... ولكانت الحرية تضيء الشرق

حري بالإسلام والمسلمين أولا أن يتصدوا لهذا المشروع الإسلامي الأقلوي، فلا يتلطى بعض المرجعيات وراء رسم كاريكاتوري ليبرروا الإرهاب والعداء.
الإسلام يواصل البحث عن توازن مفقود بين الدين والدولة
وجه امرأة مسلمة أشهر رمز للحرية في العالم. لو يدري الإسلاميون ذلك لعادوا مسلمين
فرنسا تعاني علمنة أصولية متطرفة ضربت تراثها المسيحي الكاثوليكي الذي صنع عظمتها عبر التاريخ

لو يدري الإسلاميون أن تمثال الحرية في نيويورك استوحاه النحات الفرنسي أوغست بارتولدي سنة 1885 من وجه امرأة مسلمة في قرية "أبو سنبل" من بلاد النوبة المصرية. لو يدري الإسلاميون أيضا أن بارتولدي أراد رفع النصب الأساسي على مدخل قناة السويس مع عبارة "الحرية تضيء الشرق"، فاعتذر منه الخديوي إسماعيل باشا وأعطى أولوية الإنفاق المالي لشق القناة، فحققه بارتولدي في نيويورك سنة 1886 ليصبح وجه امرأة مسلمة أشهر رمز للحرية في العالم. لو يدري الإسلاميون ذلك لعادوا مسلمين، ولكانت "الحرية تضيء الشرق".

خلافا لما يظن، ليس الدين رادع الحرية، وليست العلمنة شرط الحرية. فعدا أن الحرية تولد في الإنسان مع الروح والجسد، مسيحيتي هي هدي حريتي كما يفترض أن يكون الإسلام هدي حرية المسلمين، واليهودية هدي حرية اليهود. كم هي عظيمة هذه الحرية التي، هي والله، يجمعان البشر. وكم هو قاهر أن باسمهما ارتكبت، ولا تزال ترتكب، أسوأ مجازر التاريخ. وإذا كانت المسيحية في الغرب اعتبرت العلمنة تحمي الحرية وتحيد الدين، والمسيحية في الشرق راهنت على العيش المشترك قدرا، فالإسلام يواصل البحث عن توازن مفقود بين الدين والدولة، وبين الإسلام والتعايش مع الآخرين. وإذ نجح مسلمون، أفرادا وجماعات، في مواكبة الحداثة والإبداع فيها، ينتظرون أن يشمل الإصلاح مؤسسة الإسلام الدينية الجامعة، لأن المسلمين هم المتضررون من الجمود ومن التيارات الإسلامية المتطرفة.

كاد الإسلام أن يتلمس الحل في العوالم العربية والأسيوية والأوروبية، فجاء ظهور التنظيمات المتطرفة التكفيرية، واستعادة الفكر السلفي، وبروز الثورة الخمينية، فتعرقل مسار تحديث الإسلام وتأقلمه مع العصر. انتحى المتنورون في الإسلام، وهم الكثرة، ونشب تنافس بين الظلاميين فيه، وهم الناشطون. هكذا تعكرت العلاقات العربية/الفارسية، واغتيل "الربيع العربي"، واستحال تعايش المسلمين مع الإسلاميين، وترنحت علاقة الإسلام عموما مع المجتمعات والأديان الأخرى. وما أحداث باريس سوى بداية تحول في مصير وجود المسلمين في أوروبا. 

تخشى الدول الأوروبية نقل "الربيع العربي" إليها ـــ بخريفه وشتائه ـــ لضرب استقرارها، فقررت (مبدئيا) استباق التطورات والتصدي لـــ"حرب الإسلاميين" بكل الوسائل المتاحة. هكذا صرنا أمام صراع الأديان بموازاة صراع الحضارات وفي غياب العقل والشجاعة. والحوارات بين المسيحية والإسلام لم تتخط ـــ بصراحة ـــ إعلان النيات، فكل طرف ينتظر الآخر على كلمة أو على كاريكاتور...

قبل الخلاف بين الإسلام والعلمنة في أوروبا، لاسيما في فرنسا، توجد إشكالية عميقة بين العلمنة والمسيحية، وبخاصة مع الكاثوليك. فإذ نؤيد العلمنة خط فصل بين الدين والدولة، لا نؤيدها خط فصل بين الدين والإنسان. وعدا أن علمانيين انزلقوا إلى الإلحاد والوثنية وغيروا طبيعة العلاقات البشرية وحوروا مفهوم الحرية، تحولت العلمنة في فرنسا دينا مدنيا يذم بالمسيحيين أولا، ويذنــبهم، ويضطهدهم ويحجرهم كأن المجتمع للعلمنة والزوايا للدين. كاد الكاثوليك أن يصبحوا أهل ذمة لدى العلمانيين، ونكاد نطالب بفصل العلمنة عن الدولة بعدما تـم فصل الدين عن الدولة.

علاوة على الأصوليات الإسلامية تعاني فرنسا علمنة أصولية متطرفة ضربت تراث فرنسا المسيحي الكاثوليكي، وهو الذي صنع عظمتها عبر التاريخ. وبئس أناس يدافعون عن رسوم كاريكاتورية مشينة عوض الدفاع عن القيم الروحية السامية. شاء الشعب الفرنسي العلمنة نظاما مدنيا بعدما الثورة اتهمت الكنيسة الفرنسية بتغطية تجاوزات الملكية واستبدادها، فإذا بالجمهورية الفرنسية اليوم تغطي استبداد العلمنة تشريعا وقوننة.

ما سبق لا يبرر أي عمل إسلامي إرهابي ضد فرنسا؛ فرغم انزعاج المسيحيين من تجاوزات العلمانيين المتطرفين (أمثال جماعة مجلة شارلي إبدو)، لم يقوموا بأي اعتداء. الروح السلمية لديهم أسمى من غرائز التطرف، والقانون مرجعهم لا السيف. العمليات الإرهابية الناتجة عن الرسوم الكاريكاتورية هي بين الإسلاميين المتطرفين والعلمنة المتطرفة، لكن الإسلاميين في فرنسا وفي بعض الدول الإسلامية حولوها معركة بين الإسلام والمسيحية. الحقيقة أن في فرنسا جماعات إسلامية لم تتآلف مع فرنسا ذات التراث الكاثوليكي ولا مع فرنسا ذات الوجه العلماني. هناك إسلاميون يكفرون بالحياة في بلدانهم الإسلامية ويحلمون بالهجرة إلى الغرب والعيش فيه، وما إن يهاجروا ويستقروا في أوروبا حتى يعودوا يمارسون نمط حياة بلدانهم الأم، ويخالفون حياة المجتمعات الأوروبية وقوانينها وتقاليدها، ويحولون مناطق سكنهم "كانتونات" عاصية. فما بالهم، والحال، لا يعودون من حيث أتوا؟

ما يجري اليوم في فرنسا، والغرب عموما، هو أبعد من حجاب أو رسم كاريكاتوري. هو صراع بين مشروع الحوار المسيحي/الإسلامي، وعنوانه الأخوة، وبين مشروع التطرف والتكفير، وعنوانه الإرهاب. لا يقتصر هذا الصراع على الدول الغربية المسيحية، بل يشمل الدول العربية والإسلامية أيضا. والدليل أن ملوكا وأمراء ورؤساء عربا في الخليج والمشرق ومصر والمغرب يشنون حروبا على هذا المشروع المتطرف فيمنعون أئمة من خطبة الجمعة ويعدلون في المناهج التربوية ويسنون قوانين حديثة ويشرعون مجتمعاتهم أمام التطور والتقدم.

يتخذ هذا المشروع المتطرف خمسة أوجه: 1) صراع ديني ناتج عن سوء فهم الدين الإسلامي. 2) صراع عقائدي ناتج عن سوء فهم العلاقات الإنسانية. 3) صراع حضاري ناتج عن سوء استخدام إيجابية الفكر والعقل. 4) صراع نمط حياة ناتج عن سوء فهم العصر والحداثة. 5) وصراع نفساني يائس ناتج عن سوء الحوكمة في البلدان الإسلامية. إذا كان هذا المشروع لا يمثل سوى أقلية إسلامية ناشطة، فخطورته أن أنظمة إسلامية شعبوية، كتركيا أردوغان، تستغله في صراعاتها مع العرب وأوروبا.

لذلك، حري بالإسلام والمسلمين أولا أن يتصدوا لهذا المشروع الإسلامي الأقلوي، فلا يتلطى بعض المرجعيات وراء رسم كاريكاتوري ليبرروا الإرهاب والعداء لفرنسا، الدولة الأوروبية الأكثر قربا من العرب. ويوجب الوضع التداعي الفوري إلى لقاء روحي في الفاتيكان يجمع مرجعيات الديانتين لمواجهة الفتنة البادئة ووأدها في المهد. ويتوجب علينا في لبنان أن نمنع الحملة على فرنسا، الصديقة التاريخية والحالية.