مؤتمر التسامح: هناك فجوة بين ما نقوله عن أنفسنا وما نعامل به غيرنا
المتتبع لأنشطة جائزة الشيخ زايد للكتاب يرى أنها تصدر عن إيمان بثقافة التسامح وبالحوار بين الحضارات والثقافات ونبذ العنف والتعصب، وفي إطار الاحتفاء بعام التسامح الذي أطلقه في ديسمبر/كانون الأول عام 2018 الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ليكون العام 2019 عاما للتسامح، نظمت الجائزة ندوة فكرية موسعة امتدت على مدار يوم كامل ضمن ثلاث جلسات تابعت الأولى تطور المصطلح ومفهومه في اللغة والفلسفة وإبراز دورها في بناء ثقافة العيش المشترك وحوار الثقافات، وحللت الثانية التسامح في فكر الشيخ زايد وفكر غاندي، وتوقفت الأخيرة عند قيم التسامح في الشعر وأثر تجلياته عليه.
انطلقت أولى جلسات الندوة بكلمة د.علي بن تميم الأمين العام لجائزة الشيخ زايد للكتاب، الذي أكد على أن قنديل التسامح سيظل منيرا فينا كالكوكب الدري ونحن نشعل بعد أيام قليلة شمعة 2020، وقال يحكى بأن الماجدي بن ظاهر أقدم شاعر نبطي إماراتي، اعتاد أن يظهر في الحكايات التي تروى عنه فيستقبل الضيوف، لكننا نجهل أسماءهم، فلا تذكر الحكايات إلا أسماء الأشياء والأشجار، أما الشخصيات فلا تذكر، وكأن رمزية الحكايات تقول بأن ذاكرة المكان أبقى، والغافة في حكايات المايدي عادة ما تذكر بالاسم، وقد نسيت الروايات التي تنساب وتتوالى منذ أكثر من ثلاثة قرون، بقية الأسماء، وظلت شجرة الغاف التي تتخذها الإمارات رمزًا للتسامح حاضرة، لكن الكائنات وإن طواها الموت لا يمكن بعثها حتى إن كان الدواء هو الغاف، والماجدي يدرك ذلك ويتحسر على أن الغافة، تمتلك فوائد شتى إلا إيقاف الموت، يقول المايدي: "الغاف لو ينفع نفع "إختيله".. ماتت وهوه لْها يخَرط الكيله"، واختيلة هنا اسم ناقته التي ماتت رغم أنه فزع إلى الغاف ليجلب لها قبضة فتنجو من الموت. فهل كان الماجدي يتماهى مع ناقته كما سبق ان فعل المثقب العبدي: "إذا ما قمتُ أرحلها بليلٍ.. تأوَّهُ آهة َالرَّجلِ الحزينِ".
اللغة واللهجة في الإمارات مليئة بمفردات التسامح فنجد شكلين من أشكال التسامح في اللهجة الأولى المفردة والثاني القوالب الكلامية أو العبارات المسكوكة الجاهزة التي تستخدم في الحياة اليومية
وأشار بن تميم إلى أن الشعر بقي يقتبس من القيم الأخلاقية ومنها السماحة التي صارت جوهرة في يد الشعراء، يقبسون منها ويقتبسون، يقول د.علي جعفر العلاق الذي نهنئه على فوزه بجائزة سلطان العويس للشعر، في نصه الذي يصور الشاعر فيه لحظة التجلي والإبداع، "يتناسى الإساءة" " يغفر الأخطاء":
قيل: ظل كعادته شارداً
مثل من يتأمل ساقيةً ..
قيل عنه: فتىً يتناسى الإساءةَ
قيل: يحبّ تصيّدها ..
قيل: مكتئبٌ، منتشٍ، شاردٌ
مثل من يتأمل ساقيةً
أو غراب ..
كان يذكر أصحابهُ
ثم يغفر أخطاءهُم، ثم يضحكُ ..
ثم يفكّ عصافيرهُ كلها
في الضبابْ ..
