من يوميات الحظر الكوروني

لسنا سوى مجرد حلم ذاهل، يقلق منام ذاك الكائن، الافتراضي الأعظم، الموجود فيما وراء كل وجود؟!
أوضاع جائحة كورونا، التي تعصف بنوعنا البشري على امتداد كوكبنا الهرِم منذ بضعة شهور، تبدو غير مرشحة للتراجع في الأمد القريب
ما من سبيل أمامك إلا الاعتصام برهانك المُجرَب: التخلي والتخيل، بمعية الانتظار الصبور!

سكن
لقرابة خمسة عشر ألف عام، راح نوعنا العاقل يبتني الأكواخ الخشبية والمنازل الطينية والقصور الحجرية والقلاع المحصنة، بهدف مغادرة الكهوف والمغارات الجبلية وقمم الأشجار العالية، هرباً من الضواري والكواسر، واتقاءً للبرودة والحرارة، وسعياً لبلوغ أمانه الأقصى. وشيئاً فشيئاً، وقرناً بعد آخر، راح الإنسان يشيد، لنفسه، يقين السكن وحلم البيت، من غير أن يدور بخلده أن يوماً سيأتيه، على غير انتظار، بتحدٍّ مخيف لحامضٍ نووي فيروسي تافه، يطمح في التشكل والتحور كي يغدو كائناً حياً، ويلزمه البقاء بالبيت؛ فإما البقاء وإما الفناء!
وهكذا هي الحياة؛ فما تجترحه، في بداية الأمر، كوعدٍ، ويكبر، في الألم والأمل، كدراما مثيرة، ينتهي، في نهاية المطاف، كمأساة هزلية الجوهر!
حلمٌ ذاهلٌ
وما يدريك أننا لسنا سوى مجرد حلم ذاهل، يقلق منام ذاك الكائن، الافتراضي الأعظم، الموجود فيما وراء كل وجود؟!
عنبر العقلاء
في مثل هذه الأوقات، الحزينة والمفصلية ربما في تاريخ النوع البشري كله، لا يسع المرء إلا أن ينشد أمانه بين أحضان أحبته من الأهل والأبناء والأصدقاء. لذا فإنه من أعجب الأمور أن يخرج علينا كبار قادة العالم من الساسة العقلاء، أولئك الذين قادت سياساتهم وعقلانيتهم العالم لتضعه، دوماً، على شفا هاويات الحروب والمجاعات والفقر والجهل والثورات والهلاك بالأوبئة، ناصحين مواطنيهم بتوديع الأحباب والاستعصام بالعزلة التامة حتى صدور إشعار آخر عنهم أنفسهم!
أيها السادة الراشدون جداً، العاقلون جداً، الصالحون جداً: فلتوفروا رشدكم هذا لأنفسكم، فما عدنا نمتلك رفاهية أن نعتمد عليكم، أو نثق فيكم.
أجل، قد أودِع، دونما حسرة أو ندم، عنبر العقلاء البائس هذا!
غرق
من قاع الصمت، يتعالى صخبٌ، رهيبٌ عاتٍ، ليُصمي آذان العالم. من رحم السكون، يولد اضطرابُ، شاملٌ عظيم، يجتاح الوجود. كل القوارب الطافية مثقوبة، وكل أخشابها من ورقٍ نشوان بخمر الغرق المتربص!

ما عادت هناك بعد؛ تلك اليد القادرة على أن تسند هذا العالم المتصدع الآيل للسقوط!

كوكب شاب رشيق!
