الحب والشهوة تحت آثار سقوط حائط برلين
قبل أن تكون رواية "يوما ما سنقول لبعضنا كل شيء" للروائية الألمانية دانييلا كرين رواية حب وعشق وشهوة لفتاة تبلغ من العمر 17 عاما، فإنها رواية توثق لمرحلة ما قبل سقوط حائط برلين بشهر واحد، ثم سقوطه والتحول والانفتاح على الثقافة الغربية، حيث تتجلى المشاعر المتضاربة داخل المجتمع ومحاولة أفراده استيعاب ما حدث، كما توثق للمشاعر المهووسة ونقاط التحول في اللغة الحالمة للشباب خاصة في مرحلة المراهقة.
حيث يقترب القارئ بوضوح من ملامح وأبعاد التغيرات التي أصابت مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية/ الشرقية في هذا الصيف الحافل بالاضطرابات.
تعيش بطلة الراوية التي ترجمتها د.رضوى إمام وصدرت عن دار العربي للنشر "ماريا" في مزرعة آل بريندل داخل قرية ثلاثية الجوانب في المنطقة الحدودية السابقة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية تتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة، لم تدمرها الحرب ولم تقد عليها ألمانيا الشرقية، بالمزرعة تعيش ثلاثة أجيال تحت سقف واحد: الأب سيجفريد والأم ماريان، وابنيهما لوكاس ويوهانس، ثم الجدة فريدا، التي توفي زوجها بسبب السرطان، وأخيرا الخادم ألفرد الصامت دائما.
تقع ماريا في حب يوهانس، الذي يكبرها بعام. في أحد الأيام يصحبها ليقدمها إلى والديه، ومنذ ذلك الحين كانت تعيش معه في إحدى غرف المزرعة. في الواقع، كان من المفترض أن تعود معه إلى المدرسة في بلدة المنطقة، ولكن بما أن الأعياد قاب قوسين أو أدنى وغيابها لم يعد مشكلة. إنها تفضل البقاء في السرير وقراءة الروايات الروسية حتى الساعة العاشرة، كيف يمكن أن يسير هذا على ما يرام؟ إن أسرة آل بريندل تعمل من الفجر إلى الغسق في المنزل والمزرعة والماشية وحديقة الخضروات والمروج والحقول. بالإضافة إلى ذلك، يقومون بتشغيل متجر صغير بالمزرعة. ماريا، من ناحية أخرى، هي الفتاة التي تحب القراءة وتدخين السجائر وتنغمس في الملذات الحسية مع يوهانس في جميع الأماكن. لكنها مع ذلك تقرر المساعدة في أعمال المزرعة على الأقل في أعمال الدكانوالمطبخ وحصاد القش.
إننا أمام سلسلة كاملة من الشخصيات تلتف حول الراوية ماريا، نعيش قصص علاقاتها ومواقفها ما يقال منها وما لا يُقالويمكن رؤيته من خلال تداخل وتشابك الأحداث، فمثلا الخادم ألفرد الذي يوصف بـ "الصامت"، قيل ذات مرة إنه كان يحب زوجة المزارع في ذلك الوقت؛ زوجة المزارع الحالي، التي هي الأولى في الأسرة التي تدمج التحول المجتمعي بعد سقوط حائط برلين في حياتها اليومية، ووالد ماريا، الذي وجد حبا جديدا في روسيا يكبر ابنته بثلاث سنوات فقط، وقصة الجمهورية الرائدة أو المعسكر الاشتراكي "جمهورية إرنست ثلمان الرائدة"، هذه القصص جميعهم تشكل فسيفساء إنسانية ولغوية.
الهدوء الذي تعيش فيه "ماريا" في تلك المزرعة، يتحطم تمامًا عندما تلتقي جارهم من "آل هينار"، الرجل الوسيم الذي يكبرها سنًا وخبرة، ودائمًا ما يأتي بصحبة كلابه ويأخذها لركوب الخيل. تنجذب إليه، فيباغتها بلمساته الحادة والموجهة التي ينتفض لها الجسد، فتبدأ بالمقارنة بينه وبين حبيبها يوهانس صغير السن.