وناقشت الجلسة الأولى التي أدارها د.خليل الشيخ التسامح مصطلحا ومفهوما وتطورا، حيث تتبعت د.ضياء الكعبي أستاذة السرديات والنقد الأدبي المساعد بجامعة البحرين مفهوم التسامح انطلاقا من الفلسفية اليونانية ممثلة في أرسطو وأفلاطون وأريسموس وحتى فلاسفة القرن القرنين التاسع عشر والعشرين مثل كانط وبول ريكور الذي تحدث في مجمل مشروعه الفلسفي عند التسامح بطريقة أو بأخرى خاصة في كتابة "الذاكرة.. التاريخ.. النسيان" وأيضا جون ستيوارت مِل الذي كان يستبدل الحرّيّة بالتسامح، ويقدِّمه عليها، باعتباره من أهمّ عناصر روح العصر في الانتقال من مرحلة الخنوع والعبوديّة إلى مرحلة الانفتاح والتحرُّر، وكذلك جون لوك الذي سعى في رسالته "رسالة التسامح" إلى تأصيل المفهوم خاصة في الجانب الديني، داعيا إلى الفصل بين الدين والدولة.
وأشارت إلى أن مفهوم التسامح مر بمراحل كثيرة جدا وصولا إلى المرحلة التي نعيشها، حيث يخضع لمراجعة نقدية في الثقافة الغربية كونه مفهوما عابرا قائما على الدراسات البينة والمتعددة، ولم يعد قصرا على الفلسفة الأخلاقية أو السياسة، حيث دخلت فيه الثقافة والسيسولوجيا والأنثربولوجيا وحقوق الأقليات والتنوع الثقافي وحقوق الإنسان.
أما المفكر السعودي د.عبدالله الغذامي فانطلق من أن موضوع التسامح مخاتل كأي مصطلح يتم التعامل معه، فأخطر ما في المفاهيم أنها تستطيع أن تخادعنا وإذا سلمنا لها ومضينا معها مخدوعين وباستمرار، ولكي نسلم من خداعها يجب التسليم بأن مصطلح التسامح هو رغبة إنسانية مطلقة منذ كان الإنسان إلى أبد الآبدين، لا يمكن أن نجد إنسانا لا يؤمن بالتسامح، لكن هناك فجوة بين ما نقوله عن أنفسنا وما نعامل به غيرنا. باستمرار هناك حيل يمارسها الإنسان ضد التسامح كمفهوم وممارسة أيضا.
ولفت أن هناك جذرا في الإنسان يجعل فكرة التسامح لا تستقيم. ورأى أن ثورة الشعوبية ثورة المحظوظين الذين يريدون الكعكة كلها ولا يريدون أن يتقاسمها معهم أحد، لقد جاءت هذه الشعوبية لتلغي مفهوم التسامح. وقال إن الحل في التفاوضية الثقافية التي تقوم أركانها على أربع: العدالة، الحرية، المساواة، التعددية الثقافية، ولا بد أن تمضي هذه الأركان مجتمعة حيث إن سقوط أحد أركانها يعني انهيارها كلها. وقال "هذه التفاوضية الثقافية تأتي بوصفها مخرجا يخفف من حركة القطار باتجاه الكتلة الحرجة ويعيد ترتيب العلاقات البشرية ويفتح بابا للحلم الثقافي من جديد. وفي التفاوضية الثقافية تقوم أسئلة العيش المشترك والتعددية الثقافية بكل وجوهها وهوامشها لتكون قيما متبادلة في معاش تفاوضي يعطي مفهوم العدالة مجالها للتحقق الواقعي والتبادلي بين أطراف الظرف الواحد مع تعدد الوجوه".
ورأى د.رضوان السيد أن الملامح الأولى لمفهوم التسامح برزت واستوت بأوروبا في إطار معارك الحروب الدينية والإصلاح الديني، واتخذت صورة واضحة في الفلسفة السياسية الحديثة خلال القرن السابع عشر، ثم تطور واتسعت دلالاته وتنوعت في القرن العشرين، وقد دعمت الفلسفة بعد الحرب الثانية مقولة التسامح التي تشجع على الحوار عندما دخلت على خطّ الاعتراف بعقائد الآخر وشحصيته وإنسانيته. وبذلك اتخذ التسامُحُ بُعداً جديداً هو بُعْدُ عدم التمييز، فيصبحُ التداوُلُ والتشاوُرُ على قدم المساواة في القيمة الإنسانية، وحقوق الخصوصية للفرد الإنساني.
وبدأت الجلسة الثانية والتي تناولت التسامح في فكر الشيخ زايد وغاندي بتأكيد مديرها عبدالله ماجد آل علي المدير التنفيذي لقطاع دار الكتب في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، أن الشيخ زايد أيقونة عالمية للتسامحِ النابعِ من فطرةٍ سليمة، ومن فهمٍ حقيقيٍ لروحِ الإسلامِ الذي يرفضُ الكراهيةَ والتشدد. وكذلك كانَ المهاتما غاندي الذي قدَّم في حياته المثالَ الأكملَ للتسامحِ ورفضِ التعصب، وخاصةً تجاهَ المسلمينَ الذي يمثلونَ جزءاً مهماً من تاريخِ الهند وشخصيتِها الحضارية. وكما أنصفَ غاندي مسلمي بلادِه ورفضَ كلَّ أشكالِ الكراهيةِ التي يتعرضونَ لها من جانب المتعصبين، فقد أنصفَ الشيخُ زايد الهندوسَ وغيرَهم من الطوائفِ الهندية، فاتحاً أبوابَ الرزقِ الحلالِ أمامَ ملايينِ الهنودِ الذين توافدُوا على الإماراتِ على اختلافِ أديانِهم ومعتقداتِهم، متيحاً لهم حريةَ أداءِ شعائرِهم وعباداتِهم. وبهديٍ من تراثِه في التسامح، وُضع مؤخراً حجرُ الأساسِ للمعبدِ الهندوسيِّ في أبوظبي. الشيخُ زايد وغاندي زعيمان استخدمَا سلطتَهما المعنويةَ في نشرِ التسامحِ والمحبة، ونزْعِ التعصبِ والكراهيةِ، فاستحقا الخلود.
وبدأ السفير السعودي بالإمارات تركي الدخيل لافتا إلى أن عدد الجنسيات المتعايشة على أرض الأمارات في تسامح وسلام وتمارس طقوسها الدينية وحريتها الإنسانية أكثر من عدد الدول المنتظمة في الأمم المتحدة، وذلك نتيجة للأصول والثوابت التي غرسها ووضع قواعدها الشيخ زايد الذي كان يؤكد دائما على أن "الدين الإسلامي ينظر إلى الأديان على حد سواء". وقال إن معياره في العمل منذ كان حاكما للعين كان الكفاءة والاحترافية، وأنه رفض ما كانت تطالب وتروج له جماعة الإخوان المسلمين في مقالاتها بمجلة الإصلاح، حيث كانت تطالبه ألا يكون التوظيف وفقا للكفاءة أو الاحترافية ولكن وفقا للدين.
ورأى أن التسامح ينتظم وفقا للعدل والمساواة وهو ما صحب الشيخ زايد في كل خطواته لبناء الأمة الإماراتية، علم المرأة وجعلها فخرا لقبيلتها وعائلتها وحرص على توظيفها ومساواتها في الأجر مع الرجل.
وعن تسامح الشيخ زايد الديني قال "حكى لي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أن الشيخ زايد كان يقضي أوقات متفاوتة من العام في سرب بني ياس، وكان من بين جلسائه عالم آثار إنجليزي، اكتشف أثناء تنقيبه كنيسة عمرها 1400 عام وخشي إخبار الشيخ زايد بذلك، إذ كيف له أن يواجه رئيس دولة إسلامية بأنه عثر على آثار كنيسة، وقد لمح الشيخ زايد قلق عالم الآثار وأصر على معرفة ما يقلقه، فلما أخبره أزال عنه قلقه وأكد له أن الأجداد قبل الإسلام كان من بينهم المسيحي، ودعمه في عملية التنقيب.
أيضا روى الدخيل نقلا عن الشيخ محمد بن زايد "أنه ـ أي الشيخ محمد ـ ذهب إلى أفريقيا حيث كانت الإمارات تقوم بحفر وبناء الآبار لتوفير المياه العذبة للناس، وكان الحفر والبناء يتم في المناطق الخاصة بالمسلمين، فلما أخبر الشيخ زايد بذلك غضب وقال أنه يجب توفر الماء لكل الناس بغض النظر عن دياناتهم".
أما الدبلوماسي وأحد أبرز الباحثين المسلمين في الهند د.ذكر الرحمن فتوقف في حديثه عند نقاط التشابه بين الشيخ زايد والمهاتما غاندي فكلاهما كافح العنصرية وعدم المساواة ودعيا إلى العدل والسلام والاستقرار وعملا على بناء دولة قوية تؤمن بالتسامح والعيش المشترك بين أصحاب مختلف الأديان.