تبدو أوضاع جائحة كورونا، التي تعصف بنوعنا البشري على امتداد كوكبنا الهرِم منذ بضعة شهور، غير مرشحة للتراجع في الأمد القريب للأسباب التي بات يعلمها الجميع، سواء جاء ذلك انسياقاً وراء نظرية المؤامرة، أو اتساقاً مع نظرية العجز البشري الفادح والصادم إزاء غضبة الطبيعة وتمرد البيولوجيا. لكن أياً كانت مسببات الجائحة، فإن مآلاتها تبقى أكثر أهمية بالنسبة لمستقبل لا نوعنا العاقل وحسب، بل وضعية الكوكب بأكمله باعتبار ذلك القرد العاري أبرز كائناته الحية المتصرفة فيه وأكثرها عدداً. وفي هذا السياق يعن لي طرح سؤالين متلازمين: الأول عن أعداد الموتى المحتملين جراء فيروس كورونا، وعما إذا كانوا بالآلاف، أم بالملايين، أو ربما بالمليارات؟ أمَا السؤال الثاني فيتعلق بأعمارهم، والتي تتخطى، في العموم، العقد السادس وما بعده؟ 
إن أي متابع موضوعي، وربما فاشي، لأوضاع كرتنا الأرضية هذه، سيدرك، بغير مجهود عقلي كبير، أننا بتنا نعيش على سطح كوكب ضربته الشيخوخة والزحام والهدر، العشوائي والجشع والسفيه، لموارد طبيعية غير متجددة ظلت الطبيعة تراكمها لمئات الملايين من السنين، ليبددها ذلك النوع، العاقل غير المسؤول، خلال حقبة زمنية قصيرة من عمر الكوكب، ربما لا تتجاوز خمس عشرة ألف سنة بعد ثورته الزراعية المظفرة، ومن ثًم فلربما ارتأت تلك القوى الكونية، الحية الغامضة والفاعلة والثاوية في الطبيعة، أن الأوان قد حان لإيقاف هذه المهزلة، والعمل، بجدية وصرامة، على إعادة الكوكب لجسده الشاب الرشيق، والتخلص، بغير شفقة معطلة ومثبطة للهمة، من تلك التغضنات والزوائد والترهلات التي أثقلت كاهل الأرض وقبحت صفحة وجهها البائس الجميل!
هل ثمة منطق فيما أقول؟
قد يكون، ولمَ لا؟ أليس كل منطق بعض خيال وجنون؟
سأم
يبتسم بظفرٍ خبيثٍ، وهو يهمس:
- الآن عرفتَ منْ أنت! 
تتحاشى عيناكَ النظر إلى عينيه مباشرةً. توغل في الصمت، فيصرُ:
- أجلْ، ما أنتَ إلَا سأمُ السيد!
ما بين التخلي والتخيل
وحتى من قبل ليالي ونهارات الحظر الكوروني بزمان، كنت تعلم بقدرتك على صنع حياة كاملة لنفسك في عزلة كاملة، أو فيما يشبه العزلة الكاملة. كنت قد جربت ذلك مراراً، أحياناً جبراً وأخرى اختياراً، وذقت حلاوة الوحدة الحريفة فريدة المرارة. أمَا عدتك في عبور أزمنة الحبس تلك، فلم تكن تخرج، في العادة، عن شيئين صرت تحرص عليهما كل الحرص: أولهما التخلي، وثانيهما التخيل. 
بالنسبة للأول، فلطالما أدركتَ أن البشر لا يقاسون، في حقيقة الأمر، من النقص في أي شيء، بقدر ما يقاسون من إدمان الإفراط والتكثر والاحتياز النهم لذلك الشيء، وأن القليل القليل من أي شيء، قد يساوي الكثير الكثير من حرية الروح تجاه ذاك الشيء، وكل الأشياء الأخرى، وأن التقشف هو مفتاح مغارة الكنز، وأن إزالة الأعشاب الطفيلية كفيلة، وحدها تقريباً، بضمان سريان مياه الحياة في المجاري والقنوات جميعها، وأن الخفة شرط الطفو، حيث الطفو ليس مجرد النجاة من الغرق المحدق بالثقلاء، بل وضمانة الإبحار الآمن إلى الضفة الأخرى من الوجود؛ ضفة التخطي والعلو.
