مراوغة السرد في "آخر إنذار"

عائشة عدنان تستوعب مقولة رولان بارت: السرد مثل الحياة علم متطوّر من التاريخ والثقافة.
قصص مجموعة "آخر إنذار" تستهوي الكثيرين لتناولها والكتابة عنها
المجموعة تبوح للناقد مهما كان منهجه بالكثير، فهي لا ترفع صوتها بالصخب أو الدعاوى الفجة أو الشعارات الخاوية

استوعبت القاصة والروائية الكويتية عائشة عدنان جيداً مقولة رولان بارت: "إن السرد مثل الحياة علم متطوّر من التاريخ والثقافة"، فراحت عبر منجزها السردي "آخر إنذار" تحيك عالماً قصصياً متخيّلاً قوامه الواقع المُعاش من زاوية رؤية الكاتبة. واستحضرت القاصة تفاصيل الحياة اليومية العادية، وهندست بنيتها السردية وفق قوالب تتماشى والتغيرات الاجتماعية والفكرية والثقافية للمجتمع.
تستهوي قصص مجموعة "آخر إنذار" الكثيرين لتناولها والكتابة عنها، ولأنها تبوح للناقد مهما كان منهجه بالكثير، فهي لا ترفع صوتها بالصخب أو الدعاوى الفجة أو الشعارات الخاوية.
في قصة "أحاديث الرخام" التي تشير إلى نشأة البطلة "ريم" في بيت منعم وعيشة رغيدة، تتردد على البيت صديقتها "أمنية" بصحبة والدتها، ولكن في إحدى المرات تأتي الخالة بمفردها بدون "أمنية" ويرتسم الحزن على ملامح وجهها مصحوبا ببكاء خافت ودموع ساخنة وعندما تخرج ريم لاستقبال أمنية التي لم تأت تزجرها والدتها وتأمرها بالعودة إلى غرفتها. وكان سبب الحزن هو زواج والد "أمنية" بأخرى، ويؤيد والد ريم قرار الزوج طالما أنه يملك المال. تدخل الخالة المستشفى وتذهب ريم مع والدتها لزيارة الخالة عسى أن تلتقي توأم طفولتها "أمنية" ولكن لم تجدها هناك. وانقطعت العلاقات نهائيا بين الأسرتين عقب هذه الزيارة، وتعاني ريم من صقيع العزلة والوحدة فتقول لها أمها "يجب ألا ينام الإنسان على حرقة .. لأنها ستميته بمرض عضال" وعندما تتزوج ريم تعود يوما ما إلى والدتها تبكي في أحضانها وتشكو من غدر زوجها الذي تزوج عليها "قتلني يا أمي، قتلني بقلب بارد ولم يعبأ" وكأن تجربة الخالة تتكرر مع ريم فتحتضنها أمها قائلة "لا تنامي على حرقة يا ابنتي.. لا تنامي".
حرصت القاصة على استحضار تمهيد ضروري قد يقصر أو يطول نسبيا قبل الدخول مباشرة في أحداث القصة، وترتب أحداث القصة بناء على البداية، وهي بهذا الصنيع الفني أعادت الاعتبار بطريقة غير مباشرة لمفهوم بداية الحكاية/ القصة الذي ظل منسياً ومهملاً، ولطالما اعتبر مرحلة عرضية يتم المرور عليها مرور الكرام، وهذا الإنجاز الجمالي يؤكد قدرتها على استعادة التقاليد الشفاهية لفن السرد، ودمجها كجزء فعال في الممارسات الكتابية الراهنة لتواجه بها ما يتهدد الفن التقليدي من تشوه في عالم اليوم. 

السيناريو في القصة القصيرة يكون نافذة لمرونة يحتاجها البناء السردي، ولعلها رئة أخرى تتنفس القصة من خلالها هواء جديداً يضخ في أجزائها، لأن القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنزعة الذاتية

والمضمر في هذه القصة أضعاف المفصح عنه، لأن الكاتبة تنأى فيها عن المباشرة والزعيق، وتحرص على التكتم أو ما يسميه الإنجليز بالحد الأدنى من التعبيرunderstatment الذي تكتسب معه الكلمات أقصى ما في قدرتها على التعبير، وتلعب فيه المفارقة دوراً رئيسا في عملية الإفضاء، فتجربة الخالة قد تكررت بصورة تكاد تكون كربونية مع "ريم" وكانت الأم القاسم المشترك في مداواة جرح الصدمة. فالقصة مواجهة بين ميلاد البداية وموت النهاية.
فإذا انتقلنا إلى القصة الثانية "حين يحكي السندباد"، قهي قصة مكتوبة بضمير الغائب، ومن منظور الكاتبة التي توميء بأننا بإزاء حياة حافلة تتأمل دوراتها بلا كلل، وتتناول العلاقة المعقدة بين الجد، البسيط البريء كالطفل، وشقيقه الثري الذي يتردد عليه ويحكي له عن تضخم ثروته، ورحلاته، وصفقاته، ورغم هذا الثراء فإنه شديد البخل، وأصبحت حكايات شقيق المجد مملة وتسبب الضجر لباقي أفراد العائلة باستثناء الجد الذي يصغي له باهتمام بالغ، وتبدو القصة وكأنها لا يحدث فيها شيء، ولكنك ما أن تتأملها قليلاً، وتربط بين خيوطها، حتى تدرك أنها عامرة، فمنطق شبكة العلاقات بين أجزاء القصة هو منطق غروب شمس العمر، ومنطق اللامبالاة، فالجد صار كالطفل تستهويه الحكايات الشيقة التي يقصها عليه شقيقه الأصغر الثري، وتدريجيا أدمن سماع هذه الحكايات وانفصل عن محيط الأسرة "التصق بابن عمه .. التصق به تماما حتى أني رأيتهما شخصا واحدا ولم أعد أميز بينهما".
إن لحظات غروب العمر هي اللحظات التي يشف فيها الضوء، وتشف معه الكتابة عن نوع فريد من الشعر هو شعر القصة القصيرة في أكثر حالاتها تألقا وثراء بالدلالات. فقصص هذه المجموعة حريصة على أن ينهض منطق الإبلاغ فيها على الإيماءات العابرة التي تتحول معها اللغة إلى شفرة خاصة مثقلة بدلالات غير دلالاتها القاموسية المألوفة. على أن يكون لتجاور الجزئيات فيها منطق الجدل الخلاق، وليس مجرد التتابع السببي أو التراكم الآلي المألوف. وربما كان منطق التجاور الجدلي ذاك هو الذي يجعل بعض الأحداث تبدو للقارئ المتعجل وكأنها أحداث مباغتة، فاجأته دون أن يتوقعها أو تحدس بها المقدمات. فإن شعر القارئ بذلك فعليه أن يعيد قراءة القصة، أو يعيد تأمل تفاصيلها بهدوء، دون أن يدع أيا من التفاصيل، مهما كانت متناهية الصغر، تفلت من مجال هذا التأمل. لأن الإحساس بالمفاجأة في هذه القصص دليل على أن القارئ قد «سرح» أثناء القراءة ففاتته إيماءة هنا، أو لفتة هناك، وفوّت ذلك عليه إدراك منطق العمل الداخلي كله. فالقصة تتناول التغير الذي انتاب الجد، بينما تمسك باقي أفراد العائلة بموقفهم الحذر من شقيق الجد.
وفي قصة "آخر إنذار" التي سميت اسمها المجموعة تورد الكاتبة مشاهد من حياة الزوجة مع زوجها الذي يضيق ذرعا بكل شيء، وتعاني الزوجة من عصبيته الزائدة عن الحد عندما تلمح عينه شيئا لا يروق له، مثل طبق ملقى بعد الفراغ من طعامه فيقول:" ليش ها الطبق مرمي؟ ما حد يشيله؟ طبعا لا تهتمون لأن البيت مو بيتكم. أنا اللي ضيعت عمري وصرفت دم قلبي ومالي عليه مو أنتم! هذا آخر إنذار". 
وهذه الإنذارات المتكررة لا تمت بصلة لإنذارات كرة القدم والمستطيل الأخضر، ولكنها رمز للقمع والبطش والعقاب لمن يخطيء، ولكن عندما يأتي شهر رمضان المبارك تتغير حال الرجل فيصبح سهلا لينا ورقيقا بفضل روحانية الشهر الكريم.
استطاعت عائشة عدنان، من خلال لملمة التفاصيل وتأطير الفضاء ورسم تضاريس الشخصيات، أن تحافظ على الحضور البشري وتلقائية ردود الفعل عبر السلوك والحوار والأفعال المتناقضة حيث تتجاور قيمُ الخير والالتزام مع قيم التهديد والطغيان. تنضح القصة بالإشارات التي تستحضر ما يحدث في عالم واقعي، وهذا يتجلى في إيلائها نفس الاهتمام لجميع العناصر المكوّنة لفضاء القصة، من دون تحيز سافر لاتجاه أو شخصية ومع الحرص على تنويع سجلات الخطاب والأصوات المتكلمة داخل النص. وتضطلع اللغة المقتصدة الدقيقة، بتحقيق تعبيرية تعتمد الإيحاء المُكثف والسخرية اللاذعة، والتقطيع المشهدي الدّال.
وفي قصة "برائحة التين" يحضر طائر الموت ويهوم ويحوم في فضاء القصة من خلال تذكر الأم ابنها الراحل "خالد" وجلوسه وسطهم على مائدة شهر رمضان الكريم، تحاول الأم أن تتجاوز الشعور بالفقد وتقاومه، ولكنها دائما ما تنهزم أمامه، تحاول الاتصال به فيأتيها الصوت البارد "الجهاز مغلق أو خارج منطقة التغطية .. حاول الاتصال في وقت لاحق". والموت في القصة موت حقيقي وليس موتا رمزيا، أي سكونا مطلقا مهدراً لطاقة الحياة في البشر. فالأم في هذه القصة تعيش حياتها متخبطة ضائعة، وعندما يهل عيد الفطر تسأل الأم  أبناءها الثلاثة: "أين رابعكم؟ .. أين هو؟ أتركتموه في المسجد حيث أقمتم الصلوات؟ .. أحضروه .. أريد رؤيته". 

Literary criticism
ليست ابنتي بل نصفها

هذه الحالة المرتبطة بالموت والتي تجعل الأحياء لا يصدقون أن ذويهم قد رحلوا، يطلق عليها بعض العلماء "الحضور مع" أو "الوجود مع" وهي حالة تتولد عن الحزن العميق أو الخوف الشديد أو اضطراب الوعي، أو الشعور الحاد بالوحدة والعزلة والانعزال.
وفي قصة "قهوة مرة" تتناول موت الحب وجفاف الحياة بعد أن اكتشفت الزوجة خيانات زوجها "خالد" المتكررة لها ولم يشفع له عندها محاولته أن يكون لطيفا أكثر من المعتاد، وإغداقه الحنان على الأولاد، وإعداد فنجان قهوة للزوجة وهو يعلم أنها تعشقها، ولكن طعم القهوة يتحول إلى مرارة في جوف الزوجة. بل وصل الأمر بها الاعتقاد بأن كل امرأة تقع عليها عينها هي مشروع عشيقة، فصورة الزوج السلبية ترسخت في ذهنها، فالزوج الذي تطمح إليه بطلة القصة هو الزوج الذي يوفر الرعاية والحماية دون تسلط أو قهر، الزوج المرتبط بالقوة دون قمع، وبالحكمة دون جفاف، بالتحقق والتحقيق لا بالإحباط والحرمان، بالتوحد والدفء، لا بالانفصال وبرودة المشاعر، وهي صورة تكاد تقف على مشارف الأحلام، عند تخوم أحلام اليقظة وعلى حدود التهويمات.
أما قصة "نصف أمي .. سيناريو مستعاد" فاستعانت عائشة عدنان بتقنية السيناريو في بناء قصتها، وتعبر الشخصيات في القصة عن أفكارها عبر حوار موجز، والحوار في القصة ينمو مع نمو الأفكار والمواقف، إن الكاتبة تثير نقطة ثم تتركها، ثم تعود إليها ثانية ثم تتركها ثانية ناقصة، ولكن تعود إليها ثانية، وكل مرة تحفر فيها بعمق، وتتخذ النقاط في الحوار نسباً متباينة من الإضاءة في تقديم القصة، فثمة نقطة خافتة تتبعها نقطة مضيئة فنقطة خافتة، فنقطة أكثر إضاءة. وهكذا يتحول الحوار إلى سلسلة مشعة متوهجة من نقاط تتراوح بين إضاءة وخفوت، فيتحقق تناغم في سياق الحوار يشبه التناغم الموسيقى. وبدأت القاصة قصتها "السيناريو" في المشهد الأول بمرحلة الطفولة حيث تلهو ابنة أختها بالدمية التي ذكرتها بطفولتها عندما كانت تعشق الدمى، وتتقمص البنت دور الأم بالنسبة للدمية.
وفي المشهد الثاني تتذكر أمسياتها الشتوية في بيت خالتها بمنطقة الروضة، حيث كانت تلعب لعبة "الحيلة" في باحة المنزل، وهي لعبة شعبية كويتية تقوم على القفز على المربعات بقدم واحدة.
أما المشهد الثالث في مدرسة غرناطة في منطقة "العديلية" التي تضم خزائن حديدية كئيبة وطاولات خشبية، وأقلاما ملونة معظمها فقد لونه، وكراسات بيضاء تشوهها رسوم قبيحة في حين تستقر الدمية على الرف الأخير حتى لا تطالها يد أحدهم. هي ترتدي الفستان الأزرق وعيناها التي تحيط بهما هالات الكحل، وتطل عليهم وهم يقصدون القاعة المزدحمة ويسيطر عليهم النزق الطفولي البريء.
ويأتي المشهد الرابع في بيت الخالة "نصف الأم" بمنطقة الروضة وهي تنحني على ماكينتها" السينجر" وتطلب منها إدخال الخيط في ثقب الإبرة، وكانت تصنع عرائس القماش وكانت تتقن مهنتها. وأطلقت الساردة عليها لقب "نصف أم" من باب الوفاء.
أما المشهد الخامس في مستشفى مبارك بمنطقة الجابرية حيث تدخل الخالة المستشفى بعد إصابتها بوعكة صحية، وكانت تهاجمها نوبات السعال ليلا، ولكنها خرجت من المستشفى على كرسي متحرك. ويأتي المشهد السابع في بيت الخالة بمنطقة الروضة وتتناول البطلة خبز الرقاق المغمس بالحليب، وتلعب في باحة المنزل مع أقفاص الحمام الكبيرة.
أما المشهد السابع في السوق المركزي بمنطقة قرطبة، حيث تسير ابنتها بجوارها وشعرها المنساب وقامتها الصغيرة، وتملأ السلة بعلب الحلوى وأكياس الشيبسي.
أما المشهد الثامن والأخير فتستوقفها امرأة تعرف وجهها وتسألها: كيف حالك؟ كم هي جميلة ابنتك .. تشبهك تماما. فتقول في نفسها أنا أجمل وتكتفي بالقول: "ليست ابنتي بل نصفها!".
فالسيناريو في القصة القصيرة يكون نافذة لمرونة يحتاجها البناء السردي، ولعلها رئة أخرى تتنفس القصة من خلالها هواء جديداً يضخ في أجزائها، لأن القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنزعة الذاتية.