"همس النجوم" حكاية الحارة اللامُتناهية

البيئة المكانية تكتسبُ صفة البطل أو المحرّك الأساسي في أعمال نجيب محفوظ. 
نجيب محفوظ تمكنَّ من نقلِ الحس الشعبي وخصوصيات حضارة بلده والأعراف والتقاليد الدينية إلى نصوصه الروائية
نجيب محفوظ أكثر تفوّقاً من جون شتنانيك في تصوير شخصياته والأجواء الشعبية لواقع مُجتمعه
الحارات التي تتحولُ إلى خلفية مكانية لمرويات نجيب محفوظ هي بحجم الكون

 تكتسبُ البيئة المكانية صفة البطل أو المحرّك الأساسي في أعمال نجيب محفوظ. فالحارةُ هي الشاهدُ على الأحداث والشخصيات والصراعات المُحتدمة بين الأطراف المُتخاصمة في معظم روايات صاحب "أفراح قبة". لذا قال نفرٌ من النقاد بأنَّ الحارات التي تتحولُ إلى خلفية مكانية لمرويات نجيب محفوظ هي بحجم الكون، بمعنى أنَّ ما يدور في تلك الجغرافية المُحدّدة تُمثل همومَ وتطلعات الإنسان حيثما يكون. زيادة على ذلك فإنَّ مؤلف "ميرامار" قد تمكنَّ من نقلِ الحس الشعبي وخصوصيات حضارة بلده والأعراف والتقاليد الدينية إلى نصوصه الروائية.
يرى النقّاد بأنَّ نجيب محفوظ أكثر تفوّقاً من جون شتنانيك في تصوير شخصياته والأجواء الشعبية لواقع مُجتمعه. فعلاً تطوفُ ذكريات الأزقّة والبنية المعمارية لمدينة القاهرة في كلّ ما كتبهُ نجيب محفوظ، بما فيه شذراته التي نُشرت بعنوان «أحلام فترة نقاهة»، كما تأتي مضامين آخر ما صدر لنجيب محفوظ بعد رحيله عام 2006 «همس النجوم» لتؤكّد مدى إنشداد أديب نوبل إلى فضاء زاخر بقصص وحكايات ومورث حضاري.
ضفْ إلى ذلك، فإنَّ القصص التي يضمّها هذا المؤلف تمتازُ بالإيجاز والكثافة مُعبّرةً عن تراكم معرفي وبصيرة حادة لكاتبها، إذ يرسمُ مشاهدَ نابضة بكل ما في الحياة من المفارقات والتقلّبات التي تُباغت المرءَ.
عليه، فإنَّ الخفة هي ما تتميّزُ به حركةُ السرد لمحتويات هذه المجموعة القصصية، فالكاتبُ مدركُ لما تتطلّبهُ المادة القصصية من جزالة اللغة وعدم الإسراف في إيراد التفاصيل، فبالتالي يكونُ المُتلقّي مُكلّفاً بسدّ الثغرات بناءً على ما يتابعهُ في سياق القصة، وهو أمرُ يزيدُ من فاعلية حضور القارئ الذي يصبحُ دورهُ مُكمّلاً وليس مجرّد مُستهلكٍ للأثر الإبداعي.

شخصية علي زيدان في قصة "العمر لعبة" يُذكّرك بالبطل الضدّ في رواية "حضرة المحترم". فالزمنُ هو الثيمة الأساسية في العملين

تشكيلة متوازنة
صحيح أنَّ المساحة المحدودة للقصّة لا توفّرُ مجالاً للإبانة عن الحيثيات التكوينية للشخصيات والخلفيات الفكرية والدوافع وراء الحدث، لأنَّ التمليح من الخصائص المائزة للغة القصة، لذا كثيراً ما يحدّدُ القاصُ مسبقاً خطّه في الكتابةِ مُعطياً الأولوية لعنصر دون الآخر في برنامجه، فيما المُتأمّلُ لتشكيلة نجيب محفوظ يكتشفُ بأنَّ الأخير أراد إيجاد التوازن بين عناصر القصة الأساسية، وإن توحي بعض العناوين الداخلية بوجود الإختلاف في النواة التي تنطلقُ منها القصة.
وما يوهمُ بذلك أكثر هي العناوين الفرعية المحيلة إلى عنصر الشخصية تارة أو إلى الحدث أو الفكرة تارة أخرى، غير أنَّ ما يتسلسلُ وراء العتبات الداخلية يُظهرُ بناءً متوازناً، إذ تستمدُّ القصّة زخمها من الدعامات الثلاث «الشخصية، الحدث، الفكرة»، وهذا لا يعني نفي الإحتمال بأن تكونُ ظلال الأفكار أكثر وضوحاً أحياناً أو دور الشخصية والحدث أكبر في تركيبة القصةِ أحياناً أخرى.
مطاردة
ويحملُ عنوان القصة الأولى «مطاردة» دلالاتٍ موحية بمحورية الحدث في بنائها، إذ تبدأُ بعودة زكية إلى الحارة حيثُ تتواردُ الإيماءاتُ عن ماضي الشخصية، فهي ورثت مهنة الخادمة من أمّها، لذا ما أن تصل إلى الحارة حتى تنقلُ عينيها بين البيوت الثلاثة التي إشتغلت فيها ومن ثُمَّ تسمّرت عند بيت المعلّم عثمان بائع المظلّات والعصي وأرادت أن تُسمعه صوتها عندما نادت بالحلوى، إلى أن تفتحَ حلقة الحوار بين الإثنين ويُفهم من الكلام المُتبادل أنّ الطفل الذي تحتضنهُ زكية يُنسب إلى المكان الذي غابت عنه، وهذا ما يتضّحُ أكثر من قولها بأنَّ الطفل يريد الحقَّ الذي شرّعه الله.
ولا تقتنعُ زكية بصدقات المُعلم، فتمضي في مُطاردته إلى أن يلوذَ المعلمُ بالشيخ ليشفعَ له عند بائعة الحلوى، مبدياً إستعداده للإعتراف بأبوة الطفل، ومُقترحاً إقامتها في مسكن خارج الحارة. لكن الشيخ يبلغه بأنَّ المرأة متمسّكة بما تريد ولن تتراجع. ومن الواضح أنّ الكاتب قد برع في توظيف تقنية الإضمار في سرده، ولا يخلو المضمونُ من أطياف رمزية.
توحيدة
يعالجُ نجيب محفوظ في قصة «توحيدة» مفهومَ الزمن من خلال شخصيتى الراوي وتوحيدة. إذ يتمُ تحديد موقع البيت الذي وُصِفَ بالأبيض لأنَّ أهله من بشرة بيضاء، وكانت توحيدة من سلالة هذا المكان، فإنضمّت إلى أسرة الراوي بعلاقة الزيجة، وبهذا تتحوّلُ شخصية توحيدة إلى مركز السرد، إلى حين يصف الراوي جمالها الباهر، وتنتهي القصة بلحظة لقائه بتوحيدة دون أن يعرفها لأول وهلة لما مرَّ على غيابها ردحٌ من الزمن الذي نزعَ منها الفتنة والجمال.  