أمَا بالنسبة للتخيل، فلا يحتاج الأمر منك لكبير جهد كي توقن بقدرة الخيال، الفائقة واللا محدودة، على صنع وإعادة تخليق، لا حياتك الشخصية البائسة فحسب، ولا حتى حياة عائلتك وأصدقائك الأقربين، بل ولا مجرد حياة بلدك البائس أو كوكبك الحزين المتوجع، وإنما حياة الكون بأكمله، من طرفه الأيمن المجهول إلى طرفه الأيسر اللا معلوم، حيث التخيل هنا يتجاوز السقوط في هاوية التوهم، ويسافر بالعقل والروح إلى آفاق الآتي عبر الممكن والمستحيل معاً.
هل يهدد الوباء، حقاً، ربع أو نصف البشرية؟
قد يكون، لكن ما الذي يعنيه ذلك؟
يعني، وبحسبة بسيطة، أن نصف البشرية الآخر، وفي أسوأ السيناريوهات الكارثية التي تروج حالياً، سيستمر في الحياة ليحافظ على فرصة هذا النوع في الحياة!
وهل يمثل هذا الوعد أية بشارة لأي نفس بشرية، محددة، مرشحة لأن تُهدر، أو تُزهَق، نفوس أخرى قريبة أو صديقة لها؟
لا، لا بشارات هنا، ولا وعود، غير أن قبولك، أو رفضك، لن يغيرا، في واقع الحال، شيئاً.
إذاً؟ ما من سبيل أمامك إلا الاعتصام برهانك المُجرَب: التخلي والتخيل، بمعية الانتظار الصبور!

صباحٌ كوروني
أنهض من فراشي في موعدي الصباحي المعتاد، بل وأحياناً أبكر قليلاً مما تعودت، وذلك على الرغم من تأخري بالنوم ليلة أمس بسبب شغفي بمواصلة القراءة في رواية "الرجل الذي كان يحب الكلاب" وانشغال عقلي بتأمل تقاطع المصائر التراجيدية لكل من تروتسكي القتيل ورامون ميركادير القاتل وإيبان الراوي والشاهد على اعترافات القاتل.
أتناول إفطاراً خفيفاً من الخبز والجبن مع كوب الشاي الخفيف المُحلى جيداً، وأنا أتابع نقاشاً لا ينتهي مع صفاء حول الكورونا والكتابة ونظرية المؤامرة وتحذيرات زياد المشددة لنا بأخذ الخطر والمحاذير على محمل الجد والفيديو الأخير، الذي بعثت به لنا الحفيدة، لترينا الجديلتين الجديدتين، ولتسألني عما إذا كنت ألتزم بأخذ دواء القلب والضعط في موعده، وتهددني بأنها لن تأتي لزيارتي إن لم ألتزم بأوامر عدم النزول خلال هذه الأيام ولو للتسوق الضروري. 
أجلس إلى اللابتوب، وأتابع، عبر الفيسبوك واليوتيوب والمواقع الإخبارية المتكاثرة كالسرطانات، حالة الهلع الكوكبية التي تثير بداخلي الاشمئزاز والقرف، بأكثر مما تثير الخوف والفزع.
حقيقة الأمر أنني، وفي هذه الأوقات العصيبة حقاً على جنسنا البشري، حيث نجد أنفسنا، حقاً أو باطلاً، واقعاً أو توهماً، واقفين عند الحد النهائي للعالم، عاجزين عن اتخاذ القرار الأصوب، سواء برفع قدمنا عن الأرض، أو بإبقائها لفترة أطول، مخافة انفجار اللغم الكوني من تحتنا، لا أجد بداخلي ما يكفي من الرغبة للتعاطي بجدية مع هذا الموقف الدرامي الكبير، بل ولربما، وعلى عكس المتوقع، أجدني أكثر ميلاً للهزل للتغافل وللغناء.