وفي الجلسة الثالثة التي أدارتها الكاتبة د.فاطمة المزروعي وتناولت قيم التسامح في الشعر العربي، تحدث الشاعر على جعفر العلاق مشيرا إلى أن المجتمعات العربية لم تنعم بمناخ تسامحي حقيقي في الكثير من حقب تاريخها لسببين: أولا طبيعة هذه المجتمعات القائمة على القبلية، وثانيا الولاء الشديد للعرق وحاضرها الملئ بالحروب والتصدعات. وقال إن ذلك انعكس على "طبيعة الشعر العربي التي كانت تنوء بحمولة باهظة من الحماسة والتغني بقيم القبيلة في الكثير من نماذج الشعر، لكنه شعرنا العربي شهد مع ذلك رؤى فردية خلاقة واستثنائية منها: المنصفات وأسميها فروسية التسامح، حيث كان الشاعر العربي يخرج من لحظته الذاتية الضيقة إلى فضاء يستوعب الآخر العدو ويستوعب خصائصه ويعترف ببسالته أو هشاشته.
وقدم العلاق نماذج كثيرا ليحلل ذلك الفضاء التسامحي لدى الشعراء العرب قديما وحديثا من أمثال المثلم المري، أمية بن أبي الصلت والشريف الراضي وغيرهم، يقول المثلم:
"تصيح الردينيات فينا وفيهم ** صياح بنات الماء أصبحن جوعا
خلطن البيوت بالبيوت فأصبحوا ** بني عمنا من يرمهم يرمنا معا"
فتصور هذا العدو الذي كان خصما وأمعنا في قتاله وأمعن في قتالنا، واختلطت البيوت فأصبح جزءا منا ونحن جزء منه، حتى أن الذي يرميهم يرمينا.
وامتدت استشهادات العلاق الشعرية إلى أدونيس ومحمود درويش وعبدالعزيز المقالح ومن هذا الأخير قوله: قبل أن ترفع الخنجر المتوغل في الظهر/ دعني أراك/ فإن دمي حين عانقه شم في نصله مقطعا منك". هنا الشاعر أدرك إيماء للعناق القديم وأدرك آثار رائحة للصداقة، كذا نصه "للصديق الذي باعني/ أنحني مشفقا خاشع القلب/ أقرأ في وجهه أمسنا وإخضرار طفولة أيامنا".
وأشار العلاق إلى مكان التسامح وتسامح المكان، واتساع فضاء النص والتمرد على نقاء نسبه القديم والانفتاح على النصوص الأخرى والاغتناء من كل تفاصيل الحياة.
الكاتب المغربي د.محمد حجو أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس قال "الشعر منتج فني، والفن منتج روحي يربط بين الأفراد والجماعات من حيث هو تعبير نابع من نفس الفنان التي تسعى دائما للحرية من خلال الخلق والابداع. والخلق والابداع في الفن يقومان في مفهوم التربية بمفهومها الواسع "اجتماعي ـ سياسي"، أي التدريب على الحرية داخل الجماعة البشرية، مما يعني أن التسامح مفهوم يحيل بالضرورة على المجتمع الذي يسهر ـ جماعيا ـ على ترسيخ قيمه بين الأفراد وداخل الجماعة الواحدة، وبالتالي بين الجماعات المختلفة. وهذا هو دور الشعر خلق نسق ثقافي إنساني يحتوي الاختلاف في مجمل تجلياته.
وتعمق حجو رابطا بين دور الشعر وقيم التسامح وضرب أمثلة لشعراء مثل صفي الدين الحلي عندما قال:
أتطلبُ من أخٍ خلقاً جليلاً ** وخَلقُ النّاسِ من ماءٍ مَهِينِ
فسامح أن تكدرَ ودّ خلٍّ ** فإنّ المرءَ من ماءٍ وطينِ
وأكد الروائي والشاعر سلطان العميمي مدير أكاديمية الشعر العربي في دائرة الثقافة والسياحة أن اللغة واللهجة في الإمارات مليئة بمفردات التسامح فنجد شكلين من أشكال التسامح في اللهجة الأولى المفردة والثاني القوالب الكلامية أو العبارات المسكوكة الجاهزة التي تستخدم في الحياة اليومية، ومن خلال هذه الأخيرة سندخل إلى بوابة الشعر، فلا يمكن الحديث عن التسامح في المجتمع الاماراتي أو غيره من المجتمعات دون وجود قاعدة داخل المجتمع، إن لم يكن الاتصال حيا بين أفراد المجتمع أنفسهم سيصعب الحديث عن التسامح مع الآخر في الخارج.