الابداع عندما يقدم لنا في شكل ديستوبي

روايات من النوع الديستوبي تدور أحداثها في داخل المدينة الفاسدة وتطرح تساؤلات مخيفة ليست لها إجابة حول سطوة الخرافة والجهل على العقول، والفن السابع يناقش قضية الطاغية أو الديكتاتور ورعب السكان وخوفهم.
فيلما دعاء الكروان والزوجة الثانية يتطرقان الى الفساد والرعب وجبروت السلطة

إن كل روائي هو في الأصل ناقداً في شكل مبدع، يرى ويعيش في واقع ما حيث لابد أن ينظر إليه نظرة فاحصة حتى يتولد لديه سؤال ما يتفاعل هذا السؤال مع ما لدى الروائي من أسئلة وثقافة وبمقدار ما لديه نجده يطرح السؤال في شكل مقال أو قصة أو رواية، فالمبدع لا يكتب من وحي شياطين الابداع، وإنما الإبداع هو نظرات نقدية للأشياء.
ومن هنا نجد أن الشعر هو أقوى شيء يقف في وجوه النسيان ويتطلب من الشاعر أن يكون ابن هذا الشعر وفي المرتبة الثانية تأتي الرواية، لأنها لا تقرأ دفعة واحدة مثل القصيدة أو الديوان ولا يحفظ منها شيئاً، وإنما تقرأ على دفعات، ويكتب عنها ملخصاً.
ومن هنا نجد ان جمال الرواية ليس في قوة الخيال كما في الشعر، وإنما في معمارها أو هيكلها الذي يجبر القارئ على قراءتها برغبته ولا يريد الخروج من عملية القراءة إلى بعد أن ينتهي من هذا العفل الذي لا نعرف قيمته إلى الآن..(هذا الفعل سوف نعود إليه في مقال آخر).
 وهذا يعني أن الرواية ليست حكاية تحكى في أي مكان وأي زمان، وانما هي حالة إبداعية تسعد القائم بكتبتها والصابر عليها، لهذا فهي تستحق أن تكون رواية، وسوف تبقى الرواية هي الرواية مهما تغيرت الأحوال والظروف لأن الرواية أشبه بالعمارة متعددة الطوابق بعكس البيت المبنى من دور واحد، والذي هو القصة القصيرة.
ونحن يجب علينا أن نذكر قول الدكتور جابر عصفور عندما قال: (نحن في زمن الرواية) أو كما وصفها الدكتور على الراعي عندما وصف المشهد الروائي وكل تلك الروايات التي تصدر كل سنة بل قل كل شهر، حيث أنه لا يمر شهرا إلا ونجد عدداً لا بأس به من الروايات قد صدرت (الرواية ديوان العرب) وهي بالفعل ديوان العرب بجانب الشعر والقصة القصيرة والمقال، وأي ابداع يناقش قضية ما، لكن المدهش في الرواية أنها يمكن أن تحتوي بين دفتيها على جميع الأجناس الأدبية الأخرى مثل القصة القصيرة والشعر والمقال.
 وأنا كنت قد نشرت رواية (بالضبة والمفتاح) وبها الشعر والقصة القصيرة والمقال وهي تتحدث عن الماضي الذي لا نريد نبتعد عنه لكي نعيش اليوم والغد.

ديستوبيا تلك الكلمة المخيفة والتي تعبر عن كل شيء مخيف نقابله في حياتنا، فالذي يحدث في الشارع وبين الأفراد يعد أحد أوجه الديستوبيا، بل ما يحدث داخل الأسرة المصرية يعد نوعا من الديستوبيا.

ورغم تلك الوفرة الروائية التي وصفها الروائي محمد مستجاب بإسهال تأليف ونحن يجب إلا ننسى أن الكبير نجيب محفوظ قد توقف عن الكتابة الروائية لمدة 6 سنوات عندما اكتشف أنه لم يعد لديه سؤالاً ما يستحق البحث عن إجابة.
