شاهر: اشتغال الرازي بالعلوم التجريبية وراء مذهبه الإبستيمولوجي
محمد بن زكريا الرازي عَلم شامخ من أعلام الفكر الفلسفي والعلمي الإسلامي والعالمي، ولكن شهرته بين الناس كطبيب طغت على شهرته كفيلسوف بسبب فقدان معظم أعماله الفلسفية، الأمر الذي يمكن تفسيره باتساع جبهة خصومه الفكريين، حيث دخل في مناظرات مع معاصريه من أصحاب الكلام والدعوة الإسماعيلية، واختلف مع الفلاسفة المشَّائين، ولم يرض عنه الكثير من علماء الدين. والقاعدة هي أنه كلما كثر خصوم المفكر ازداد احتمال إهلاك أعماله، وكان هذا الأسلوب هو أشهر الأساليب التي تتبعها السلطات أو الجماعات لمحو أثر الأفكار غير المرغوب فيها من الذاكرة الثقافية للأمة.
ونظرًا لتلك الاعتبارات، فقد بقيت فلسفة أبي بكر الرازي مجهولة لقرون، ولم يبدأ الاهتمام الجاد بها إلا بعد أن أخرج ﭘاول كراوس ما بقي من أعمال الرازي الفلسفية في كتاب أسماه أبوبكر محمد بن زكريا الرازي، رسائل فلسفية. مضافة إليها قطع من كتبه المفقودة، فبدأت تظهر هنا وهناك بعض الكتابات عن بعض جوانب فلسفته.
انطلاقا من هذه الرؤية للباحث اليمني د.إحسان عبدالجليل شاهر تكمن أهمية كتابه "فلسفة أبي بكر الرازي
رؤية جديدة" الصادر أخيرا عن مؤسسة أروقة، كونه يشتمل على كل الأقسام الرئيسة لفلسفة أبي بكر الرازي، ويظهر بجلاء ترابطها المنطقي، ويعالج الكثير من المسائل النظرية التي لم يتناولها الباحثون، حيث مازالت الأبحاث والدراسات التي تناولت فلسفة أبي بكر الرازي قليلة العدد، وشديدة الإيجاز، وجلها اقتصر على تحليل مسائل واحدة بعينها، وأغفل تحليل المضمون الفلسفي لأهم مؤلفات الرازي الطبية والكيميائية.
يرى أن أبا بكر الرازي عاش في عصر كانت قد نقلت فيه الكثير من مؤلفات العلماء والفلاسفة اليونانيين القدماء إلى اللغة العربية، وحقق العلماء المسلمون نجاحات كبيرة في كل ميادين المعرفة الطبيعية والإنسانية المعروفة آنذاك، فازدات ثقة الناس بدور العقل وأهميته في الحياة العملية للناس. وقد ترك ذلك كله أثرًا كبيرًا على تكون الملامح الأساسية لشخصية أبي بكر الرازي، والتي لعل أهمها هي موسوعية ثقافته، وتشبعه بالروح العقلانية العميقة، وارتباطًا بذلك، اتصافه بالتفكير النقدي الذي لا يهادن قوة السلطة.
ويلفت إلى أن البيروني في رسالة في فهرست رصد للرازي قائمة بعناوين الكتب التي ألفها، مصنفًا تلك الكتب على النحو التالي: كتب طبية "ستة وخمسون كتابًا"، طبيعيات "ثلاثة وثلاثون كتابًا"، منطقيات "سبعة كتب"، رياضيات ونجوميات "عشرة كتب"، التفاسير والتلاخيص والاختصارات "سبعة كتب"، فلسفية وتخمينية (سبعة عشر كتابًا)، ما فوق الطبيعة "ستة كتب"، الإلهيات "أربعة عشر كتابًا"، كيميائيات "اثنان وعشرون كتابًا"، الكفريات "كتابان"، في فنون شتى "عشرة كتب". أما الرازي نفسه فيقول بأنه ألف حتى كتابة مقاله المسمى ﺑ السيرة الفلسفية قرابة مائتي كتاب ومقالة ورسالة "في فنون الفلسفة من العلم الطبيعي والإلهي"، وهذا هو أوثق الأقوال إذا كان ذلك المقال هو آخر عمل كتبه الرازي في حياته.
يقول شاهر أن الرازي ينفي أن يكون العالم قد حدث عن الصانع بالطبع، لأن ذلك يفترض أن بين المـُحدِث والحادث مدة متناهية، وهذا يوجب أن يكون الصانع مُحْدَثا. ومن جهة أخرى، يقول الرازي إذا افترضنا أن الله تعالى أحدث العالم بإرادته الحرة دون، أن يكون معه في الأزل شيء آخر، سنعجز عن الإجابة عن السؤال التالي: لماذا قرر الله تعالى خلق العالم في وقت معين؟ ومن أجل التخلص من هذا المشكل زعم الرازي أن النفس، كجوهر قديم، هي الباعث الذي جعل الصانع يخلق العالم في زمان معين. وهنا نرى، بجلاء، أن الرازي يقيس الفعل الإلهي على الفعل الإنساني، متناسيًا أن الإرادة المطلقة لله تعالى تلغي ذلك المشكل من الأساس.
