أنا والمصوراتية

يعلمهم كيف يلتقطون الصور

لا أحب دخول محلات المصوراتية، فالمصوراتي يجعلني أتابع صورتي بعد أن يصورها؛ وأنا لا أحب أن أشاهد نفسي، ولا أذهب للمصوراتي إلا للضرورة القصوى، استخراج استمارة لا بد لها من صورة أو كارنيه، خاصة كارنيه مكتبة البلدية الذي كنت أحرص على استخراجه طوال السنوات الماضية.

وكنت أبحث بين أصدقائي عن الصور التي سبق أن أهديتها إليهم.

وحدث أن أجرت الأديبة والصحفية سعاد سليمان حديثا معي لجريدة القاهرة، وطلبت صورة، فقدمت إليها واحدة كانت معي في المحفظة، فلم تعجبها، فوعدت بأن أرسل إليها صورة أخرى ولم أفعل، فاتصلت بي في المنزل حيث لم أكن موجودا وطلبت الصورة بإلحاح، لأن الموضوع لا بد أن يصل الجريدة اليوم، واقترحتْ أن أرسل الصورة إليها عن طريق سائق السوبر جيت، فاتصلت بابني في عمله، وجاء مسرعا، وأخذ الصورة وأرسلها إليها عن طريق السوبر جيت. ونشرت سعاد سليمان الموضوع بالصورة التي سبق أن رفضتها.

وكان الناشرون يطلبون مني صورا لنشرها في آخر الكتاب، فلا أجد، فأبحث بين الصور الجماعية، وأقص منها صورة لي؛ تصلح لأن تكون في ظهر الكتاب.

وعندما حصلت على الجائزة الأولى في الرواية وذهبت إلى نادي القصة بالقاهرة لاستلام الجائزة، جاءني شاب وقال لي:

- لقد التقطت لك صورتين، واحدة وأنت تتسلم الجائزة من الأستاذ ثروت أباظة. والأخرى وأنت تزيل الستار عن لوحة الشرف مع الأستاذ ثروت أباظة.

فقلت له: لكنني لا أريدهما.

فشرد الشاب قليلا ومشي من أمامي، ثم عاد ومعه آخر أكبر منه، قال في حدة:

- أنت ليه مش عايز الصورة؟!

قلت: مش عايزها.

وانتهى الموقف بأن دفعت لهما مبلغا صغيرا مقابل النيجاتيف. وأعطاني إيصالا قائلا:

- لو عايز الصورتين ستجدهما في الأستوديو.(ولم أذهب لاستلامهما).

وقد جاء إلى منطقتنا مدرس ابتدائي مجنون بالتصوير، وافتتح محلا في شارع راغب باشا، فجعل للتصوير طعما آخر، لم نتذوقه من قبل. كان يتفنن في التقاط الصور؛ متأثرا بالخواجه آرتين الأرمني الذي كان دكانه في شارع عبدالمنعم قريبا جدا من مبني مديرية الأمن القديمة في الإسكندرية، وكانت لديه أساليب جديدة في التصوير، فمرة ترى نفسك في الصورة وأنت تقود طائرة أو دبابة، أو قطار سكة حديد، ومرة مرتديا ملابس الخواجات ... الخ.

هكذا فعل مدرس الابتدائي، فدفع الشباب للحضور إليه، ليتصوروا دون مناسبة، فقبله كان لا بد للتصوير من مناسبة، استخراج بطاقة شخصية، أو تقديم أوراق للالتحاق للعمل.. الخ.

تصور الشباب في أوضاع جديدة عليهم، مرة وهم يضعون وجوههم على أياديهم، ومرة وهم يركبون الموتسكل.. الخ . وكان لدى المدرس الابتدائي ملابس يرتديها المتصورون، فيبدون في صورة لم يروها في أنفسهم من قبل.

وتصور أحد الشباب ممن يهتمون بلعبة كمال الأجسام بأول مرتب له من شركة معسل سلوم التي كانت قريبة من ضريح سيدي أبي الدرداء، وآخر تصور وهو راكع على ساقيه ورافعا يديه لأعلى، وكتب له مدرس الابتدائي - طبقا لطلبه – يارب نعمة. وعلقها الشاب في دكان بقال - في الحارة - كنا نجتمع عنده كل يوم، لكي تراها نعمة الجميلة التي كان يحبها وهي لا تسأل عنه.

كان مدرس الابتدائي يجلس أمام دكانه في شارع راغب باشا، وحوله مجموعة من الشباب أحبوا مهنة التصوير، فكان يعلمهم كيف يلتقطون الصور، وبعضهم أخذ منه الكاميرا ليصور أهله في البيت، وآخر أخذ منه الكاميرا ليصور الناس في حديقة الحيوانات بالنزهة، وفي شواطئ الإسكندرية صيفا، وكان مدرس الابتدائي يحاسبهم على تحميض الأفلام وطبع الصور.

كثير من هؤلاء تحولوا إلى مصوراتية بفضل هذا المدرس الذي أحب التصوير بجنون، وكان يأخذ بعضهم معه لحضور اجتماع نادي الكاميرا بأتيلية الكتاب والفنانين، وبعضهم أصبح عضوا في النادي مثله. وبعضهم أفتتح محلات تصوير في محطة مصر ومحطة الرمل.

وبعد موت ابني لم أجد له صورة كبيرة لأعلقها في الشقة، فأخذت صورة صغيرة له – أبيض وأسود – وذهبت لمدرس الإبتدائي لكي يكبرها، وكانت أفلام الأبيض والأسود شحيحة، بعد أن ساد التصوير الملون، لكنه أخذ الصورة مني ولونها بريشته وألوانه، واستخرج منها صورة كبيرة أعلقها في مدخل الشقة للآن.