 وهذا يعني أن من يريد أن يكتب شيئاً لابد أن يكون لديه سؤالاً ويريد أن يبحث له عن إجابة، ومن خلال هذا السؤال يتحمل مشقة التجهيز لكتابة الرواية وأن يصبر عليها لأنه عندما يبدأ الكتابة يعيش بنصف عقل ونصف قلب ونصف جسد.
أقول هذا لأن كتابة الرواية عمل شاق ومتعب للغاية وهناك قول شائع في الفلسفة يقول (أن العمل الفلسفي تحليل بحت، تقسيم قوس قزح مثلاً، أم الفن فهو تخليق بحت، كتجميع قوس قزح، وهذا ليس صحيحاً من قريب أو من بعيد، لأن كل ابداع يبتدأ بتحليل الطبيعة، وقد فعل ذلك المثال محمود مختار في آخر مرة نظرت إلى تمثله الذي كان قطعة من الصخر، ما كان ليجذب أحد لينظر إليه، لكن عندما ضرب النحاة أزميلة في الحجر حتى تحول إلى شكل فني بديع يجذب إليه العيون.. حيث أن العقل تخيل وفكر ثم أعطى أمرا لليد أن تعمل فعملت وقدمت لنا هذه التحفة التي تجبر من يمر عليها أن ينظر إليها.
ومن هنا ننظر سريعا الى رواية "فلك النور" لفكري عمر وتلك الرواية الديستوبية التي تطرح سؤالاً مخيفًا ليس له من إجابة وهو لماذا الخرافة والجهل تعشعش داخل تلافيف العقول، مهما كانت درجة التعليم والشهادة إلا ان الجهل هو سيد الموقف والخرافة تعشعش في عقولنا جميعاً ومع هذا وأكثر نجد انفسنا نتعامل مع الجهل بكل أريحية، ونطلب السلامة دنيا وأخرى.
 وكان الروائي موفقاً في بناء روايته من خلال العالم الذي يعيش ويتحرك فيه، راغباً أو مرغماً، ومن هنا نجد البطل دائماً في طرح السؤال فيما يخص الجهل المتمثل في الساحرة أو الجنية.
ويكفي الروائي أنه طرح السؤال ولفت نظرنا إليه بأن نكون حرصين في كل وقت وأي لحظة لان فلك النور يمكن ان تظهر في أي وقت من داخلنا، لان الخرافة نتوارثها كما نتوارث أشيائنا.
وهذا كله نأخذه ونطبقه على رواية محمود أبوعشية "رب السعادة" التي صدرت عن دار نشر (بدائل) فهي تفرض نفسها على من يقرأها أن يتأنى في قرأتها، لأنها لن تبوح بأسرارها دفعة واحدة، بل لا يمكن فهمها أو ماذا تريد من أول فصل.. أقول هذا لأنه مطلوب من القارئ أن يركز في القراءة، حتى يفهم ويستوعب العمل، لأن الرواية من النوع الديستوبى أي التي تدور أحداثها في داخل المدينة الفاسدة، أو الدولة الفاسدة أو في المملكة الفاسدة..
وكان الروائي موفق للغاية عندما قدم روايته بهذا التحذير  (هذه ليس بها شيء من حقيقة، ليس بها شيء من خيال).
وهذا التحذير فكرني بالتحذير والتوضيح الذي قدم به الشاعر المميز عبدالرحمن الأبنودي فيلم شيء من الخوف (هذا الفيلم ليس له علاقة بالواقع وأحداثه من وحي خيال المؤلف وأي تشابه بين الأحداث والواقع من قبيل المصادفة ليس أكثر وأي تشابه بين شخصيات الفيلم وشخصيات حقيقية على أرض الواقع ليست مسئولية الفيلم بل مسؤولية الشخصية نفسها).
 وهذا التوضيح كان مثل إشارة المرور التي سهلت للقارئ عملية القراءة وللتعاطي مع النص الغرائبي وما أن يغلق الرواية ويسرح بتفكيره بعيداً حتى يجد امامه تحذير الكاتب وتوضيحه بأن ما يقرأه ما هو حقيقي، هو خيال، هنا سوف يفعل القارئ كما فعلت كثيراً حيث يستمر في القراءة ومحاولة تتبع سيرة (بابا) في الحكم وفي إذلال شعبة بكل الوسائل والطرق الشرعية وغير الشرعية، لأنه غير معنى إلا ببقائه في الحكم والتحكم.
