'الفلسفة والسلطة'.. علاقة معقدة على طاولة التشريح
منذ بداية تاريخها الطويل واجهت الفلسفة السلطة، خاصة في صورها التقليدية: سلطة الأيديولوجيات السياسية، وسلطة الفكر الديني، وسلطة العادات والتقاليد، والقديم والموروث. وكثيراً من الفلاسفة دفعوا حياتهم ثمناً لهذا الصراع، وحتى في أشد العصور تسلطاً وجبروتاً وقسوة، كنا نجد فلاسفة عظاماً يعرضون أنفسهم للفقر والقتل والتعذيب وللنفي والتشريد والاضطهاد.. كل ذلك من أجل تلك الكلمة الرائعة التي تسمى الحقيقة. وشهداء الفكر كثيرون، نذكر منهم: سقراط، الحلاج، السهروردي، جوردانو برونو، روزا لوكسمبورغ.. وآخرون غيرهم ضحوا بحياتهم وسعادتهم من أجل حرية الإنسان وكرامته.
غير أن علاقة الفلسفة بالسلطة وفقا لرؤية د.حسن حماد أستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو بالزقازيق والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة الزقازيق، في كتابه "الفلسفة والسلطة"، ليست دائماً علاقة صراع أو صدام، فأحياناً ما يستسلم بعض الفلاسفة لسحر الأيديولوجيات وإغراء مصاهرة السلطة، وأحياناً ما يضعف بعض الفلاسفة أمام بريق السلطات، وشهوة الشهرة وغواية السلطة، فيقنعون بالجلوس تحت أقدام السلطان، ويتنازلون عن حريتهم وإنسانيتهم، ويتخلون عن رسالتهم، ويتحولون إلى آلات تنطق بلسان السلطة وتروج شعاراتها وتدعو لأكاذيبها. ومن حسن الطالع أن من مارسوا هذا الدور في تاريخ الفلسفة قلة نادرا ما يذكرها التاريخ، فالتاريخ يتذكر دائماً هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم فداءاً للحقيقة ودفاعاً عن الإنسان، التاريخ نادراً ما يذكر الجبناء والضعفاء.
وأكد حماد في كتابه الصادر عن دار إضاءات إن علاقة الفلسفة بالسلطة علاقة شديدة التعقيد والتشابك خاصة إذا تذكرنا أن المعرفة نفسها سلطة، ولذلك فكثيرا ما يساء فهم الفلاسفة عندما يتم تفسير وقراءة أعمالهم من خلال الأيديولوجيات السياسية، ولهذا السبب ذهب بعض الباحثين إلى أن فلسفات هيغل ونيتشه وهيدجر قد تضمنت الكثير من مبادئ وأفكار الفاشية. والحق أن هذه الأحكام وغيرها يحتاج إلى المزيد من الدراسات المتأنية والمدققة، لأنها كثيراً ما تستند إلى الانتقائية في اختيار النصوص، وتتسم بالتسرع والمبالغة، بل وتكون ظالمة معظم الأحيان، خاصة إذا تذكرنا أن الأفكار الفلسفية غالباً ما تنحرف عن مقصادها عند التطبيق، فقد يقصد الفيلسوف شيئاً غير الذي يريده السياسي أو رجل الحكم، فلا بد من أن نعترف بأن هناك مسافات كبيرة تفصل بين الفكر والواقع، ولذلك فإن الزعم بأن الفكرة الفلسفية يمكن أن تتحول مباشرة إلى فعل على أرض الواقع أمر وهمي تماماً، لأن الواقع له قوانينه الخاصة التي كثيراً ما تتعارض مع قوانين الفكر المثالية المجاوزة للواقع القائم.
