عبدالناصر مجلي: عظمة الشعر في استحالته وجبروته

التجربة الشعرية للشاعر اليمني عبدالناصر مجلي تنطلق من أفق إنساني يتكئ على ذات مفعمة برؤى شديدة الخصوصية لرسم الوجود المحيط بالجسد واشتباكاته مع الروح، ولتقديم نصوص مشحونة بأبعاد جغرافية موجعة في تقلباتها.

تنطلق التجربة الشعرية للشاعر والقاص والروائي اليمني عبدالناصر مجلي المقيم بأميركا منذ العام 1992 من أفق إنساني يتكئ على ذات مفعمة برؤى شديدة الخصوصية في نظرتها لما تواجهه مساراتها من حيوات، ترسم الوجود المحيط بالجسد واشتباكاته مع الروح، المحيط اليمني الأميركي وامتداداته في المدن العربية والأميركية وما يعتمل في ماضيه وحاضره، ذكريات الحياة بتفاصيلها المليئة بالحنين والأحلام والآمال، لتقدم نصوصا مشحونة بملامح وأبعاد جغرافية موجعة في تقلباتها لا تخلو خطواتها في دروب الحياة من آلام. نصوص بسيطة في لغتها، عميقة في دلالاتها، بعيدة عن التعقيد والافتعال، تتشكل جمالياتها الفنية من هموم وشجون الذات في قراءاتها للعوالم المضطربة من حولها.
هذه التجربة صدر الجزء الأول منها أخيرا عن مؤسسة أروقة بمقدمة للشاعر يلقي فيها الضوء على جوانب مهمة، مفتتحا بالتأكيد على أن "هذه تجربة شعرية أحسبها تستحق مني على الأقل والأكثر نظرة تفسيرية ضرورية، كونها كُتبت وما زالت في ظروف وأوقات وأحداث متنوعة ومتشابكة، وكذلك في مُدن وفجاج وجهات وأرجاء متعددة ومتصادمة، كُنت نقطة التقائها الوحيدة، مثلما كانت هي عالمي الذي اشتبكت معهُ واشتبك بي ولم نزل حتى ما شاء الله.
ويلفت مجلي إلى أنه تردد كثيراً قبل الإقدام على هذه الخطوة المتمثلة في شحن أكبر كمية من البروق والصواعق والجغرافيات والتضاريس والتواريخ والأوقات والشخصيات والمواجع والآمال والهزائم.. إلخ، التي كتبتها وكتبتني في ظروف شاء قدري أن تكون صعبة وغير يسيرة أو مريحة على الإطلاق، لذلك فقد كُتِبَتْ تحت عدة سماوات غريبة عني مثلما أنا غريبٌ عنها. كُتبت بكل ما في الإحساس من فجيعة وألم وعثرات وهزائم وانكسارات على المستوى الشخصي، وعلى المستوى العام بكل أبعاده. أقول حاولت شحن كل ما استطعت حمله باختياري له ليكون بين دفتي كتاب، ليس من باب تَسْطِيعِ الاسم وإشهاره، فقد تجاوزت بقصيدتي وتجاوزت بي مثل هذه الفرضيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن من باب الشهادة على كُل ما مر وهو كثير لا قبل لي بحصره والتعبير عنه في هذا التنويه."
ويرى إن القارئ لهذه التجربة سيلاحظ فضاءاتها الإنسانية الواسعة، تلك الفضاءات التي عبَّرت عن العام أكثر من الخاص، ذلك إن ما التقطته روحي خلال هذه التجربة الشعرية أنساني نفسي بعدما وجدتني في حالة اشتباك غير متكافئة مع واقعي الذي وجدت ذاتي فيه على كافة الأصعدة بالنسبة لي كإنسان أراد الله له أن يكون شاهداً، أو حاضراً، أو على الأقل يعيش في هذا العصر.
 لقد كنت - كما أزعم - منذ بداياتي وحتى كتابة هذه السطور على موعد مع الكتابة الاستباقية والمغايرة والصعبة، نظراً لنفوري من الكتابة السهلة واللينة، وعليه فقد حملت أزميلا وليس قلماً ولا زلت لكتابة قصيدة عبدالناصر مجلي التي تشبهه، بكل ما تحتمله من توجهات ورؤى لا تعني أحداً سواي على مستوى تجربة الكتابة نفسها، بحيث عند انتهائي منها تكون حقاً عاماً لم يعد لي منه سوى الاسم.
ويؤكد مجلي إن التمعن في قراءة هذه التجارب الشعرية ستصل بالمتابع والمهتم إلى حيث أردت أن أصل به عن سابق قصد وتصميم مُسبق، أي إلى نقطة اكتشاف كيف يمكن للقصيدة أن تكون مختلفة ومتلونة وغير مطواعة.
 بمعنى أن للشعر أبوابًا ومداخل كثيرة يمكن للشاعر أن يكتفي بطرق أحدها، لكنني لم أكن ذلك الشاعر الذي يرضى من الاكتشاف بالإياب، بل وتجريب هذا الاكتشاف بأكثر من طريقة في معمل تجربتي الشعرية ذاتها، هذه التجربة التي أتعبتني وأرهقتني ونزفت بين يديها وعلى جوانبها كل مشاعري وجوارحي سلبية كانت أم إيجابية في سبيل الوصول إلى حيث لا أدري.!
ويشير إلى أن الشعر كائن خرافي متشرط وفاتك إن لم يجد من يستطيع مسايسته بالقدر الذي يُشبع غروره الهائل، وأنا هنا لا أزعم أنني نجحت في ذلك فلا أحد قدر أو يقدر أو سيقدر، كون عظمة الشعر في استحالته ومنعته وجبروته ولا عاديته، وعليه فقد عشت فيه وعاش فِيَّ-ولا يزال- ومع ذلك لم أغترف منه إلا القليل، لكنه قليل أزعم أنه يرضيني ولو بنسبة ما، ففيه ومعه ومن خلاله اكتشفت نفسي والعالم من حولي ولولاه ما كنت لأعرفني وأقتنع بي ككائن حي يتنفس. كان الشعر وما زال رفيق درب مزاجي، متقلبًا، عنيدًا، طمَّاعًا لا يرضى بالقليل أو قسمة الـ"نص،نص"، وقد أتعبني وأتعبته حواسسي ومداركي.
ويتابع مجلي "وجدت صعوبة كبرى في التوفيق بين تواريخ القصائد لا أدري لماذا؟!. ربما لأنني دون تواضع أظنني لم أشبع مما اغترفته من بحر الشعر الواسع، ولذلك شكلت لي التواريخ تلك المعضلة الفهرسية، التي لم أتغلب عليها إلا بواسطة تقديم مجموعة وتأخير أخرى، مُفسحاً المجال أمام النصوص لتُعبر عن وجودها بدون وسائط وإن اختلفت التواريخ. إنه تأخير وتقديم المهنة وليس الضرورة، كوني أعلم أهمية التأرخة بالنسبة للأسبقية في كتابة أسلوب شعري بعينه، كقصيدة النثر على سبيل المثال، التي سيراها القارئ المتمرس تطارده عبر كل السطور وكل الصفحات وكل المجموعات، ولكن؛ وذلك ما عنيته بالضبط بصور مختلفة، لجهة اللغة والصورة والتكنيك اللوني لفضاءاتها المتعددة وإن كانت هي نفس القصيدة في طور تشكلها ومراحلها العُمرية المتصاعدة.
ويضيف "هنا أنا لا أصف نفسي بشاعر يكتب قصيدة النثر، أو أي قصيدة أخرى، وإن كنت كذلك بالفعل، ولكن أوضح أنني شاعر يكتب الشعر بطريقته وأسلوبه ومسمياته الخاصة به، وهي في الأخير تُحسب لي أو عليّ، إذ أنها – القصيدة - هي ابنة شرعية لي كشاعر في المقام الأول ولا تمت إليّ بصلة كمنظر أو كناقد، فعندما أكتب الشعر أنسى ما حولي حتى نفسي تماماً، وعليه فإنني حتى هذه اللحظة أشعر بلذة الاكتشاف والتعجب عندما أسأل نفسي هكذا: تُرى كيف كتبت هذه القصيدة، وما هي أحاسيسي ساعة كتابتها و.. إلخ؟ فلا أكاد أجد إجابة محددة. الكلام - ولا شك - سيطول، خصوصاً ونحن نتحدث عن الشعر، وما أدراك ما الشعر، لكنني سأقول: لقد كانت رحلة ممتعة بعذاباتها وعثراتها وهزائمها وانتصاراتها وفتوحاتها. وتكمن هذه المتعة في كونها لا تزال عند خطواتها الأولى على مضارب جمهورية الشعر المترامية الأطراف.

 شاعر يكتب الشعر بطريقته وأسلوبه ومسمياته الخاصة به
شاعر يكتب الشعر بطريقته وأسلوبه ومسمياته الخاصة به

ويخلص مجلي إلى القول "كتبت قصيدتي بهاجس إيماني بها كقصيدة وبي كشاعر وهو لقب أعتز به ولن أتخلى أو أبرأ منه أبداً.. فلولا الشعر ما كانت هذه السطور وما كنت أنا، وبسيف هذا الكائن الخرافي استطعت - ولازلت ـ الدفاع عن كل ما يستحق أن يُدافع عنه ابتداءً بي شخصياً وانتهاءً بكل المثل والقيم والحقوق.. إلخ. إن الشعر لم يكن مجرد لغةٍ مسبوكة ترفع أعمدتها بذكاء وخبرة وصَنْعَةٍ، إنه أعمق من ذلك بكثير، إذ أنه بماهيته يصل إلى مستوى الكون المستقل بجغرافياته وتضاريسه، ومناخاته وكائناته، وعندما نطل على حدوده: لا نكون مجرد قوالين يرطنون باسمه، بل جزء لا يتجزأ منه كما صار هو جزء لايتجزأ منا كذلك، ولهذا أقول: إن كتابة الشعر لا تعني التشدق به نيابة عنه حتى نكون شعراء، ولكن يجب أن يكون الشاعر وجهًا آخر للشعر كما هو الشعر ذاته وجه له -أي جسدان بروح واحدة لا انفصام لها أو انقسام. لقد غامرت -ومازلت -بالإبحار في أوقيانوس هذا الخرافي الهائل وله صرت مختلفاً وسباقاً في مناحِ كثيرة،ذلك أنني - كما أزعم – تلبسته وتلبسني فصرت لا أستطيع التفريق بيني وبينه إلا بعد صحوتي من غشية الإبصار فيه والإمساك بتلابيبه، كما يفعل هو معي تماما".
قصيدة منزلة الحرب

سأدخل صنعاء من بوابة الحرب
المخبأة في حدقات الأرامل
وسأفتح بوابة الدم الأول
من حيث انتهى الجند من موتهم
الموت الذي انتظرهم كثيراً
عند عتبات بيوتهم الخاوية
إلا من أحذية تدوي بحروبها
في حجرات مبخرة
بروائح الوحشة
واليتم المنتظر.
للسماء
المدججة بغيوم الخيانة
أن تهيئ مطرها الذي لا يجيء
ولها أن تحرث
حكايتها في بقيع لا حياة فيه
وللشرفات
الملوّحة بمناديل أحزانها
والعيون المكبلة باللثام
وحوادث صغيرة لا تُرى
من جنون محبب
في أسرَّة
مُهيأة للبكاء.
للغبار..
للمساءات التي تأوي إلى شجنها المعتاد
كلما أقبل الليل
لـ"العواضي أحمد ضيف الله"
أن يبكي "يحيى"*وأن يتركه
يذهب في قشور الكلام.
"الشاهري"
"والمكالف" اللواتي لا يبارحن المخيلة
الملبدة بالكفر والصلاة
ودفقاته العابرة.
"لشاجع"..
العابر في نشيج القبيلة النائمة
على ثأرها الوحشي.
لـ"مختار الدبعي"..
وقصائده التي تقرأ في لوكة القات.
أو
"عبدالله قاضي"
أو
ربما "محمد سعيد سيف"
في "شارع الشاحنات"
لـ"مختار الضبيري"..
أن يموت كيف يشاء
أو لعلها ابتسامات
"آمنة يوسف" اليائسة.
لكل شيء في صنعاء
عرسه القادم من الموت
ولي أنا حجر
الطريق المتعب بآدميته
أن أمارس في البكاء شهوتي كل مساء
أو أن
يرفع "توفيق القباطي"
عقيرته بالغناء في زمن
تأكله الجثث.
لكنني أنا الحجر الرابض
في منتصف الأشياء
بين ذلك المتسول الأعمى
ويده الممدودة إلى التراب
وقات السيد المملوء بهواجسه
وعشيقاته العديدات
سأفتتح موتي المستباح
وأدخل في الذهول
في صنعاء
الدم
والجنون
والزهرة
السامقة!!!
قصيدة منزلة الجُند

يأتي الجنود شاهرين موتهم
على أعنةً لا تفقه لها طريق.
الجنود..
الذين يسعون إلى حتفهم
رافعي الرايات والأقنية.
الجنود الطيبون
الذين ترقب نظراتهم المتلفتة في الخوف والقتل
نساء يبكين موتهم الجميل -إن جمَّلته الأشياء-.
فيا أيها الجندي الذي يحرث منيته بيده
ويحصد في المخيلة سيناريو الانتصار
رائع أنت في موكبك البهي الراكض في القفار.
الموكب الذي سيترك
حزازات عابرة لا تندمل
في قلوب مشرعة النوافذ
لحزن سيأتي بأشيائه الخاصة
قبل أن تُرفع الراية
على جثة يانعة.
رائعٌ أنت
أيها الخائف من النصر
الذي سيُعلن على جثتك
لك أن تمارس فروسيتك
بين المدفعية وبين
أرملة ستبكيك بعد قليل
أو أن تقتعد تلة بعيدة لا تُرى
وتبكي عمرك الذاهب في الفراغ.
تقدم باتجاه وطن
سيبكي فيك العنفوان
ويبكي فيك نفسه والدم المُراق
وكن رفيقاً بالزهر
إن
وطأتهُ الأحذية
وبالعلم الملون
إن
رفعته عالياً
في سماء غادرتها النجوم
وبك أنت
الولد المتقدم نحو موته
بثبات القتيل.
يا أيها المدعوك بزيت المنية
الجندي

الخارج عن طقس الجسد
القابع في إيقاعٍ
اسمهُ
الموت.
قف...
(قفوا..)
حيث لا تمضي الخطى
وحيث لا تقفل على نفسها الدروب
مسارب الغدر والفجيعة.

يتقدم الجند
قافلة من أغانٍ موجعة
باتجاه الوطن الأسير
في دم الأخوين
يقتلهم النعاس القديم
والحُجة القاتلة.
ولا تنس في قبرك البعيد
إن
بكتك طفلة خائفة
أن
تطلق وجعك الصاعد
مثل طلقة خاطفة
في وجه الخصوم
ولك
حينئذٍ
أن
تنام!