 كل هذا من خلال الزمن الدائري حيث بدأ عرض الأحداث من خلال الاستعداد لتنفيذ حكم الإعدام، ونحن هنا لن نتمكن أن نحدد من هو هذا الحاكم لأن كل الصفات التي أوردها الراوي أثناء عرض تاريخ البابا تنطبق على كثير من الحكام العرب والأفارقة لأنه كما نعلم جميعا أن الحاكم المستبد يتشابه مع أقرانه المستبدين.
وأجدني مضطرا ان أقف قليلا عند ديستوبيا تلك الكلمة المخيفة والتي تعبر عن كل شيء مخيف نقابله في حياتنا، فالذي يحدث في الشارع وبين الأفراد يعد أحد أوجه الديستوبيا، بل ما يحدث داخل الأسرة المصرية يعد نوعا من الديستوبيا، والروائي لابد له أن يوصل تلك الصورة والمشاهد المخيفة إلى القارئ بل لابد أن يدخل الروائي القارئ إلى داخل أتون الديستوبيا حتى يتمكن من أن يتفاعل مع ما يشاهده أي يقرأه حيث العمل لابد أن تكون به تقنية الفيديو التي تسحب وتأخذ القارئ والمشاهد إلى ما يريد المؤلف او المخرج.
 أي لابد أن يتفاعل القارئ مع النص أو الفيلم،
وقد نجح الروائي في ذلك بأن جعلنا نلهث وراء الأحداث المخيفة والتي نسمع عنها في الكثير في الدول المستبدة والتي تتعامل مع مواطنيها بمنطقة نظرية (ك ص) تلك النظرية المتبعة في الأعمال السينمائية والتليفزيونية حيث المجاميع التي لابد أن تكون موجودة، حيث لا يستقيم العمل إلا بهم وليس لهم رأى في الأحداث أين كان نوع الأحداث التي تحدث لهم وفيهم وأمامهم.
 والرواية تدور حول طاغية طغى بما كل معاني الكلمة، وعندما تقدم من لحظة الحساب ألا وهي الإعدام نجده يقدم تبريرات لما قام به لمصلحة الناس، كل هذا والراوي العليم يقدم لنا كل صغيرة وكبيرة من حياة هذا الطاغية، الذي لا يمكن تسميته فهو يوجد في التاريخ من كاليغولا إلى نيرون إلى الحجاج إلى القذافي إلى هتلر الى عيدي أمين إلى بن علي إلى الشاه إلى مبارك.
 بل والمدهش في الأمر أن معظم أدب أميركا الجنوبية ناقش قضية الحاكم الطاغية وهذا يجعلنا نفكر في أن نعود من جديد إلى الطاغية؟!
ولكن من منظور جديد أي من خلال الفن السابع والمعروف بالسينما فسوف نجد لدينا عدداً لا بأس به من الأفلام التي ناقشت قضية الطاغية أو الديكتاتور.
 فنجد دعاء الكروان وهذا الفساد والرعب الذي تعيش فيه عائلة مات عائلها وطلب منها ان ترحل إلى مكان مجهول وكان خال البنات هو محرك هذا الأحداث، لأنه كان الدكتاتور الذي لابد ان يسمع الجميع كلامه وينفذ أوامره.
 وكذلك لدنيا فيلم الزوجة الثانية حيث الكابوس الذي تعيش فيه القرية والكل فيها يخدم على العمدة والذي يمثل السلطة بكل جبروتها وبالفعل ينجح العمدة في تحقيق ما يريد بمساعدة الشيخ الذي سهل له كل شيء بما يمتلكه من حجة قرآنية تجعل الكل يسلم بما يريد ويرغب، لكن تنجح المرأة في تغير الأحداث بما يخدم مصلحتها ومصلحة اهل القرية، وتلك المصلحة اسمها العدل.