مع يوهانس، ماريا لا تزال طفلة، مع هينار تصبح عشيقة. وتصبح مدمنة على لمساته لدرجة أنها تقرر أخيرا قول الحقيقة والانتقال للعيش معه في مزرعته حتى لو كان هذا يعني نهاية علاقتها بالمجتمع، لقد حان الوقت لمعرفة عالم من المشاعر والنشوة التي هي أكثر قوة مما يمكن السيطرة عليها بالعقل. تختفي تماما عندما تكون مع "هينار"، تسمح له بفعل ما يشاء معها. ومع ذلك، فإنها تجرؤ على القيام بذلك مرة واحدة فقط مع "يوهانس". على الرغم من أن "هينار" ليس لطيفا، الشخص بأكمله ليس لطيفا. لهذا السبب من الجنون الذهاب إليه، ومع ذلك فهي تفعل ذلك، مرارا وتكرارا.
"هينار"رجل أربعيني مثقف ومحبة للمطالعة ويمتلك مكتبة ضخمة في بيته، يعيش وحيدا وله جاذبية خاصة للنساء ربما لجرأته، ومن ثم تثار حوله الشكوك في القرية، يلتقي ماريا عن طريق الصدفة ليوم واحد، لمسة واحدة منه منه كانت كافية لحب لا مفر منه. ماريا "تقع في تسمم عميق، لا شيء يمنعها من هذا الرجل". حبها في بعض الأحيان يتجاوز حدود الطاعة، وبعد فترة قصيرة تقول الجملة الوحيدة له "تفعل ما تريد معي".
وهذا ما يفعله "كان لذكائه شيء حيواني، لا يمكن التنبؤ به، شيء ذكرني بأشياء حدثت قبل وقتي بفترة طويلة، لا أستطيع أن أعرفها ومع ذلك أعتقد أنني أعرف، كما لو أن ذاكرتي كانت مجرد جزء من ذكرى أكبر". لكن "هينار" يريد قلبها بدلا من فخرها وهكذا ستنمو "ماريا" في هذه العلاقة ولن تكسرها طوال الصيف حيث تعيش حبها لـ "هينار" سرا.
على الرغم من أنها تعامل يوهانس وعائلته باحترام ومودة شديدين، إلا أنها غير قادرة على التخلي عن هينار، لذا تستمر في دفع عشقها إلى أبعد مما كانتتعتقد، وهو يعترف بأنه أدمن على حبها. ومع ذلك، فإنهما ـ هو وهي ـ يريان النهاية قادمة. نهاية الصيف، نهاية جمهورية ألمانيا الديمقراطية، نهاية الحياة التي عرفاها، نهاية حبهما واعتباره ماضيا، لقد سقط هينار تحت عجلات قطار مزقته وسقط جدار برلين، وبدء عالم ومستقبل جديدين واعدين لها ولحبيبها يوهانس.
تقول ماريا "في الخريف المقبل سأترك مزرعة آل بريندل وسأرحل مع يوهانس إلى لايبتزج، مازلت لا أدري، ماذا عساي أن أفعل هناك، ولكني بالتأكيد سأجد طريقي. كثيرا ما أستحضر عبارات أليكسي، أصغر الإخوة كارامازوف، عندما قال" بالتأكيد سنلتقي وسنقول لبعضنا كل شيء بسعادة وبهجة" نعم، كل شيء".
يذكر أن الروائية دانييلا كراين وُلِدت عام 1975 في ألمانيا الشرقية. وتعمل محررة وكاتبة سيناريو. "يومًا ما سنقول لبعضنا كل شيء" هي روايتها الأولى وصدرت عام 2011، وقد حصلت على جائزة "نيكولاس بورن للعمل الأول" وتُمنح الجائزة للأعمال التي كُتبت بالألمانية وتحمل أهمية أدبية ثقافية كبيرة. تُرجمت الرواية إلى أكثر من 20 لغة.
