بكاء على البشر والحجر

لا أحد يفكر في الأرواح التي ستتألم وهي ترى أثاثها الروحي يحترق.
ضع خيمتك وأنصت إلى آهة الحجر!
امتلأت أسواق الانتيك بأشياء جُلبت من سوريا والعراق، وليس هناك في الدولتين مَن يطالب لوقف المتاجرة

الحجر أم البشر؟ ذلك سؤال مطلق ينطوي على مفاضلة عمياء. فإذا كان الحجر أثرا وكان البشر نازحين كيف يمكن الموائمة بين الاثنين؟

في سوريا كما في العراق متاحف في العراء. اينما حفرت في أور تجد لقية أثرية وهناك عشرات المناطق في سوريا هي عبارة عن مواقع شهدت نشوء المسيحية الأولى.

وفي سوريا كما في العراق نازحون هُجروا من مدنهم بعد أن هُدمت بيوتهم أو تم الاستيلاء عليها من قبل جماعات مسلحة تنتمي إلى واحد من الفريقين المتقاتلين لجأوا إلى المناطق الأثرية ليتخذوا منها أمكنة للسكن بالرغم من أنها لا تصلح لإيواء البشر.

ضع خيمتك وأنصت إلى آهة الحجر.

في الدول التي تحترم تاريخها تُحاط المناطق الأثرية التي لم يتم التنقيب فيها بالأسيجة وتنعم بحراسة مشددة اما في الدول التي تعرضت للاستباحة وانتهك فيها كل شيء فلا حرمة للآثار الظاهرة للعيان إذ أن الإنسان لا حرمة له هناك.

من المؤكد أن الإنسان العادي يُصاب بالهلع حين يرى حبل غسيل ممدودا بين عمودين أثريين. ولكن المؤسسات الثقافية الدولية المعنية لا تظهر أي نوع من الاستياء. أعلينا أن نصدق أنها لا تعرف ما الذي يحدث هناك في الوقت الذي نراها فيه تحتفي بثوب محلي أو رقصة فلكلورية كما لو أنها تكتشف صنيعا فنيا عمره الف سنة؟      

ما حدث في النمرود بالعراق بعد 2014 يوم احتل تنظيم داعش الموصل يتكرر في كل مكان من سوريا. فسوريا بلد قديم. لم تُستخرج مدنه التاريخية من تحت التراب وحتى مدنه المستخرجة لم يعد لها مكان على خارطة الحرب. لم تكن الحرب في مكان آخر. المناطق التي نجت من الحرب صارت مكب نفايات. 

كان الجنود البولنديون قد اتخذوا عام 2003 من شارع الموكب ببابل ممرا لحركتهم. لقد حمل إولئك الجنود معهم من العراق أشياء للذكرى. ويا لها من أشياء.  

لقد امتلأت أسواق الانتيك بأشياء جُلبت من وادي الرافدين، سوريا والعراق، وليس هناك في الدولتين مَن يطالب في ايقاف عمليات المتاجرة تلك. فالدولتان لا تملكان من شأنهما شيئا. بالرغم من العراق هو غير سوريا من جهة نظرية. اما واقعيا فإنهما في الهوة نفسها.

ولكن ما بال أولئك البشر الذين صار مصيرهم مرتبطا بالحجر؟

لن يحتاج المرء إلى دليل سياحي وهو يدوس باطمئنان على حجارة عمرها أكثر من الف سنة. ربما ستتسلل الحكايات إلى أجساد الأطفال النضرة غير أن الكبار سيعانون كثيرا وهم يبحثون عن حطب للتدفئة. لا أحد يفكر في الأرواح التي ستتألم وهي ترى أثاثها الروحي يحترق. هناك شيء من ذاكرتنا يحترق. شيء من معنى وجودنا يحترق.

ما فعله الدواعش في النمرود فعلته قبلهم حركة طالبان حين هدمت تمثال بوذا التاريخي. فعلت ذلك أمام العالم كله. هل كان العالم عاجزا يومها عن حماية ذلك الأثر التاريخي؟ وهو سؤال يشمل ما حدث في النمرود. كانت القوات الأميركية على مرمى حجر كما يُقال من المشهد الذي نقلته الكاميرات. كان كل شيء معروضا للفرجة. لا يوجد أحد في إمكانه مساءلة الولايات المتحدة عما جرى.

في سوريا يقيم النازحون في المدن الأثرية كما لو أنهم يؤدون أدوارا في فيلم تاريخي. لقد صاروا جزء من تاريخ، ستُعاد كتابته بمزاج ساخر. ليس هناك بكاء. الجميع يضحك. المواطنون الحاليون والمواطنون السابقون يضحكون. أهل البلاد الذين تركوا أثرا وأهل البلاد الذين استخفوا بذلك الأثر يضحكون. لا لشيء إلا لأن التاريخ صار يسخر من نفسه. هل علينا أن نعترف أنه ليس هناك تاريخ؟    

تكذب المتاحف علينا. في برلين تستقبلك الثيران المجنحة فتشعر بشيء من الرهبة أما في النمرود فقد تم تحويل الثور المجنح إلى غبار. لم يشعر أحد بالأذى بسبب ذلك الغبار. لم ينقل ذلك الغبار رسالة إلى التاريخ، ذلك لأن التاريخ لا وجود له. صار علينا أن نصدق كل ذلك ونحن خانعون. ليس التاريخ حجرا. ذلك ما يُقال جزافا وهو خطيئة. فالمتاحف العالمية تضم بين مقتنياتها أحجارا من كل مكان تقول ما لم يقله البشر.

ولكن في حكايات النازحين السوريين هناك ما يروي الحجر بالدموع. هناك تأريخ من نوع مختلف. لن ينافسهم الجنود البولنديون الذين سرقوا طابوق شارع الموكب في روايته. تأريخ يمتزج فيه البكاء على الحجر والبشر.