short story
أطياف رمزية

العصيان
المُتابعُ لمسيرة نجيب محفوظ الإبداعية يلاحظُ بأنَّ موضوع الثورة والتمرّد على السلطة ركنُ أساسي في معماره الروائي، وذلك ما نراه خصوصاً في «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وما يتناولهُ في قصة «ابن الحارة» حيثُ يعلنُ منْ اتخذ القبو مأواه بأنَّ صوتاً من الحصن القديم طلبه بأن يبلغ المعلمَ بردِ كلّ ملّيم حرامٍ في ماله إلى مُستحقه. وجهٌ آخر للصراع الأزلي بين الخير والشر.
وعلى هذا المنوال، تنتظمُ وقائع قصة «نبقة في الحصن القديم» التي تدور حول شخصية نبقة، الذي نذره أبوه لخدمة الزاوية، بعدما توفّي أبناؤه السبعة في الوباء الكبير. إذ يثورُ ابنُ الزاوية على الشيخ مُتّهماً إيّاه بأنّه لا يحترم القانون، لذا لا يصحُّ أن يطلب من غيره الإلتزام به. وبعدما تنتفضُ الحارةُ وتشتدُّ حدّة التعارك، يختفي نبقة وتتضاربُ عنه الأخبار.
وتنضوي قصةُ «السهم» أيضاً ضمن الصنف نفسه، وبينما يتّخذُ السردُ في قصة «شيخون» منحى آخر، إذ كسب شيخون ثقة أهل الحارة بالكشف عن كرامته وعلاج المرضى، وذلك لم يرقْ لمن أعتبروا الصفوة، فكانت نبوءته بأنَّ كل إنسان يتصالح مع همومه قبل مغيب شمس الغد. أثارت مخاوف هؤلاء النخبة، لذلك تواطؤا عليه وأُلبس شيخون جلباب المجانين.
نفحات رومانسية
ينفتحُ عالم محفوظ على نفحات رومانسية ممتزجة بطابع تراجيدي مشحون بالسؤال عن الغيب والمجهول والمصير، وكل ذلك ينعكسُ في إيقاع قصة «همس النجوم»، و«النحس» و«سر آخر الليل». عطفاً على ما سبق، فإنَّ قصة «أبونا عجوة» تضمر في أعطافها الحكمة والإشارات الإستشرافية.
كما يرصدُ مؤلف «ثرثرة فوق النيل» ما تعجّ به الحياةُ من المفارقات في نهاية المعلّم صقر والفرن. فإذا كانت في الأولى ينقلب فيها موقف شخصية المعلم من صاحب الشأن الرفيع إلى الإحراج الشديد والمرض نتيجة هروب عروسه الشابة، فإنَّ واقع عم جمعة يتبدلُ في القصة الثانية، بعدما تنقذه إبنته الهاربة مع الفران من الإفلاس، إذ تفتحُ عيشةُ فرناً لزوجها بالحلي والأموال التي أخذتها من بيت والدها. وفي ذروة التعاسة يتلقى عم جمعة أموالاً مُرسلة من ابنته عن طريق الفران العاشق.
وتتراوحُ قصص العاصفة، ودعاء الشيخ قاف، والصرخة، ونصيبك في الحياة بين الواقع والروحانية الدفينة في طيّات النص موشحةً بعجائبية شفيفة. ويشار إلى أنّ كل قصةٍ تحتفظُ بشيفرتها الخاصة، مع أنَّ العبارات المؤشرة إلى التصميم المكاني لا تتغيّرُ كثيراً من قصة إلى أخرى. كما أنّ الحصن القديم والقبو معادلُ للبيت الكبير في "أولاد حارتنا" والتكية أو السور العتيق في "الحرافيش".
زدْ إلى ذلك، فإنَّ شخصية علي زيدان في قصة "العمر لعبة" يُذكّرك بالبطل الضدّ في رواية "حضرة المحترم". فالزمنُ هو الثيمة الأساسية في العملين.