القصة الومضة تكشف عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين

الكاتب السعودي حسن البطران يحرص على خوض تجربته الإبداعية في جسارة لافتة من وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس.
حسين حمودة: هناك ما يصل بين القصة القصيرة والقصة الومضة، وهناك من يلتمسون عناصر أساسية من القصة القصيرة لا تزال قائمة في القصة الومضة
قصص البطران تحلق في فضاء رمزي، وتدعو إلى التفكير والتعمق والنظر

بدأ التأسيس للقصة القصيرة جدا، اصطلاحيا، في الأدب الغربي، ابتداء من أوائل العقد الأخير من القرن العشرين، وإن كان لهذا الشكل جذور قديمة تعود إلى «خرافات إيسوب» وإلى «جولستان» لسعدي الشيرازي، كما كان له إرهاصات إبداعية لاحت في بعض الأعمال لكتاب القصة القصيرة (الكلاسيكية): أو. هنري، وكافكا، وهيمنغواي، وخوليو كورتاثار، وآرثر كلارك، وراي برادبري، وفريدريك براون، وليديا ديفيز.
ويرى الدكتور حسين حمودة أن هناك ما يصل بين القصة القصيرة والقصة الومضة، وهناك من يلتمسون عناصر أساسية من القصة القصيرة لا تزال قائمة في القصة الومضة. لكن في القصة الومضة ما يميزها على مستوى عدد الكلمات، والأهم على مستوى طريقة الكتابة التي تنهض على التلميحات الخفية، والاستناد إلى ما لم يكتب في النص وليس على ما يتضمنه النص، بالإضافة إلى (طريقة الوصل) بين الجمل، التي تجعل القصة الومضة، أيا كانت مساحتها، أشبه بجملة واحدة.
 وقد شاع هذا الجنس الأدبي في بلدان عربية عدة، منها سوريا وفلسطين، ومصر، والمغرب، واللافت أن الكتاب الذين خاضوا الكتابة، في الأدب العربي، عبر هذا الشكل انتموا إلى أجيال متعددة؛ فإلى جانب اسم نجيب محفوظ الذي كتب في هذا الشكل، فترة الثمانينيات، عمله "رأيت فيما يرى النائم"، ثم كتب نصوصه "أصداء السيرة الذاتية" في فترة التسعينيات، ثم كتب عمله الأخير "أحلام فترة النقاهة" في بدايات هذه الألفية، نجد أيضا اسم زكريا تامر (في أكثر من مجموعة له)، كما نجد أسماء تنتمي إلى تجارب وأجيال متنوعة، منها من فلسطين: فاروق مواسى، ومحمود شقير. ومن سوريا: عزت السيد أحمد، وانتصار بعلة، ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزية المرعي. ومن المغرب: حسن برطال، وعبدالله المتقي، وفاطمة بوزيان. ومن تونس: إبراهيم درغوثي.. إلخ، وفي العقد الأخير، في مصر، برزت أسماء كثيرة جدا لمبدعين ومبدعات كان اهتمامهن واهتمامهم الأساسي بالكتابة في هذا الشكل: القصة الومضة أو القصة القصيرة جدا.

الموت والكتابة عن الطفولة والعوالم الأولى يشكلان متكئا أساسياً في مشروع حسن البطران الإبداعي حيث يمزج فيه الواقعي بالخيالي لتخرج لنا الحكايات محملة بأحوال البشر على اختلاف طبقاتهم

وفي السعودية برز بقوة القاص حسن البطران في هذا الحقل حيث أصدر مجموعة "ناهدات ديسمبر" ويحرص البطران على خوض تجربته الإبداعية في جسارة لافتة من وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس لكنه وعي لا يتوقف عن التجريب. ويكشف عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين. وهو أول قاص سعودي وخليجي يصدر أربع مجموعات في القصة القصيرة جدا. وهذه المجموعة التي بين يدينا "ناهدات ديسمبر"، وهي مجموعة ناتجة عن تراكم ثقافي، تُواكب الحادثَ، وتنهل منه، وتنطلق من أصلٍ، من تراثٍ، من عادات، من قيم، من أساطير، من حركة مجتمع يصبو إلى الانطلاق في توازن لافت. 
وجاءت المجموعة في أسلوب سردي رائق، ولغة شعرية تصويرية. فالقصص تحلق في فضاء رمزي، وتدعو إلى التفكير والتعمق والنظر. في قصة "سلمى" أول قصص المجموعة قرر الكاتب تأنيث الفضاء السردي، المفعم بعطر سلمى والماهرة في العزف على البيانو، ويقتفي أثر أصابعها على البيانو ولكنه يفجع باغتيالها على يد الجهات الأمنية في الجمعة الأخيرة من شهر مارس/آذار.
ويستمر الكاتب في تأنيث الفضاء السردي في قصة "جنازة": "جمعت رفقاءها .. وصفقت خلف جنازته الخضراء" حيث ضبط الإطار المكاني، فهناك احتفاء بالموت وفي نفس الوقت تغيب صورة الآخر في القصة مما يفتح الباب أمام العديد من التأويلات، هل الاحتفاء نوع من التكريم والوداع لروعة الحب التي توجت بالرحيل أم من الشماتة لرحيله بسبب جبروته وتسلطه.
وفي قصة "طاقة خفية" يرصد الكاتب نقطة تحول بطل القصة الذي شهد لحظات قدرية غيرت مجرى حياته، وحسمت معركة في عقله بين أفكاره وسلوكه، وكانت نقطة تحول في سماء ماضيه، وذكرى لا تُنسى، ولحظة سرية قلبت حياته رأسا على عقب "لا يتورع في قضاء حاجته.. يٌنظر إليه كحيوان أليف.. تزوج وزادت وحشية غرائزه.. وأصبح إماما". فكأن قرار الزواج نقله من عالم الحيوان المستأنس إلى عالم البشر الذي ارتقى في مدارج الروحانية والصوفية فأصبح إماما.
وفي قصة "حنين" التي تتناول الحب المستحيل: "يحن إليها .. ترفضه .. يساهر الليل يخيط ملابسه الممزقة"، فهناك تناص في القصة مع قصة "بينيلوبي" زوجة ملك إيثاكا في "الأوديسة" ملحمة هوميروس. على عكس مثال الزوجات الخائنات العابثات فإن بينيلوبي هي مثال الزوجة الوفية لزوجها، التي تنتظر عودة زوجها الملك أوديسيوس رغم غيابه سنين طويلة مبحراً وراء مغامراته وحروبه بعد أن طلب منه المشاركة في حرب طروادة. ظلت بينيلوبي ترفض الخاطبين وتحتال عليهم لمدة عشرين سنة هي فترة غياب زوجها، إحدى تلك الحيل ادعاؤها بأنها ستنسج كفناً لوالد زوجها المسن ليرتس، وأنها ستختار زوجاً لها بمجرد انتهائها من الحياكة. فكانت كل ليلة ولمدة ثلاث سنوات تنقض ليلاً ما كانت تغزله نهاراً إلى أن اكتشفوا أمرها.
كل كاتب مبدع لا يتميز من بين الكتاب الآخرين إلا بالخصوصية والنوعية، وهما يرتبطان كل الارتباط بخصوصية العوالم، وبنوعية تصويغ الكتابة لهذه العوالم، من خلال طرائق السرد، والاشتغال على الحبكة القصصية، ولغة الكتابة، والأٍسلوب، والصور التعبيرية. بذلك وبغيره يصنع الكاتب القاص ما يميز كتابته القصصية عما يكتبه القُصَّاصُ الآخرون.
وهو أيضا، شأن الشعراء والروائيين وكتاب المسرحيات، بل هو شأن كل المبدعين والفنانين الذين يمهرون أعمالهم بالمظاهر المضمونية والخواص الجمالية التي توفر لأعمالهم طابعها الخاص المميز، وسماتها الخاصة، وعبقها الذي هو عبق الإبداع.
أعتقد أن أعمال القاص السعودي حسن البطران لا تخرج عن هذا المنحى، فهي بعيدة عن التقليد، ضاربة في بناء خصوصيتها الدلالية والجمالية. إن كتاباته القصصية، تطفح، في مشترك حميم بينها، رغم تنويع العوالم والفضاءات، بما يوحي بأن الكاتب وتجربته في الحياة هي المرجع الذي ترجع إليه مضامين القصص. لكن القاص لا يحكي تجارب معيشة إلا وهو يدفع بها نحو دروب التخييل، كما أنه يبني القصة على تجربة بطل تتشابه الكثير من ملامحه، بينما لحظات المعيش، والمتذكر، هي التي تُنَوِّعُ عوالم القصص، وتجعل من القصة حدا مفارقا مع القصص الأخرى.
يستحضر حسن البطران عند كتابته نوعية ونظام المنظومة الذهنية لكتابة النص القصصي، لأنه أعتمد على الجملة والصياغة الرصينة، وعلى أقل الكلمات عدداً وأكثرها عمقاً رغبة منه في الحصول على أعلى قدرة من متعة القراءة لقرّائه من خلال إيجاد مساحة واسعة لحركة الرموز والدلالات المحفزة، لكي يبقى محافظاً على الإبداع فنياً وتقنياً، ففي قصة "جفاف قلم" يعبر عن حالة العجز التي أصابت البطل فحاول التنفيس عن هذه الانهزامية، فلجأ إلى القلم، ولكن القلم لم يطاوعه أيضا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتقل الحزن إلى القمر فأصابه الخسوف هو الآخر تجاوبا مع حالة العجز التي يعانيها البطل: "أمسك قلمه ليكتب، لم يستطع .. حاول الكتابة.. القمر أصابه خسوف".  

Literary criticism
العبقري الملعون

وقصص البطران مطبوعة بأسلوب شعري، أو هي شعر بأسلوب قصصي كبير، لأنه كاتب متمكن  في حقل القصة القصيرة جداً ومازج بينها وبين الشعر وبالعكس، مثل تزاوج الخط الكوفي مع الزخرفة. ففي قصة "وصف" جعل من الحبيبة المعادل الموضوعي للقمر في حال غيابه: "القمر غاب .. ولكن .. أنا موجودة .. هكذا هي قالت"، لقد استطاع حسن البطران توظيف المفردات في تحريك الحدث، حينما نأى عن الشعرية إلى السردية الومضية.
وفي قصة "نظرة" تختزل مكانة الأب لديها في العيد بمجرد تبادل النظرات بينهما: "نظرت الطفلة في وجه أبيها، وأصبح العيد عندها أكبر من العيد". إن وجود الأب في حياة الأبناء، يعني الحماية والرعاية، يعني القدوة والسلطة والتكامل الأسري، فالأبناء بحاجة إلى أن يشعروا بأن هناك حماية ورعاية وإرشاداً يختلف نوعاً ما عما يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسي للأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجود الأب كمعلم في حياة الطفل، يعتبر من العوامل الضرورية في تربيته وإعداده.
وقصة "ضوء من بئر" تناقش قضية الانفصام بين ما يكتبه الأديب، وحياته الشخصية: "تخفى وراء مقالاته .. لا يرى إلا نزف قلمه .. حينما سئل .. أجاب: شكلي قبيح ورائحتي كريهةّ! .. أما قلمي فهو ضياء وفلسفة". فيقول الكاتب المسرحي هنريك إبسن (1828- 1906) "إننا معشر البشر مخلوقات ممتدة النظر من الناحية الروحية، نرى الأشياء أكثر وضوحاً على بعد. فالتفاصيل تربكنا، وعلينا أن نبتعد عما نريد أن نصدر فيه حكمنا، فخير وصف للشتاء إنما يقدمه المرء في الصيف".
ولا شك أن فكرة إبسن هي فكرة صحيحة، فالاقتراب الشديد من الأشياء يفسد معرفتنا بها واستفادتنا منها. فلو اقتربنا من النار أكثر من اللازم فإنها تلسعنا أو تحرقنا بدلا من أن تقدم إلينا الدفء الجميل، ولو اقتربنا من النور أكثر من اللازم فإن عيوننا تعجز عن الرؤية ويصيبها اضطراب شديد في النظر إلى الأشياء. وهذا الكلام ينطبق على العلاقات الإنسانية أيضاً مثل الحب والصداقة وغيرهما من العلاقات التي تربط البشر بعضهم ببعض. فلا بد من الحرص الشديد هنا أيضاً على وجود مسافة بين الناس تحفظ لكل إنسان استقلاله، أما الإنسان الذي يقترب من صديقه أو حبيبه اقترابا يصل إلى حد "الالتصاق" ويحرص على معرفة التفاصيل ويغرق فيها فإنه يصبح عبئا لا يطاق، ولا بد أن ينتهي بفقدان الصداقة والحب وغيرهما من العلاقات الإنسانية الحميمة.
ولعل حسن البطران قد قرأ قصة "العبقري الملعون" للكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني، وبطلها شخص كان يحب كاتبا فنانا من خلال قراءاته لقصصه الجميلة وكان يقول عن نفسه: كنت أحب هذا الأديب ، وكنت متشبعا بكلامه وأفكاره ، حتى أخذت أحلم أحلامه وأغني أغانيه وأتابع تيارات تفكيره وأتمثل نفسي أحد أبطال قصصه.. فقرر أن يزوره لأنه يعتبره أعظم رجل أنجبته أوروبا. فماذا وجد؟
"شعرت بخيبة أمل عندما وقع نظري على غرفة ذلك الأديب الذي أعشقه، وكانت غرفة عادية لم تكن تختلف عن سائر الغرف المألوفة، وكنت أتخيل أن كاتبي المفضل يعيش في صومعة قديس أو عرين أسد، لا في مكتب لأحد المحامين .. رأيت أمامي رجلا ضئيلا في حوالي الخمسين يحييني بلغة فرنسية صحيحة فارتعدت لمرآه. أيعقل أن يكون هذا هو رجل أحلامي؟!.. هذا الرجل الضئيل الذي يرمقني بعينين صغيرتين وتنفرج شفتاه عن ابتسامة هي أقرب إلى ابتسامات البلهاء والسذج؟ أيعقل أن يكون نجم أحلامي هو هذا الرجل الذي يرتدي ثوبا أسود ويضع يديه في جيبيه كما يصنع ضابط أو موظف على المعاش؟ هل هذا هو الرجل الذي جعل قلبي يخفق بروعة آثاره وقوة أسلوبه؟ ولم أستطع أن أخفي دهشتي فقلت: أأنت الكاتب الذي كتب "نفسي" و"الله" و"مشاكل نصف الليل"؟ فأجابني في هدوء وابتسام: نعم. وكأنه لم يشعر أنني أهنته بسؤالي فدعاني إلى الجلوس وسألني حاجتي".
 ويشكل الموت والكتابة عن الطفولة والعوالم الأولى متكئا أساسياً في مشروع حسن البطران الإبداعي حيث يمزج فيه الواقعي بالخيالي لتخرج لنا الحكايات محملة بأحوال البشر على اختلاف طبقاتهم.