
نهاية الفردوس العلمي
يؤشرُ إلى عصر الحداثة بالتقدم العلمي، وما تراكم على هذا الصعيد من الإنجازات التي مكنت من الإنتقال بالإنسان نحو مرحلة جديدة حيث انعتقَ من أسر مشروطيات الجغرافيا، كما تراجعت مخاطر الأوبئة التي كانت تحصد حياة الآف البشر. صحيح أنَّ العلم هو سلاح ذو حدين قد تم بفضله تحقيق مكاسب مهمة إذ يكفي في هذا السياق التذكر بالإنطلاق نحو مدارات كونية خارج كوكب الأرض ناهيك عن التقدم على المستوى الإقتصادي والتجاري، وساد الإعتقاد في العقد الأخير من القرن السابق بأنَّ الديموقراطية ستصبحُ نموذجاً عالمياً لأنظمة الحكم، وبذلك تُضَيقُ الخناق على الحكومات الديكتاتورية والسلطات القمعية، ويبدأُ عهد الشفافية والإنفتاح.
لكن ربًّ قائل يعترضُ على التقريظ للعلم مشيراً إلى ما أحدثهُ من الكوارث نتيجة تضخُمَ قوة الإنسان التدميرية. دعك من غياب الإنصاف في الإمتيازات التى يوفرها التقدم العلمي، وهذا ما يقودنا إلى موضوع أخلاقيات العلم التى كان يدعو إليها الفلاسفة والمفكرون إذ أن عدم التواضع في الشأن العلمي لا تكون عاقبته سوى نتائج وخيمة.
وما يَفرضُ إعادة طرح هذا الموضوع من جديد هو إنتشار فايروس كورونا المستجد "كوفيد 19" وكيل الإتهامات بين الصين وأميركا إذ كل طرف يتهمُ الأخر بأنَّه وراء إطلاق هذا الوباء الذي داهم البشرية، ما يعنى أنَّ غريزة التدمير لا تختفي مع تطور الحضارة.
وبهذا ثتبت صحة توقع فرويد بل تلجأُ إلى المناورات وتلبس أردية العلم. وما يزيدُ من الواقع قتامةً ليس إرتفاع عدد الضحايا وتحول المدن والعواصم إلى أمكنة مهجورة فحسب بل التضارب في التصريحات بشأن إيجاد العلاج لهذا الخطر المحدق بالشرية، فأصبح المرءُ نهب التنافس الفارغ من القيم بين القوتين المُتخاصمتين والشركات الطامحة لمزيد من الربح على حساب روح الإنسان، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال جوهري هل أصبح العلمُ خرافةً في سوق مزايدات السياسة؟ هل يريدُ الساسة بعد إشهار إفلاسهم الإعتماد على العلم لتدوير أنفسهم؟
لا شك أنَّ هذه الأزمة ستلقى بظلالها الواجمة على جميع المجالات في مقدمتها السياسة، ومن ثمَّ ستنشغل العقول بدور العلم في لعبة السياسة وبما ينجمُ عن ذلك من الكوارث المناخية والإنسانية.
لكن ما يهمُ الإلتفات إليه والعالم يعيشُ في لحظات حرجة هو شطط العلم، والوهم بأنَّ ما وصل إليه الإنسان من التقدم هو بمثابة حصنٍ يحميه من مغبةِ المجهول. من أين يأتي هذا اليقين؟ طبعاً من العلم، ولكن ما فائدة العلم إذا لم يخففْ من ألم المرضى والمصابين الذين فقدوا الإحساس بالزمن في الحجر الصحي؟ هل يمكن للعلم مُغالبة الخوف الساكن في الأعماق حيال الصمت المخيم على محيطك؟ ويبدو أنَّ وقع الصدمة هو بمستوى الإيمان المُطلق بقوة الحضارة المعاصرة والقناعة التامة بمفهوم سيادة الإنسان.

هنا عندما يوصدُ دونك باب العلم الذي قد حل مكان الدين فلا بدَّ أنْ تفتشَ عن عزائك لدى الفلاسفة والأدباء طالما لا يقدمُ الساسةُ سوى توصيات بالتحمل والمطالبة بالإستعداد لأيام صعبة والتحصن بالعزلة، والأمر قد يستغرقُ وقتاً طويلا قبل أن يكتشفَ العلماءُ حلاً لهذا المرض القاتل.
إذاً لا يصحُ الإستغرابُ مما يحصل حتى لو طالَ زمن الأزمة "كم هو عابثُ وغريب عن العالم ذلك الذي يستغربُ أي شيء يجري في الحياة" فبالتالي يجبُ تفسير هذا الواقع البائس بإعتباره نتيجةَ بأخطاء في فهم العلم عندما وُضعَ العلمُ في مرتبة المعرفة بالوجود في كليته وشموله، وحصيلة ذلك كانت الإستسلامَ لخرافة علمية على حد قول كارل ياسبرز، وكأنَّ الأخير مقتنعُ بما قالهُ مواطنه نيتشه الذي اعتقد بأنَّ الفردوس العلمي ليس إلا كذبة حتمية مثل نظيره من الفرادس الموهومة.
إذاً ما يمرُ به الإنسان من الأزمات التي تقوض أوهامه المتوشحة ببريق العلم مرة وبالآيدولوجيا الخلاصية مرة أخرى، يحتمُ التفكير في القيم السائدة والإقرار بخطأ مفهوم السيادة، ولا يمكنُ إدراك أهمية قيمة التواضع إلا بعد المرور برواق الفلاسفة فهم يقومون بمداواة الإنسان من المخاوف، ويعيدون إليه الشعور بالإطمئنان "مع السكينة والطمأنينة تضعُ الأشياء في إتساقها"، كما ورد في تعاليم التاو، وذلك ليس من خلال التمويه للحقائق الوجودية، إنما بالتصالح مع الحياة ومعطياتها والتحرر من الخوف الذي لا يقودك إلا نحو مهلك العبودية التي تغذي غرائز الإنحطاط.
وما تقدمه لك الفلسفة فضلاً لما سلف ذكره هو إمكانية مساءلة الذات وفحص الآراء المسبقة وهذا مايسميه سعيد ناشيد بالعلاج الديكارتي عبر إفراغ سلة التفاح لتمحيص ما هو مفيد عن غيره مما فسد.
هذا فيما يتعلقُ بوظيفة الفلسفة، أما عن دور الأدب فتراه بالوضوح في رغبة الجميع لتصفح الأعمال الأدبية كلما اشتدت الأزمة، فهذا العالم المتخيل يعوض الإنسان من حرمانه للحركة في الواقع والإختلاط بالأصدقاء والأهل. إذ ما أن تفاقمت مشكلة كورونا حتى تصاعدت مبيعات الأعمال التي تتناول الكوارث وتسردُ حكاية المعاناة البشرية على مر التاريخ.
وفي هذا المقام من المناسب إقتباس كلام إيريك إيمانويل شميت حيث يقول في روايته "يرى من خلال الوجوه" يبدو لك الحاضر قوياً ومع ذلك ينكسرُ بأسهل من إنكسار شعرة" ونبقى بصحبة مؤلف "ليلة النار" الذي يعتبر بأنَّ الحياة مأساة فلنعيشها كملهاة.
أخيرا إذا كان الإنسان يفضل أي تفسير على حالة عدم وجود تفسير حسب رأي نيتشه فليكن تفسيرك للواقع فلسفياً، وليس المقصود بذلك هو تبخيس دور العلم لأنَّ العلماء هم مقاتلون شجعان في معركة المصير، لكن كل ما في الأمر هو التفطن لعدم الإنجرار وراء العلم المسيس والسياسيين الذين سيسدلُ الستارُ على وجوههم قريباً. والعارفُ هو من رأى النهاية في البداية كما يقول الرومي.