نظرة على أم كلثوم

'الست' التي تميزت بقوة الصوت وقوة الشخصية وقوة الإرادة كان لها الفضل على الشعر العربي وبعض الشعراء العرب، وتعاملها مع بليغ حمدي يعتبر محطة مهمة في حياتها المهنية.

في بداية رحلتنا السريعة في دنيا أم كلثوم التي تراهن على قوة الصوت زائد قوة الشخصية وقوة الإرادة، يجب أن نقول أنها وظفت كل شيء كل شيء من أجل صوتها، وقد لعب هذا الصوت الذي لم يخذل أم كلثوم قط أدوار ثقافية هامة جداً في الحياة المصرية والعربية، أدوار لا يمكن تقيمها، وإنما يمكن التعلم منها.
وكانت الدولة المصرية في جميع مراحلها في حاجة دائماً إليها، قبل ثورة يوليو كانت المملكة المصرية تعرف قيمة أم كلثوم وبعد الثورة ازدادت معرفة الدولة المصرية بقيمة أم كلثوم، كما كانت تعرف قيمة الثقافة. فحافظت الدولة عليها ووقفت معها وكأنها عضو في فرقتها لأنها ثروة قومية تلك التي يطلق عليها أم كلثوم، فتعاملت معها بكل حنكه وذكاء.
 ومن هنا كانت علماً لوطنها يلف الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، وقد أصبحت رمزاً لأمة كاملة اسمها الأمة العربية، يعرف العرب بها ولا تعرف بالعرب، ومن هنا كان العرب يعرفون قيمة "الست".
ومن هنا نبدأ رحلتنا مع أم كلثوم بقول عبدالوهاب الذي يصف فيه صوت أم كلثوم: "إن صوت أم كلثوم كان صوتاً زعيماً بمعنى أنه حين يتكلم أمامك فلابد أن تنصت وبدقة خوفاً من أن يفوتك شيء هام مما ينطق به هذا الصوت، فما بالك حين يغني".
ولو أننا حولنا أن نعبر عن رحلة أم كلثوم في الحياة، فلن نجد أفضل من هذا البيت الذى أبدعه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته سلوا قلبي "وما نيل المطالب بالتمني وانما تأخذ الدنيا غلابا".
ونحن لو أخذنا هذا البيت وطبقناه على كل شيء عظيم في جميل مراحل حياتنا، لوجدنا أن هذا البيت من الشعر كان هو المحرك والمحفز على القيام بتلك الأعمال العظيمة، فنحن يمكن أن نطبقه على مشروع السد العالي هذا المشروع الجبار الذي قامت به الدولة المصرية، كما قامت بحرب أكتوبر حيث لم تتمنى الفوز والانتصار، وإنما عملت على تحقيق هذا النصر بكل الطرق العلمية، وكان شعارها "وما نيل المطالب بالتمني وانما تأخذ الدنيا غلابا".
نفس الدستور والقانون الذي كان يحكم ويتحكم في حياة "الست"، التي كانت تناشد التميز والتفرد، ومن هنا عملت على ذلك، وكان ذلك سهلاً لها ما دامت أرادت ذلك لأنها كانت على علم ببيت الشعر الذى قاله شوقي في رثاء مصطفى كامل: "اجعل لنفسك بعد موتها ذكرى فإن الذكرى للإنسان عمراً ثان"
لأن الإرادة فوق كل شيء وكل مراحل ومحطات حياة أم كلثوم تؤكد وتبرهن لنا على ذلك.
 وأول محطة قابلت أم كلثوم وكان يمكن أن تنتهي فيها هي المرحلة التي قدمت فيها إلى القاهرة حيث كانت موجة الغناء الغث هي المنتشرة وتتحكم في الذوق العام، من عينة: (أرخى الستارة اللي في رحنا أصل الجيران تبص علينا وتجرحنا)، فلم تستسلم لقاعدة الجمهور عاوز كده تلك القاعدة الفاسدة وعملت على الارتقاء بذوق الجمهور الذي سعد بما تقدمه من غناء جديد.
وهذا يعد أولاً انتصار لأم كلثوم في القاهرة والثاني في حياتها، لأن الاول كان هو عدم استسلامها لسياسة الأمر الواقع الذي وجدت نفسها فيه، وأخذت تعلم نفسها فن السمع من أبيها وكل ما هو محيط بها وهي تجد نشوة في السمع الى تلك الأشياء الممتعة.
 وحاولت أن تجرب فجربت وهنا اكتشفها الأب فعمل على صنع ابنته فكان حسن الصنع ولأن النية خير فقد التقت أم كلثوم بالشيخ أبوالعلا محمد في محطة القطار وما أن عرفت أنه هو هذا الذي سمعت عنه حتى دعته إلى دارهم وبالفعل توجه الشيخ الطيب مع الفتاة إلى دارهم وقد طلبت الفتاه من أمها أن تذبح كل الطيور التي لديهم من أجل الشيخ أبوالعلا محمد الذي استمع اليها وهي تغني ومعلمها الأول سعيد جداً بها.

نحن نستطيع بالموسيقى الشرقية والآلات الشرقية أن نقدم أوبرا صادرة من تراثنا وحياتنا وتبهر العالم كله

 ومن هنا نكتشف أن معلم أم كلثوم الثاني هو الشيخ أبوالعلا الذي طلب من الشيخ ابراهيم أن يتوجه مع ابنته إلى القاهرة، لأن مستقبلها هناك وما لديها لا يستوعبه إلا القاهرة.
ومن هنا توجه الأب مع مشروعه ومستقبله إلى ساحة الابداع أو القاهرة وفيها كانت والولادة الرابعة حيث تولى الشيخ زكريا أحمد والسنباطي على تقوية مناعة أم الكلثوم الثقافية من جميع الجوانب، ثم يأتي بعد ذلك أحمد رامي الذي اكمل العمل الثقافي الجبار الذي كون أم كلثوم ثقافياً.
ومن تلك النقطة لابد أن نقف طويلاً لكى نحاول أن تحصى فضل أم كلثوم على الشعر العربي وبعض الشعراء العرب.
ونبدأ بأمير الشعراء التي كانت "الست" السبب في تحويل أحمد شوقي إلى شاعر شعبي أي الشعب كله يعرفه ويعرف قيمته كشاعر، فلو أنها لم تغن لشوقي لبقي شاعر الصالونات الثقافية أي شاعر الخاصة كما العقاد. 
وهنا وهنا فقط لابد أن تعرج إلى العقاد الشاعر صاحب العشرة دواوين لكن لا أحد يعرف أساميهم أو أي من قصائدهم، وهذا بسبب أن أم كلثوم لم تغني أو تفكر في تغني أحد قصائد العقاد.
 وأيضاً محمد إقبال فغناء أم كلثوم لحديث الروح هو الذي أدخله التاريخ، وكذلك عمر الخيام الذي لولا غناء رباعيات الخيام لبقى الخيام داخل كتب التراث، والشاعر السوداني الهادي آدم وتحفته: "غداً ألقاك"، و"هذه ليلتي" لجروج جرداق أو الأمير عبدالله الفيصل الذي تغير وضعه بغناء "الست" لـ"ثورة الشك"، وإبراهيم ناجي واطلاله وغيرهم، ومن هنا يجب أن نثمن دور الغناء في دعم الحياة الثقافية من جميع النواحي.
مرحلة بليغ حمدي
إن تلك المرحلة يجب أن تأخذ حقها من الدراسة والتحليل والثناء فأكثر من أحد عشر أغنية لحن بليغ لأم كلثوم يحصل 6 من عشرة على أعلى أداء علني.
وهذا يعنى أن مرحلة أو محطة أو باب بليغ حمدي مهم جداً ولا يمكن عدم الاهتمام به أو الوقف عنده للنظر إليه، لأنه محطة مهمة جداً في مسيرة أم كلثوم، التي لو لم تكن لما كان هناك بليغ وغيره، الذي اكتشف من خلال "حب إيه" تلك الأغنية التي بدأ في وضع لحنها الشيخ زكريا أحمد الذي مات قبل أن يكمل اللحن فذهبت الأغنية الى محمد فوزى (الذي سوف تكون لنا معه وقفة مستقله قريباً)، لكي يكمل اللحن.
 والذي اكتشف أن بليغ عندما كان في زيارة له في بيته أنه وضع لحن للكلمات وهو كان خارج المكتب، ولما عاد ووجد وسمع تحفة بليغ فقدمه إلى "الست" التي انبهرت ببليغ وصغر سنه وتلك العبقرية في وضع الألحان.
 وكان اندهاشها العظيم من فعل العبقري محمد فوزي، الذي قدم لنا جميعا عبقرية فذة مكان لها أن تتفجر إلا أمام قيمة مثل أم كلثوم وهل كان يوجد قيمة غيرها إلى الآن، والعلماء دائماً يظهرون في لمحة من الزمن، فكما كان الشيخ أبوالعلا محمد مرهون بسماع تلك الطفلة التي قلبت الموازين في المجالات الأدبية والفنية والاجتماعية والسياسية.
 وكان من حسن الحظ أن أم كلثوم قد اوكلت إلى بليغ تلحين ثلاثية مرسى جميل عزيز تلك التحف التي لا يمكن نسيانها "الف ليلة وليلة"،"فات الميعاد"، و"سيرة الحب".
الكاتب وأم كلثوم
وهنا ننظر إلى قول مهم للكاتب والروائي فتحي غانم  (ولكنها صاحبة الموهبة الفذة وابنة الشعب الحقيقي من الفلاحين الفقراء، أولئك الذين اكتشفوها وكانوا أول من منحها حبه، استطاعت أن ترفع فوق الطموح الضيق لأفراد الطبقة المتوسطة، وخاضت غمار الالتزام الفني للمبادئ والمثل العليا، فمنحت فنها خصوبة وحيوية متجددة، وارتفعت إلى أعلى القمم مع كل خطوة وتقدمها مصر كطليعة عربية للثورة وقاعدة التقدم والنضال.
 وهي تعلم أن جمهورها يهتم قبل كل شيء بشخصها هي ممثلاً في صوتها، قبل أن يهتم بكلمتها أو بألحانها، ولذلك فرضت أم كلثوم صوتها على اللحن، كما كان لها الحق الأول والأخير في اختيار الكلمات التي تغنيها وتعديلها مهما كان الشاعر الذي يؤلف أغانيها. 
وأيضاً كانت تشارك في تلحين وتأليف أغانيها بما أحدثته في الأغنية من تغييرات مختلفة، وليس أدل على ذلك من سماعك لأم كلثوم وهي تغني اللحن الواحد، فتطيل فيه لمدة ساعتين إذا أرادت أو تختصره لربع ساعة إذا أرادت لصوتها أهم عندها وعند المستمعين إليها أيضا من اللحن ذاته. 
وما يكاد صوتها يرتفع بالغناء حتى تخلت الآلات الموسيقية، لذلك تشهد في غناء أم كلثوم معركة فذة بين الصوت من ناحية والموسيقى من ناحية أخرى.
أم كلثوم والمسرح 
ومهم جدا إلى أن نشير الى تلك النقطة التي لم تأخذ حقها في الدراسة والتحليل، وهي لماذا أم كلثوم لم تقدم مسرحاً غنائياً فكان ردها المنطقي على ذلك بقولها: "إن لي رأيا فيما كان عليه الغناء المسرحي في مصر، إنه لم يكن أوبرا ولا أوبريتا ولا غناء مسرحياً بالمعنى المفهوم، كان مجرد أغاني فوق المسرح، ولا تنسجم مع القصة المسرحية، بل هي تقطع سياق القصة. وتقف المغنية أو المغنى ليؤديا دورهما فتصبح الأغنية في جانب والموسيقى في جانب والقصة نفسها في جانب ثالث ولا يربط بين هذه العناصر الثلاثة: الأغنية والقصة والموسيقى أيه صلة غير اجتماعها بالصدفة في مكان واحد هو خشبة المسرح.
 ولم أرض عن هذا الأسلوب في الغناء، فأما أن تكون لدينا أوبرا وأوبريت بطريقة فنية سليمة، أو أمتنع عن الظهور على المسرح لأغني خلال مسرحية أعتقد أن الغناء لا يتفق معها..
وقد حددت "الست" النموذج الأوبرالي الواجب تقديمه فتقول: "نحن نستطيع بالموسيقى الشرقية والآلات الشرقية أن نقدم أوبرا صادرة من تراثنا وحياتنا وتبهر العالم كله".
وفكرتي عن هذه الأوبرا تتخلص في التقاط التالية:
1. الاعتماد على التراث الموسيقي القديم ولا أقصد به الألحان القديمة بذاتها، أنها تستلهم روحه وتربطها بواقع حياتنا، وهو يجمع بين الموسيقى والغناء والرقص في الأندلس وفي أيام العباسيين، وإخراج تابلوهات تستمد أصولها من هذا التراث وتؤلف له قصة مناسبة.
2. إعداد أصوات مختلفة لتشترك في الغناء وإعداد كورس غنائي مدرب.
3. المحافظة على الآلات الشرقية والمقامات الموجودة في الموسيقى الشرقية ولا توجد في الغربية، وأن نصنع آلاتنا الموسيقية في مصر، لأن الآلات النحاسية والخشبية التي تصنع في الخارج لا تستطيع أن تؤدى الربع مقام.
لو تحققت هذه الظروف كلها فسوف نرى مولد الأوبرا المصرية كفن حقيقي.