وتابع على هذا النحو، فإن التعرض لتاريخ علاقة الفلسفة بالسلطة ينبغي ألا يتناول المسألة من جانبها الأحادي، أعني أن الفلسفة ليست فقط صراعاً مع السلطة ورفضاً لها، وهي بالمثل ليست مجرد أداة للسلطات القائمة، فمن الخطأ أن نتصور أن الفلسفة في العصور الوسطى كانت كلها خاضعة للدين، ومن السذاجة أيضاً أن نتصور أن الفلسفة كانت في عصري النهضة والتنوير مناهضة تماماً للسلطات القائمة. لكن الأمر الذي لا يجب أن يغيب عن تصور أي باحث أن الفيلسوف لابد من أن يصطنع مسافة بنيه وبين الواقع القائم ولا يجب أن يستسلم لأغواء التصالح مع السلطات القائمة، أو التطابق مع التقاليد والقيم السائدة. ولابد من أن يعكس في أفكاره وتأملاته الفلسفية قيماً ومبادئ أخرى غير القيم السائدة. إن الفلسفة تموت إذا استسلمت تماماً لما هو قائم، وتحيا عندما تمارس دور العناد والتحدي والمقاومة.
ورأى حماد أن قراءة تاريخ الفلسفة يبرهن لنا على أن الفلسفة تتمرد دائماً على واقعها، وترفض الاستسلام لقواعد اللعبة، لعبة القهر والتسلط، الفلسفة ترفع دائماً راية العصيان في أزمنة الخضوع والإذعان، ولابد وأن نتذكر ونذكر بهذه الحقائق حتى نضع الفلسفة في مكانها الصحيح:أولا إن الفلسفة تنحاز دائماً إلى الإنسان وليس إلى طبقة بعينها، وحتى الفلسفة الماركسية نفسها - كما وضعها ماركس - لم يكن هدفها إطلاقاً هو انتصار طبقة على أخرى بقدر ما كان هدفها التمهيد لنهاية الطبقات. ولذلك نجد أن الهدف النهائي عند كارل ماركس هو أن تقوم البروليتاريا بنفي النظام الطبقي ونفي نفسها كطبقة، نعم أن ذلك ظل إلى الآن مجرد حلم يوتوبي لكنه حلم مشروع والفلسفة دائماً تزودنا دائماً بهذا المستودع الكبير من الأحلام والرؤى اليوتوبية، وهي رؤى مشروعة، ومطلوبة لتطوير حركة التاريخ ولتلبية الحاجة الإنسانية التي لا تنتهي للبحث عن المجتمع الفاضل.ثانيا الفلسفة تقوم على الحوار والحرية، وهي بدون الحرية كلمة لا معنى لها لأن كلمة فلسفة - أو محبة الحكمة - معناها محبة الحقيقة والسعي الدئوب إليها. والبحث عن الحقيقة رسالة سامية لا يمارسها سوى مفكر حر يؤمن بحرية الفكر وبشرعية الرأي الآخر فلم نعرف في تاريخ الفلسفة فيلسوفاً حاول أن يجبر الآخرين على اعتناق رأيه بالجنازير أو السيوف أو الرصاص فالفلسفة تبدأ من الحرية وتنتهي إلى الحرية.ثالثا الفلسفة تؤمن بالإنسان كإنسان: بعقله، بغرائزه، بعواطفه بروحه، بجسده. وعلى ذلك نرى أنه من الخطأ أن نعتبر بعض الفلسفات خاصة اللاعقلية منها (كالوجودية مثلاً) إنها ضد الإنسان فكل اتجاه من الاتجاهات الفلسفية سواء كان اتجاهاً عقلياً أو رومانتيكياً يؤمن بالإنسان على طريقته الخاصة.
الفلسفة ترفع دائماً راية العصيان في أزمنة الخضوع والإذعان
وأشار حماد إلى أن علاقة الفلسفة بالأيديولوجية والأنظمة السياسية علاقة معقدة فهي قطعاً تتأثر بها لكنها تتجاوزها وتنفيها في آن واحد، وذلك لعدة أسباب منها: أن السياسة ترتبط بالجزئي بينما الفلسفة تتخذ من الجزئي نقطة بداية للوصول إلى الكلي ـ السياسة تؤكد الوضع القائم والفلسفة تنفيه لأنها تعتبر اللحظة القائمة لحظة زائلة. ومن هنا يمكن القول أن المنهج الجدلي هو الأقرب إلى روح الفلسفة، وهو الألصق بتطور الإنسان، بينما المناهج الصورية هي مناهج تجمد الإنسان ـ أن الفلسفة تنزع إلى المثال وهي بهذا تؤسس اليوتوبي بينما السياسة لا تحيا إلا في الواقع.
وتساءل حماد بعد تناوله لمسيرة الفكر الفلسفي علاقته بأشكال السلطة المختلفة: هل حققت الفلسفة دورها التاريخي، هل استطاعت أحلام الفلاسفة أن تتجاوز بؤس وتعاسة الواقع الإنساني، هل تحققت نبؤات الفلاسفة، أم كانت أحلامهم مجرد أضغاث أحلام؟ هل استطاعت التصورات والرؤى والتأملات الفلسفية أن تنتقل من حيز النظرية إلى الممارسة؟ ومن نطاق الفكر إلى الواقع، هل اقتربت المشاريع الفلسفية في صراعها مع السلطة من أرض الواقع أم مازالت تحلق في سماء الحلم؟ هل نجحت مشاريع الفلاسفة في إسعاد المزيد من البشر أم مازالت مجرد أفكار تحيا فقط على الأوراق؟ هل مازالت الفلسفة قادرة على أن تكون وسيلة للخروج من المأزق الحضاري الراهن؟
وأضاف أن الفلسفة لا تمتلك عصا موسى السحرية، وهي ليست أيضاً سفينة نوح التي سوف تنقذ البشرية من الطوفان. ومع ذلك فإن الفلسفة لم تزل ضرورة في حياتنا الإنسانية، وبرغم كل ما ذكرناه في أثناء هذا العرض التاريخي من إخفاقات قد منيت بها طموحات الفلسفة والفلاسفة سواء إخفاق الثورة الفرنسية أو فشل الأحزاب الاشتراكية ووصول الأحزاب الفاشية إلى السلطة.. برغم كل هذا وبرغم الدمار الذي حاق بالعالم بعد مرارة حربين ضروسين: الحرب العالمية الأولى والثانية، وبرغم ما تشهده الآن على الساحة الدولية من عبث بكل الأعراف والتقاليد والمبادئ الأخلاقية، وبرغم الفوز الثاني لبوش، وتفشي الاتجاهات الفاشية واللاعقلانية في مختلف دول العالم، إلا أننا لابد وأن نتعلم من الفلسفة درس الصمود والمقاومة، وأن الأمل الحقيقي لا يولد إلا من بين غيوم اليأس، وفي اللحظات التي تكون فيها النفس حزينة حتى الموت. ففشل الأحلام لايعني أنها قد ماتت وأن علينا أن نواريها التراب.
ولفت حماد إلى أن انحراف العقل البشري عن مساره، لا يعني أن نكفر بالعقل أو نسلم بالخرافة، لسبب بسيط هو إننا لا نملك وسيلة غير هذا العقل تعيننا على صياغة النظام الاجتماعي الملائم لسعادة الإنسان. وعلى العقل أن يقوم بنفسه بتصحيح أخطائه، كما أن عليه أن ينتقد ذاته مثلما يقوم بنقد الواقع، أو على حد تعبير "بارسيڤال" في دراما فاجنر الشهيرة: "إن اليد التي أحدثت الجرح هي التي تداويه". وعلى هذا النحو فإننا نستطيع أن نقرر أن المبادئ التي أعلنتها فلسفة التنوير: الحرية، المساواة، سيادة العقل، احترام كل ما هو إنساني.. مازالت أفكاراً صحيحة حتى هذه اللحظة.. وبالمثل فإن الطموحات التي نشأت من أجلها الأفكار الاشتراكية: العدالة، تحرر الإنسان من القهر المادي والمعنوي، مازالت مشروعة ومطلوبة وضرورية حتى وقتنا الراهن. فالعالم مازال بحاجة إلى أن يستلهم تلك المبادئ والطموحات الراقية، لأن دائرة التاريخ لم تنغلق بعد. فبرغم كل الدعاوي المضللة والخادعة التي يروج لها سادة المجتمع العبودي الجديد مثل: العولمة، ونهاية الأيديولوجيا، والعالم الكوكبي.. وغيرها من المصطلحات