رفضنا مشروع الأقليات فأين المشروع الآخر؟

أتحول الشرق الأوسط هلالا شيعيا مهمشا السنة، أم بقي هلالا سنيا مرصعا بالأقليات، لم يعد كيانات وحدوية.
خيار الأكثرية سقط في الشرق الأوسط فصار الشرق بأسره أقليات
تصرف المواطنين فرادى وجماعات أصبح تصرفا كانتونيا ومناطقيا ومذهبيا
المرجعية باتت أحيانا أقوى من الشرعية

عند كل منعطف تاريخي كان المسيحيون اللبنانيون يرفضون مختلف أشكال التقسيم، وساروا في خط مناهض مشروع الأقليات الذي عرضته عليهم دول عربية وإقليمية ودولية. منذ مئة سنة والعروض الجدية تتوالى: مع سقوط السلطنة العثمانية، مع انقضاء الانتداب الفرنسي، مع نشوء دولة إسرائيل، مع مفاوضات السلام العربي/الإسرائيلي، مع "حرب السنتين"، مع الثورات العربية، مع الهلال الشيعي، وأخيرا مع "صفقة القرن".

جميع العارضين كانوا، ولا يزالون، قادرين على ضمان وجود مسيحي مستقل في إطار دستوري لبناني آخر وفي ظل تحالفات إقليمية أخرى. وجزء من الحروب التي شنت على المسيحيين كان عقابا على رفضهم الانضمام إلى مشروع الأقليات بقيادة سوريا العلوية تارة ودولة إسرائيل طورا وبقيادة إيران اليوم. مكونات لبنانية أخرى راق لها المشروع وتنتظر في ظلال القرار الدولي 1701 نتيجة التنافس بين إسرائيل وإيران ـــ لا مع سوريا هذه المرة ـــ لمعرفة لمن يعقد لواء القيادة. لربما كانت قيادته ثنائية. من جهتنا لا نتبع أحدا.

ابتهج المسيحيون بدولة "لبنان الكبير". تولوا رئاسة جمهوريـتـها وشغلوا فيها مراكز أساسية في القضاء والأمن والجيش والمالية. توهموا أنها حالة أبدية. لكنهم لاحقا دفعوا ثمن هذا الخيار الصحيح أكاديميا والمتعثر واقعيا، ففقدوا مجموعة مناصب، وما بقي منها فقد صلاحياته وتأثيره. ورغم ذلك، لا يزال شركاؤهم يحاسبون عمدا مسيحيي لبنان كأنهم حكام لبنان الأوحدون، ومهيمنون على المناصب والمؤسسات، لكي يتم أي تعديل دستوري مستقبلي على حسابهم فيقدموا هم، لا سواهم، مزيدا من التنازلات.

تولع المسيحيون بخيار الشراكة المسيحية/الإسلامية من منطلق التواصل الحضاري لا مع المسلمين اللبنانيين فقط، بل مع مسلمي العالم العربي، بخاصة السنة منهم. وكانوا بذلك يفكرون بمصلحة شركائهم الشيعة والدروز الذين هم أيضا تعرضوا من السنية المملوكية فالعثمانية إلى اضطهاد فاق اضطهاد المسيحيين أحيانا. لم يأت هذا الخيار من عبث، فالمسيحيون، ولو كـــ"أهل ذمة"، عاشوا طوال تاريخهم مع المسلمين في زمن الإسلام الرسالة، ثم في زمن الإسلام الخلافة بكل تلاوينها المذهبية والعرقية.

لكن خيار الأكثرية سقط في الشرق الأوسط. صار الشرق بأسره أقليات بما فيه الأكثرية السنية. سقط مع اندثار القوميات والدول المركزية. سقط إسلاميا مع المد الشيعي الفارسي، وسقط سنيا مع تفشي الفكر السلفي والتكفيري، وسقط قوميا مع اضطهاد الأقليات، لاسيما المسيحية منها في العقد الأخير، وقد كانت رائدة القوميتين العربية والسورية. في هذا المشرق الأقلوي التقت الإستراتيجية الإسرائيلية مع الإستراتيجية الإيرانية من دون موعد، فكلاهما يحبذان إضعاف الحالة السنية في الشرق الأوسط وخلق كيانات/مستوطنات.

أتحول الشرق الأوسط هلالا شيعيا مهمشا السنة، أم بقي هلالا سنيا مرصعا بالأقليات، لم يعد كيانات وحدوية. "ثقافة" الأقليات تسوده حاليا ومشاريع الحكم الذاتي تنمو في إطار تقسيمي أو فدرالي أو كونفدرالي. حتى أن الأكثرية السنية المشرقية اعتراها تنوع عقائدي ضرب مداها الأكثري. مسها الشعور الأقلوي رغم رصيدها العددي والتاريخي، وتشتتت إثر سقوط صدام حسين وانحسار مصر وانشغال السعودية. ارتبكت السنية السياسية العربية في الشرق الأوسط أمام أعدائها. اضطرت إلى الاستعانة بسنة متطرفين وتكفيريين للرد عليهم، وغضت الطرف عن عودة السنية التركية إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.