صدرت روايتها الثانية عام 2019 تحت عنوان "الحب في خمسة فصول"، وقد حصلت عام 2020 على جائزة "ساكسون" الأدبية الرفيعة، والتي تصدر ترجمتها العربية قريبًا.
مقتطف من الرواية
في الخامسة فجرا، بدأ "زجفريد" عمله في الحظيرة كالمعتاد. فإخلاصه المعهود هو سر إعجاب "مريان" به، وعشقها له حتى اليوم، ذلك إلى جانب عزيمته وقوته، وحسه بالمسئولية، لا يمكن للموقف السخيف الذي حدث الليلة الماضية، أن يمحو عشرين عاما من الزواج السعيد.
رحل يوهانس مع لوكاس إلى المدينة، لقضاء بعض المشاوير. أما عن أفريد الذي أنساه بسهولة، فكان يتجول في أرجاء المزرعة. وبحلول الظهيرة، خفت السحب قليلا، ولكني سرعان ما شعرت بتكدسها في السماء مرة أخرى، بعدما وجدت "هينار" أمامي في الدكان.
اشترى اللحوم والسجق والبطاطس والطماطم والتوت، صحيح أنه لم يأت خصيصي لي، ولكنه فرح عندما وجدني في الدكان بدلا من "مريان" التي لم تقدر على مقابلته، بسبب شجار الليلة الماضية. كما أن "زجفريد" ناداها كي تساعده على المراعي، أو ربما فقط كي يبعدها عنه. فحماقة الحب لا تفرق بين الكبار والصغار.
صرت وحدي مع "هينار" في الدكان، وبعد أن وضعت مشترياته فوق الطاولة، قال لي:
ـ اقتربي يا ماريا.
دفع الباب بقدمه، ولكنه تحرك قليلا دون أن يغلق. تملكت الشهوة من جسدي تماما، أزاح المشتريات جانبا ثم رفعني فوق المائدة، وأخذ يقبلني، قلت له:
ـ هل جننت؟ يمكن أن تدخل علينا "مريان" في أي لحظة.
ولكنه لم يبال، سألني:
ـ متى ستأتين ثانية؟
ثم همس في أذني قائلا:
ـ لقد أدمنتك!
ابتسامته لي كانت صادقة، مسح بنعومة ولين شعري وذراعي، ورقبتي وشفتيـ شعرت بالحزن الدفين داخل أعماقه، وكأنه أيام الحمى أبرمت عهدا بيننا، فأتى إليّ طالبا المزيد، شعرت بحركة من خلف الباب، لعلها قطة.
رفع فستاني إلى أعلى ثم قال:
ـ أعلم أنني آلمتك، ولكني لست آسفا على ذلك.
ثم وضع يديه على حجري قائلا:
قولي شيئا يا ماريا؛ أي شيء.
ولكني لم أعرف ماذا أقول، لا أعتقد أنه كان يعلم السبب وراء صمتي. لم أستطع أن أبوح له عما يجول بخاطري. كنت خائفة، لا على نفسي، بل عليه هو. شعرت أن "ألفرد"هو من يقف خلف الباب. وأنه كشف كل شيء منذ فترة، فهو ينتشر في سائر الأرجاء ويراقب جميع التحركات دون أن نلتفت إليه.
قلت له:
ـ لا أعلم متى يمكنني أن آتي إليك، سأثير شكوكهم، إن إدعيت أنني سأزور أمس مرة أخرى. ماذا سنفعل لو قابل أحدهم أمي في المدينة، وسألها عني؟
أجابني بحزن:
ـ لا أعلم يا ماريا!
خاب أملي فيه. دفعت يديه بعيدا ونزلت من الطاولة، فأمسك بي مرة أخرى، وقال لي بنبرة ثقة، احتجت إلى سماعها:
ـ ستأتين إليّ!
سمعنا صوت السيارة، وبعدها دخل "يوهانس" الدكان، فحيا "هينار" ثم اقترب مني وقبلني. وإذا بـ "هينار" يخرج على الفور. كم كرهت هذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه.