدى الطالب الجامعي. 3 – أن تكون المصنفات الفنية خاضعة لرقابة صارمة تحاول أن تقدم كل ما هو جاد، وكل ما من شأنه أن يرتقي بمشاعر ولغة وكيان الإنسان المعاصر.
أما الناقد الراحل الدكتور محمد مصطفى هدارة فكان رأيه أن الحياة الأدبية – كما يراها وكما يتوقعها مستقبلا – أصبحت بصفة عامة متدنية ومتدهورة والأسباب في ذلك كثيرة. ويقول: لعلي ألفت نظرك إلى نقطة قد تبدو بسيطة ولكنها  في الحقيقة حيوية ودالة على ما نتكلم فيه الآن، فلو نظرنا إلى طلاب القسم الأدبي في المدارس الثانوية بمصر على سبيل المثال، وطلاب القسم العلمي أو الرياضيات فسنجد أنه من بين كل 30 فصلا يوجد فصل أدبي واحد، ويوجد في كل مدرسة سبعة أو عشرة فصول علمية ورياضية. إذن مشكلة الأدب في عصر العلم، مشكلة خطيرة جدا، ولازلت أتذكر كتابا قرأته منذ سنوات بعنوان "الأدب في عصر العلم"، لعل د. عثمان نويه ترجم كتابا شبيها بهذا الكتاب في فترة من الفترات. الناس جميعا الآن مشغولة بالعلم والإنجازات العلمية، فالعلم أصبح فتنة، والنظرة إلى الأدب لم تعد هي النظرة السابقة، لكن كما نقول دائما إن حاجة الإنسان الفطرية للأدب لا يمكن أن تنتهي، فبعد عناء يوم بالنسبة لمن هو يشتغل بالعلم أو بالصناعة أو بأي أمر من أمور الحياة في هذا العصر الملئ بالتكنولوجيا، وما إلى ذلك لا بد أن يحتاج إلى فترة استجمام وراحة بدنية وعقلية، بأن يلجأ إلى قصة أو قصيدة من الشعر أو قطعة من الأدب، أي أن الفن والأدب ضروريان في حياة كل إنسان من حيث الناحية النظرية، لكننا نقول ذلك بالنسبة لمجتمع مثقف، لكن إذا اجتمعت مع الرغبة في هذا الاتجاه العلمي الأمية، سنجد أننا في محنة حقيقية وأن الأدب في محنة حقيقية.

Poetry
المحنة الحقيقية 

ولعل المحنة الحقيقية التي أشار إليها الدكتور هدارة – يرحمه الله – تتمثل الآن في الشعر، فهو على المحك الآن، ذلك أن الشعر العربي الراهن – كما أشار بعض النقاد في كتاب "حالة الشعر العربي" الذي صدر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية 2019 - يمثل ما تطرحه الذات العربية من إشكالات وجودية مرتبطة بواقع مجتمعاتها، فلم يعد الشعر منشغلا بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي انشغل بها نظيره في العقود السابقة، فانشغاله الأساس أصبح تأمل الذات في كوامنها أو في علاقاتها سواء بالوجود أو بالعالم أو بالآخر، مما أدى إلى ابتعاد الشعراء عن التفاعل مع حركة مجتمعاتهم وقضاياها الكبرى، وجعلهم ينتجون نصوصا لا تنجح في خلق تواصل مع قارئ يبحث عن الخيط الذي يرشده لفهم النص والاستمتاع بجمالياته.
فضلا عن أن واقع النشر في العالم العربي أثبت أن قراءة الشعر في تراجع مستمر، وأن هناك تراجع في منشورات الشعر ونقده، وأن الإعلام لا يفي الدواوين الشعرية حقها. وأن الشعر ينتعش في حلقات ضيقة، حيث إنه لم يعد جماهيريا، مع انحسار "المهرجانات" الشعرية الكبيرة، ويبدو أن الجمهور فقد شغفه القديم بالقصيدة.
كما أشار تقرير حالة الشعر إلى أن الشعر العربي يتنازعه فنّان السرد والشعر العامي (اللغة المحكية) وربما استطاعا أن يسحبا البساط من تحت الحضور الطاغي الذي ظل الشعر يتمتع به لقرون سلفت، حيث لوحظ الرواج والحضور الطاغي للسرد/ الرواية باعتباره فن التفاصيل.
كما لاحظ الباحثون المشاركون في كتابة "التقرير" أن المنجز النقدي هو الحلقة الأضعف، وأن دور النشر لا ترحب بنشر الكتب النقدية، وأن الدراسات النقدية الخاصة بالشعر قليلة نسبيا حتى في الرسائل والأطاريح الأكاديمية قياسا بالدراسات السردية. وأن حال النقد الشعري يتراجع بقوة.
غير أن الناقد العراقي د. علي جعفر العلاق يرى أنه مع كل ما يقال عن الرواية وصعودها الراهن، يظل الشعر أكثر فنون القول التصاقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط. بينما يرى الناقد السعودي د. حسن بن فهد الهويمل أن الانفجار السردي غير المنضبط أذهب سلطان الشعر، وأحل مكانه سلطان السرد، الأمر الذي حمل الناقد د. جابر عصفور على القول بأن الزمن "زمن الرواية".