ويتابع "على كلٍ، فالنفس، كما يزعم الرازي، "كانت حية جاهلة، وبسبب جهلها افتتنت بالهيولى وتعلقت بها وصنعت منه صورًا لكي تحصل على اللذات الجسمانية. وكانت الهيولى امتنعت عن التصوير وهربت من ذلك الطبع وجب على الله القادر الرحيم أن يساعد النفس ليخلصها من ذلك البلاء. ولما كانت تلك المساعدة منه سبحانه للنفس بأنه خلق هذا العالم وأحدث فيه صورًا قوية طويلة العمر كي تحصل النفس في تلك الصور على اللذات الجسمانية. (ومن أجل ذلك) أحدث (الله) الإنسان وأرسل العقل من جوهر إلهيته إلى الإنسان في هذا العالم لكي يوقظ النفس من نومها في هيكل الإنسان، ولكي يريها- بأمر البارئ سبحانه - أن هذا العالم ليس مكانها وأنه وقع لها خطأ". وبفضل العقل تتذكر النفس عالمها الحقيقي، وتدرك بأن هذا العالم المادي هو عالم الآلام. "وإذا عرفت النفس ذلك وعرفت أن لها في عالمها اللذات الخالية عن الآلام اشتاقت إلى ذلك العالم وعرجت عليه بعد المفارقة وبقيت هناك إلى أبد الآباد في نهاية البهجة والسعادة".
ويرى شاهر أن الرازي قدم قصة خلق العالم، محولًا لغته العقلانية إلى لغة أسطورية. وقد استعار أسطورته من مذاهب فلسفية ودينية مختلفة. فأخذ مفهوم الخلق بوصفه تصويرًا للمادة العديمة الصورة من أفلاطون، وفكرة الفيض من الأفلاطونية المحدثة، مقتفيًا أثر مذهب الفيثاغوريين وأفلاطون في تناسخ الأرواح. وبالإضافة إلى التأثير الإغريقي على قصة الرازي عن خلق العالم، نلاحظ تأثره بعرفان المانوية، ودليلنا على ذلك هو أن الرازي شَخْصَنَ النفس الكلية، خلافًا لأفلوطين الذي تصورها كمبدأ كوني خالص. والدليل الآخر على ذلك، هو أن قصة الرازي عن خلق العالم عكست التناقض المطلق بين النفس والمادة، أو بين الروح والمادة.
وهذا الصراع يبدو مبدأ كونيًا، بدأ مع حدوث العالم، وسينتهي مع زواله. وهكذا، فإن تغلغل العناصر العرفانية إلى المذهب الميتافيزيقي للرازي يفسر لنا لماذا رفض أنطولوجية أفلوطين الأحدية، وموضوعة أفلاطون عن أبدية العالم. وبناءً على ذلك، يمكن أن نؤكد بأن الرازي لم يتبنّ فكرة ديموقريطس حول تعدد العوالم المادية.
ويلفت أن الرازي تبنى فكرة سقوط الذرات في الفضاء، مع إنه لم يفسر نشوء العالم بصفات الذرات وحركتها العمودية في الفضاء الكبير كما يقول ديموقريطس، ولم يعط للذرات القدرة على الانحراف لكي تكون قادرة على تكوين العالم كما ظن أبيقور.
إنه بالأحرى فسر تكون العالم باتحاد النفس بالهيولى، وبفعل الخلق. وبناءً عليه، فالهيولىكانت، قبل الخلق، في حركة، إلا أن حركتها كانت مشوشة، وبالتاليلم تكن تلك الحركة، بذاتها، سببًا كافيًا لتكوين العالم.وبناءً عليه، فإن مغزى الخلق، في إطار تلك اللوحة، يتلخص في إعطاء الحركة طابعًا منتظمًا لتكوين النظام الكوني، وفي هذا تتجلى العلاقة المعقدة بين الميتافيزيقي والفيزيقي، بين المثالي والمادي في تفسير الرازي لنشأة الكون.
ويظهر الطابع المتناقض لتلك العلاقة، بوضوح، في زعم الرازي، من جهة، بأن النفس الكلية تفعل كعلة فاعلية في العالم المادي، ومن جهة أخرى، في تفسيره لظواهر ذلك العالم بأسباب طبيعية.
ويرى الرازي أنه بعد فناء العالم، بتحلله إلى ذرات في الفضاء الكوني، ستعود حركة الذرات إلى سيرتها الأولى، أي كما كانت قبل خلق العالم. ومن هذا يترتب أن الخلق ما هو إلا تحول الفوضى إلى نظام كوني، وفناء العالم هو، ببساطة، عودة إلى الفوضى، مرة واحدة وإلى الأبد، وبذلك نكون قد أثبتنا بأن الهيولى، قبل نشؤء الكون، لم تكن، من منظور الرازي، في سكون مطلق. لقد جعل الرازي نهاية العالم نتيجة لانفصال النفس الكلية عن الهيولى، وذلك الانفصال، بدوره، هو ثمرة إدراك النفس لآلام العالم المادي، وتطهرها التدريجي في كل رحلاتها الدنيوية، وفي هذا، يظهر، مرة أخرى، تأثير عرفان المذهب المانوي، وتأثير مذهب تناسخ الأرواح.
