فتحي سعيد ورحلة الحزن النبيل

ديوان 'مسافر إلى الأبد' للشاعر الراحل جاء صورة صادقة تعكس ما في وجدان كل إنسان يحيا عصرا غريبا يذبح الإنسان فيه أخاه وأمه وأباه وزوجه وأطفاله.
كأنك لا تحيا إذا لم تحزن
اعرف حزنك تعرف أنك تحيا منتعش القلب
صار الشاعر أباه، وأبو الشاعر صار الشاعر

"مسافر إلى الأبد" هو الديوان الخامس للشاعر الراحل فتحي سعيد (1931 – 1989)، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 110 صفحات، وقد سبقته الدواوين: "فصل في الحكاية" 1966، و"أوراق الفجر" 1967، و"مصر لم تنم" 1973، و"دفتر الألوان" 1975.

يضم ديوان "مسافر إلى الأبد" ثلاثًا وعشرين قصيدة تدور في أغلبها حول موضوع واحد هو الحزن الذي صار شفاءً وصار غذاءً، كأنك لا تحيا إذا لم تحزن:

الحزن شفاء

كالشعر ملاذ الغرباء ومنفى الشعراء

الحزن غذاء

نعمى الحيران إذا اختلط الدرب

فاعرف حزنك

تعرف أنك

تحيا منتعش القلب.

يقدم الشاعر فتحي سعيد في هذا الديوان مرثية متعددة الألوان والدرجات والأوجه، مرثية فجرها الحزن الصادق النبيل، فجاء الديوان كله كسيل من الدموع الإنسانية، وكصرخات مكتومة في وجه العالم.

جاء الديوان صورة صادقة تعكس ما في جدان كل إنسان يحيا هذا العصر الغريب الذي يذبح الإنسان فيه أخاه وأمه وأباه وزوجه وأطفاله.

إن الشاعر يرثي أباه في أكثر من قصيدة، وفي أكثر من شكل شعري، لدرجة أنك تحس في قصيدة "الليلة ذكراه" (ص 100) أنهما توحدا، امتزجا، صار الشاعر أباه، وأبو الشاعر صار الشاعر:

الليلة ذكراه

يلقاني ألقاه

تمشي بي قدماه

تهمسني شفتاه

شعرًا .. مخضلّ العبرات

فلا تعرف قافيتي إلاه

يدخل في زمرة قتلاه

أني فيه ويغذيني

ويصير أنا

وأصير أنا .. إياه.

إن كلمة "الحزن" ومشتقاتها اللغوية والمعنوية تكررت في معظم قصائد الديوان، بصورة ملفتة للنظر، ولعل خير مثال على ذلك قصيدة "الحزن في المدينة"، وقصيدة "نبوءة الحزن القادم"، ففي القصيدة الأخيرة، تتكرر كلمة الحزن ومشتقاتها اثنتي عشرة مرة.

إن الحزن هو بطل الديوان – إن صح التعبير – إنه الكلمة المحورية التي تدور حولها هذه القصائد، وأحيانا تأتي القصيدة مفرغة من كلمة الحزن ككلمة صريحة أو مباشرة، ولكننا نحس بها تطل من أعين الكلمات التي تشكل القصيدة، بل أنها تشكل خلفية القصائد كلها.

وخير مثال على ذلك قصيدة "يا والدا" التي بلغت 26 بيتا من الشكل العمودي أو الشكل ذي الشطرتين، والتي يبدؤها الشاعر بقوله:

أبكيكَ حتى آخر الأبدِ ** يا والدًا أغلى من الولدِ

يا صاحبًا قد كان لي مددا ** فغدوت بعدك دون ما مددِ

في قصيدة "مازلت أبكيه" (ص 24) تلعب موسيقى القافية دورًا عظيمًا في إبراز هذا الحزن والشجن والوله والنهنهة والعويل، فقصر السطر الشعري أو قلة عدد التفعيلات التي يحتويها السطر الواحد، بالإضافة إلى قافية الهاء المكسورة، ساعدت على تجسيم عالم الحزن والشعور بالفقد الذي يغلف هذا الديوان من أوله إلى آخره:

مازلت أبكيه

لي فيه مدخر مازلت أحصيه

يقتات من شجن قد رحت أخفيه

عن عين رائيه.

بلغت سطور هذه القصيدة ثمانية وأربعين سطرا، انتهت منها أربعة وثلاثين سطرا، بقافية الهاء المكسورة (أبكيه – حواشيه – أحصيه .. الخ) بالإضافة إلى وجود سبعة أسطر انتهت بقافية الهاء المضمومة:

حتى إذا ركضتْ في الليل غربتُه

لبَّته مهرتُه

أي أن واحدا وأربعين سطرا انتهت بحروف الهاء من بين ثمانية وأربعين سطرا هي سطور القصيدة كلها، ألا يستدعي هذا وقفة مع حرف الهاء؟

إننا عندما نتوجع لا نملك إلا أن نقول "آه" لذا فقد كثرت هذه الهاءات بهذه الصورة الملفتة للنظر. إنها تنساب وتتناسب تماما مع موضوعات الألم، وكأن ورودها على هذا النحو يخفِّف شيئا ما من الحزن والألم، ويعبر كل التعبير – في الوقت نفسه – عن أحزان وتوترات وفجيعة الشاعر، ومن هنا نستطيع أن نكتشف سر إصرار الشاعر على التزامه بهذه الهاءات الكثيرة في قصيدته المعبرة "مازلت أبكيه" بل في عدد كبير من قصائد هذا الديوان الإنساني الذي يعكس لنا عمق الحزن النبيل الشفيف الذي يعيش بين جوانح الشاعر الأصيل فتحي سعيد.

يذكر أن والد الشاعر فتحي سعيد، وهو محمود سعيد، كان حاصلاً على عالمية الأزهر، ومدرساً للغة العربية بمدارس مدينة دمنهور. فنشأ شاعرنا في بيت علم وثقافة، وكان والده شاعراً وكثيراً ما كان يحث ابنه على القراءة وكثرة الاطلاع وكذلك نظم الشعر. لذا كان حزنه في رحيله كبيرا وعظيما.