بين سنتي 1975 و1976 أطلقت الحرب اللبنانية أول صفارة إنذار بشأن إشكاليات التعايش الطوائفي. وإذ ظن اللبنانيون أنهم تجاوزوا التحدي ووضعوه في ذمة الغرباء واستعادوا وحدتهم الدستورية، انفجرت الحروب والثورات في أفغانستان وإيران والعراق وسوريا وفلسطين والخليج ووادي النيل والمغرب فأيقظت جميع المذاهب الهاجعة والإثنيات الرابضة والعصبيات الجاهزة والوحوش النائمة. استلت السيوف والفؤوس وانهمرت الدموع والدماء. رفعت الكتب والقمصان وجاشت الكراهية والعنصرية. عاد قطع الرؤوس ووأد النساء. استفاق تاريخ الولايات والدويلات والإمارات. صار الجميع مضطهدين ولو مضطهدين، وظالمين ولو مظلومين، وصار الجميع أقليات بتفكيرهم وبردة فعلهم مهما كثر العدد.

سواء بقيت دول العراق وسوريا ولبنان موحدة أم تقسمت، فقد برز فيها واقع جديد. تناسلت فيها كانتونات أقلوية وأكثرية بمنأى عن تحققها دستوريا. المرجعية أقوى من الشرعية أحيانا. بات تصرف المواطنين، فرادى وجماعات، تصرفا كانتونيا ومناطقيا ومذهبيا وإتنيا. انتقلوا من العداء على الهوية إلى التحالف على الهوية من دون المرور بالهوية الوطنية. فقد أبناء الطوائف انتماءهم الوحدوي. تآلفوا مع الحجر الطائفي واندمجوا في البيئات الحاضنة. أمست الخيانة في الخروج عن البيئة لا في الخروج عن الوطن. تحول الوطن مكانا جغرافيا تتصادم فيه الخصوصيات لا ملتقى وطنيا تندمج فيه أنماط الحياة وتتكامل. أين سوريا قلب العروبة من سوريا اليوم رمز التفتت المذهبي؟ أين العراق أرض الرافدين من عراق اليوم رمز الفدراليات الثلاث؟ أين لبنان منارة الشرق من لبنان اليوم شمعة الشرق؟

صحيح أن لبنان قائم بحدوده ودستوره، لكن فيه واقعا شيعيا وسنيا ودرزيا ومسيحيا أقوى من مفهوم الدولة وشرعيتها. أصبح كل مكون حالة خاصة كما في زمن الإقطاعيات العثمانية. هاتيك كانت جغرافية، أما هذه فمذهبية. والخوف أن تقوى نزعة الإدارة الذاتية مع انهيار الدولة ومسارعة المرجعيات الحزبية والطائفية والمناطقية، لا الدولة، إلى نجدة أبناء ربعها من الفقر والعوز والجوع. انهيار المجتمع ظهر نظرية "الدولة عدو". يسهو اللبنانيون عن هذا الواقع بسبب الحياة السياسية اليومية، لكن العمل جار من خلف الدولة وبرعايتها أحيانا على تعزيز المشاعر الكانتونية وملاقاة تحولات المنطقة. لم يعد أساسيا أن يرفض المسيحيون مشروع الأقليات، الـمـهم وجود مشروع آخر.

ظن المسيحيون أنهم بصيغة لبنان الكبير يصالحون بين أقليات الشرق وأكثريته، ففوجئوا ببعض شركائهم يسوقون نقيضه في لبنان والشرق. فهل المسيحيون خصوصا، واللبنانيون عموما، أضاعوا مئة سنة في دولة لبنان الكبير؟ هل أخطأوا بتسليم العدد سنة 1920 وبتسليم الصلاحيات سنة 1989 وبتسليم السلاح سنة 1992؟ هل غلطوا في السير عكس التيار؟ وهل الثبات على الفضيلة، ولو مؤلمة، فضيلة؟

هذه التساؤلات التاريخية تـعبر وجدان البيئة المسيحية، بل وجدان كل لبناني حضاري مهما كانت طائفته. تستحق هذه التساؤلات التوقف عندها قبل فوات الآوان. لقد خطب اللبنانيون التقسيم من دون زواج. دفعوا الـمسبق ويخجلون من أن يسددوا المتأخر. والخجل مـحبذ. لكن الخطورة أن هذه الحالات/الكانتونات التي أفرزتها الحروب والاحتلالات، لا تلغيها سوى الحروب. والخطورة أيضا أن تثبت تسويات آتية هذا الأمر الواقع، فيما نحن نجهد لتفادي حروب جديدة... سننتصر.