ويستنتج شاهر من خلال لتحليلاته لأعمال الرازي أنه يعطي للنقد أهمية كبرى في إبستيمولوجيته، لأن النقد شرط ضروري لتطور العلم، وغايته تصحيح الأخطاء التي تظهر في العلم بحكم الطبيعة اللامتناهية للمعرفة، والتكوين النفسي للإنسان، والأخطاء التي تقع في عملية البرهنة. حيث يقوم النقد عنده على أسس أخلاقية، أهمها اتباع العدل، أي الإقرار بفضل من نقوم بنقدهم في تطور العلم، ويقوم كذلك على أسس نظرية، أهمها الإيمان بمبدأ نبذ السلطة، والالتزام بالموضوعية.
ويرى أن الرازي ينظر إلى المعرفة العلمية كعملية متصلة، ولذا فإن انطلاق اللاحقين من معارف السابقين أمر لا مفر منه، وفي هذا يتجلى الطابع الاجتماعي للمعرفة العلمية، التي يكون فيها حظ اللاحقين أكثر من السابقين، لأن تراكم المعارف، وتطور خبرات البحث، يتيحان للاحقين اكتشاف تناقضات وأخطاء السابقين، وتلك هي عوامل تطور المعرفة العلمية. لقد اقتبس مفهومه للعلم من أرسطو، فالعلم، في اختلافه عن سائر المعارف، يهدف إلى دراسة العلل، وغايته اكتشاف الحقيقة، وشرطه هو البرهان أو القياس المنطقي، وعلى هذا الأساس فالفنون لا تنسب إلى العلوم. وأقر بإمكانية معرفة العالم، وفسر نشأة العلم واللغة تفسيرًا طبيعيًا، وتبنى نظرية التواضع والاتفاق في نشأة اللغة، مستعيرًا إياها من ديموقريطس وأرسطو، وانتقد الموقف الشوفيني من اللغة، وفي هذا تتكشف أحد مظاهر نزعته الإنسانية.
ويلاحظ شاهر أن اشتغال الرازي بالعلوم التجريبية لعب دورًا كبيرًا في تكون مذهبه الإبستيمولوجي، ولذلك خالف أفلاطون في موضوعته حول قبلية المعرفة، وأقتبس العديد من آراء أرسطو في البرهان والحدس من خلال مؤلفات أرسطو المنطقية، أو من خلال جالينوس.
وقد استعمل الرازي المناهج التجريبية كمناهج اكتشاف للصلات السببية الموضوعية، التي كان يدرسها في بحثه العلمي دراسة تطورية، وساهم بشكل فعال في تطوير تكنيك تلك المناهج، رابطًا إياها بمناهج أخرى مثل المقارنة والتصنيف.
ويخلص إلى أن المناهج التجريبية في إبستيمولوجية الرازي تؤدي ثلاث وظائف رئيسة: وضع الحقائق التجريبية أو التعميمات الأولية، والتحقق من صحة النظريات العلمية، واختبار بعض الحدوس. وبهذا الفهم للمناهج التجريبية تميز الرازي عن الفلاسفة العقلانيين الآخرين، الذين انتقصوا، بدرجات متفاوتة، من الدور المعرفي للاستقراء، وأقترب من المذهب التجريبي.على أن تزايد الميول التجريبية في إبستيمولوجية الرازي لم يفض إلى تخليه عن المذهب العقلي، وبخاصة الموضوعة القائلة بأن الحقائق التجريبية لا تكتسب طابعًا كليًا إلا بتطبيق المناهج العقلية عليها.وانطلاقًا من ذلك، يرى الرازي أن معيار الحقيقة في العلوم التجريبية هو تطابق نظرياتها مع الواقع الموضوعي، وتلبيتها لشروط وقواعد البرهان، أما في العلوم النظرية فالمعايير منطقية بحتة.
يفسر الرازي الإحساسات كنتاج لتأثير العالم الخارجي على أعضاء الحس التي من طبعها عكس تلك التأثيرات، ويرى بأن الإحساسات لا تدرك سوى مظاهر الأشياء، ومن هنا تأتي أهمية العقل الذي يدرك بواطن الأشياء، وبالتالي فالعقل يكمل الحواس. ويقر بدور الحدس في النشاط المعرفي للإنسان، ولكن لا يعتبره مستقلًا عن أفعال الحواس والعقل، فالحدس عنده مرتبط بالتجربة، التي قد تثبت أو تفند صحته، وبالحدس يدرك الناس المبادئ الأولية، التي لا تتكشف أهميتها العلمية إلا بارتباطها بالاستنباط.
ويختم شاهر مؤكدا أن إبستيمولوجية الرازي مشبعة بإيمان راسخ بقدرة العلم على بسط سلطان الإنسان على الطبيعة من خلال تطور الحضارة، ولا نجد لهذا التفاؤل المعرفي نظيرًا على امتداد تاريخ الفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى.