"ومض الأجنحة" بداية اكتمال رؤية قصيدة الومضة

مجموعة جاسم العلي تمتلك الكثير من المقومات منها قوة التصوير والإنسجامات الصوتية التي تكون الموسيقى الشعرية الحية والخالية من الرتابة والإملال.
العلي يحاول اكتناز معظم الدلالات ضمن أرضية ضيقة ومفردات قليلة لها وقع في النفس البشرية
قصيدة الومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره

لا أستغرب أبدا حين أقرأ الكثير من المقالات عن هذه المجموعة الشعرية الأولى للشاعر العراقي جاسم العلي، وخاصة من أسماء مهمة في المجال النقدي في الساحة العراقية والعربية، وهم يشيدون بهذا المنجز الإبداعي الأول، مطالبين الشاعر بالمزيد والمواصلة من أجل الإرتقاء بهذه القصيدة، وأقصد قصيدة "الومضة"  في سماء الإبداع الشعري في أيامنا هذه، ومن هذه الأسماء كما جاء في المجموعة الناقد العراقي اسماعيل ابراهيم عبد - والذي يقول - ببط شديد ونمو مضطرد وبإصرار للإمساك بلحظة الشعر المنتقاة يحتفي الشاعر جاسم العلي بنموذجه الخاص "ومض الأجنحة" وإذ يحتفي بمعنى أنه سيحتوي مسالك الشعرية للومضة الشعرية، ص113 والقصيدة القصيرة، والقصيدة المطولة نوعا ما.
المطرُ الذي لا يشبهُكِ
ينزلُ كالغثيان على روحي (ص70)
على ضوء مزاولته الفعلية واشتراكه في تكوين تجاربه في الحياة التي أراد منها على مر الأيام أن تكون مصنعا يعج بالقيم والمفاهيم الفلسفية، وحينها كان مأخوذا بعلم جمال اللغة، بعد أن عمل في المشهد المسرحي والشعري منذُ ُ صباه في مدينته الثورة، والذي عمّق لديه القيم والمثل في نفسه من خلال قراءاته المتصلة التي أدخلته في هذا الحقل المعرفي حتى إنه اشتغل على معرفة جميع الآداب التي انطلقت من اليونانية واللاتينية القديمة حتى يومنا هذا.
على أي المداخل؟
أضفنا خطونا ونسجنا
للوهم أغنية العناكب
أو نشيد الأقحوان (ص109)

نظل حالمين بألحان مجنحة، وفي أجواء منغمة لما للحياة من طعم آخر

وقد حالفني الحظ أن التقيه في بغداد في زيارتي الأخيرة، وأحصل على نسخة من ديوانه المعنون "ومض الأجنحة" الصادر من دار نشر مؤسسة ثائر العصامي، والمجموعة من القطع المتوسط وتقع في 118 صفحة، ولأن الشاعر قضية وموقف ترتبط مع البيئة والثقافة، فأراد الشاعر والمسرحي العلي أن يرسل تلك الإشارات المعرفية عبر الدهشة والذهول لكي يحرك وعي القارىْ وتوجيهه حتى يسهم إسهاما مماثلا فيعمق الوعي، والأدب برمته شق للحجب ومحو للطلاء حتى تتكشف الإنسانية من حقيقتها.
المقابر ُالخفية ُفينا
تعبر بظلالها جسور
الأزمنة (ص 35)
وبدورنا وفي هذه المرحلة المهمة من حياتنا، أن نشجع أي منجز أدبي، وأن نبحث عن مواضع الجمال والروعة فيه، فكيف وبين يدي مجموعة شعرية تمتلك الكثير من المقومات منها قوة التصوير وفيها من الإنسجامات الصوتية التي تكون الموسيقى الشعرية الحية والخالية من الرتابة والإملال، والشاعر العلي في هذه المجموعة الشعرية الأولى يعبئ الروح المعنوية منطلقا من نصوصه الشعرية المستغرقة في هذا الشجن اليومي والتأمل الذي لا ينقطع من ذهن هذا الشاعر الحالم.
على صغرها كفك
كأن أمومة
الأرض بها (ص 129)
والعلي الذي عرفته عن قرب يحاول بهذه المجموعة اكتناز معظم الدلالات ضمن أرضية ضيقة ومفردات قليلة لها وقع في النفس البشرية، وإلا ما هي الأسباب التي دعت الشاعر العلي من أن يحمل خصوصية متفردة يسعى من خلالها إلى التجريب والتفرد في صوره الشعرية القصيرة التي عمّقها حسب مخزونه المعرفي وكذلك منظوره الجمالي الذي يلفت النظر في معظم قصائده "الباء، الواو، لقاء، انغلاق" وغيرها الكثير من القصائد.
ينهمر ُالوجعُ المقفى
بالرصاص
فتذكر ُتلك  الليالي والسؤال
والصور (ص 81)
وكما يقال عن قصيدة الومضة، هي شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره، فا للا منتظر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية عادية، حتى يبعث لك ومن خلال نصوصه الشعرية القصيرة تلك الرسائل الجمالية والمعرفية إلى الآخر المتابع، وتبقى نصوصه هي طرح المعادل الموضوعي على صعيد ما يرسمه في وعيه من علاقات خارجية، والذي يعرف الشاعر العلي يجده قلقا في طرح قضاياه وأفكاره ، لأن الأستقرار الداخلي هو ناتج عن اضطراب الرؤية الخارجية، لذلك ينعكس الهمّ الحياتي على الهمّ الشعري انعكاسا تراكميا ينتج عن نص ينطوي على المواجهة والتحدي.
حين تصير الأحلام
على أرصفة ِ
الوجع
محض سراب (ص60)
وهذه المجموعة هي صراخات داخلية مشتعلة بفلسفة الحياة المعبأة بلون الحزن، فيعبر عنها من خلال قدرته على التلاعب بالكلمات والمعاني، وهو من الذين قست عليهم الحياة كغيره من آلاف الرجال، وتقصير ملكته عن تحقيق طموحهم، إلا أنه أحسن نسيج تصوير مفرداته الشعرية بدقة وأمانة. 
والعارف أو الدارس يجد في الشعر التصويري والذي يستمد جماله من روعة هذا التصوير أكثر مما يستمد من موسيقاه وخاصة في القصائد الطوال في هذه المجموعة التي تتضمن 90 نصا شعريا ينقسم بين الومض القصير والمتوسط والطويل.
لا ترقد بمساحات ِ
الحلم
والأزقة ُتتوهج ُ
بجثامين الورد
معراج ألم (ص65)
وأخيرا نحن - وهو - نظل حالمين بألحان مجنحة، وفي أجواء منغمة لما للحياة من طعم آخر، حتى أنه ومن خلال هذه المجموعة قدّم لنا إضافة مميزة للمكتبه العربية في عالم شعر الومضة التي هي أداة للتعبير عن باطن النفس.
وقود ُالأيام ُ
على الأعتاب
ورود
ووتر ُالآه النازف ُ
بالروح
صرخة ُعود.