- من يسمعك تغني، أو يراك تهزل، أو يقرأ ما تكتب هذه الأيام، يظن أنك قوي جداً، غير خائف، ومتصالح مع كل شيء، فهل أنت كذلك فعلاً؟
تسألني صفاء، مستنكرة، وكأنما تزجرني. أرفع نحوها عينين ساهمتين غير قادرتين على التركيز في نقطة بصرية بعينها، ثم أرد:
- وماذا تعتقدين أنتِ؟
- لا أستطيع تصديق أن أحداً لا يبالي بهذه المهددات التي تكبر من حولنا، على نحوٍ مخيف، ساعة بعد أخرى، بل لحظة وراء أخرى، إلا أن يكون بليد الحس بشكل ميئوس منه، أو يكون هو البوذا نفسه متنكراً في ثياب كاتب عصري!
تلقي بالكلمات في وجهي حائرة مستفَزة رافضة وساخرة في الآن ذاته. أحافظ على ابتراد روحي قدر استطاعتي. أبتسم لها وأجيبها:
- قد أكون مؤمناً وأنتِ لا تعلمين!
- مؤمنٌ بماذا؟ لا أنتَ لست مؤمناً، أنتَ عدمي، وهذا ما أعرفه عنك جيداً.
لسببٍ ما، أو لأسبابٍ لا عدَ لها، أو ربما من دون سببٍ على الإطلاق، أجد نفسي زاهداً وعازفاً عن الرد. 
أروح أفكر في أني قد أكون مؤمناً باستحالة أي إيمان، بتفاهة الأمل في أن تمتد للكوكب الملتاع يدٌ ما، من داخله، وبالأخص من خارجه، كي تقيله من عثرته هذه قبل ترديه، القريب جداً والمحتمل جداً، في وهدة الصمت والفراغ الشاملين!
لكن، أو ليس هذا، بالضبط، ما كانت تعنيه هي حين رمتني بتهمة العدمية؟
- قد يكون ما تعرفينه عني أصدق وأوضح مما أعرفه أنا عني.
قبل حوالي السنة، كنتُ قد كتبتُ نصاً سردياً، قصيراً وشديد التكثيف، أتخيل فيه الدقائق الثماني الأخيرة من عمر الكوكب بعد انطفاء الشمس تماماً، وماذا سيفعل كلٌ منا خلال تلك المهلة الزمنية، القصيرة جداً والثمينة جداً، الممنوحة كفرصة ختامية للعيش قبل ابتلاع الظلام والبرودة الكونية لنا. بالنسبة لبطلي، أو لي أنا نفسي بطبيعة الحال، فقد اخترت أن يقضيها بتذكر وتخيل كل ما ومن يحب، كل ما سعد به أو حلم يوماً بأن يسعد به، معتقداً أن ذلك هو القرار الأصوب، حتى وإن بدا الأقل معقولية مقارنة بالابتهال والندم والاستغفار وإطلاق استغاثات الرحمة تتعالى لعنان السماوات الصامتة البعيدة المظلمة اللا نهائية.
في أيام الحظر الكوروني هذه، ربما كان استعادة طرح مختلف الأسئلة، المعقدة الشائكة والمنسية، على الذات هو أكثر الأمور عادية. لكن سيتبقى تمدد الأوقات السهبية، المفرودة لجزع الإنسان ولاشتهاءاته ولغباواته ولعظمته، ثقلاً يستعصي على النهوض بحمله، ديناً يستحيل الوفاء به، أو أملاً يأبى التواضع والتنازل عن أمله، ولو كان ذلك بمقدار، فقط، تلك الفسحة الزمنية المتاحة بين وجبتي الإفطار والغداء!
فلمَا كان اليوم الخامس عشر
لأنه ما عادت هناك بعد؛ تلك اليد القادرة على أن تسند هذا العالم المتصدع الآيل للسقوط!