الوهمية، إلا أن الأزمة مازالت هي الأزمة: ومازال الصراع قائماً بين الجنوب والشمال، وبين الفقراء والأغنياء، وبين العبيد والسادة، والمقهورين والمتسلطين. نعم اختلفت الأشكال، وتغيرت الأزياء، وتبدلت الأدوار، وازدانت خشبة المسرح بكل تطورات التكنولوجيا الحديثة وزودت بشبكات الإنترنت، وغطيت جدرانه بشعارات حقوق الإنسان ولافتات مقاومة الإرهاب، واتسعت صالة العرض لتشمل جميع شعوب الأرض، لكن مازالت اللعبة هي اللعبة، ومازال النص تقليدياً، والأدوار معادة، وبرغم أن مخرج العرض يريد نهاية معينة، ويتدخل في كل لحظة كي يغير الأحداث، إلا أننا يجب أن نتذكر أن دول العالم ليست قطعاً من الشطرنج، وأن نهاية التاريخ لم تبدأ بعد وأن البشر ما كانوا أبداً فئرانا للتجارب مهما بلغ بهم حد الفقر والجهل والخوف!!
وأوضح إن إخفاق أي مشروع فكري في تحقيق أهدافه المرجوه لايعني أن نعلن يأسنا منه بوصفه مشروعاً فاشلاً، وبالتالي فإن علينا أن نستبدله بالمشروع المناقض له. أعني أن فشل الاشتراكية لايعني أن الرأسمالية هي سفينة نوح الجديدة، وانحراف مسار الليبرالية لايعني أن الديكتاتورية هي البديل المناسب. وإنتهاكات الأنظمة العلمانية لحقوق الإنسان لا يعني أن الحكومات الدينية هي الحل. فالمذاهب الفكرية والسياسية ليست أقراصاً مُسكنة أو وصفات جاهزة يمكن بها علاج أزمات الشعوب. إن إخفاق فكرة معينة في التطبيق لا يعني أنها قد انتهت تماماً ؛ لأن الأفكار العظيمة لاتموت، وإذا ماتت في زمن ما أو في مكان ما، فإن هذا لا يعني نهايتها إلى الأبد، لأنها يمكن أن تبعث من جديد في زمن آخر ومكان مغاير. ويبدو أن ملاحظة "ارنست بلوخ" في هذا النطاق صحيحة، إذ يرى أن المشاريع الفكرية الراقية والمتميزة - برغم انتهاء أساسها الاجتماعي والمادي - يمكن أن تعيد إنتاج نفسها بصورة تقدمية في وعي ثقافي جديد، لأن كل فكرة عظيمة تتضمن "فائضاً يوتوبيا" (مستقبلياً) يتجاوز أساسها الأيديولوجي المرتبط بمكان وزمان محددين، وهذا الفائض اليوتوبي هو القوة أو الطاقة التي تمنح أي ثقافة القدرة على إنتاج ذاتها في إبداعات وقراءات وتفسيرات جديدة تتوائم مع الواقع التاريخي المتغير والمتطور.ويمكن تفسير ظاهرة خلود واستمرار بعض الأعمال العظيمة في الفن والعلم والفلسفة من خلال فكرة "الفائض اليوتوبي"، لأن هذا الفائض يجعلها تتجاوز الوعي الزائف، وتتمرد على أى محاولة لتوظيفها في تبرير السلطة السائدة، ومن ثم تصبح موجهة ناحية المستقبل، ومن الممكن نقلها من تربتها التاريخية والاجتماعية الأولى، وأحيائها في تربة ثقافية مغايرة.
وخلص حماد إلى أن دفاعنا عن هذه القيم أو المقولات الفلسفية الراقية لايجب أن يُفهم منه إننا ندافع عن مطلقية القيم، لأنه لامعني لأي مطلقات في العالم الإنساني ولكننا فقط ندافع عن قيم لها طابع اليقين النسبي، وتتمتع بقدر من الكلية والعمومية. وهذه القيم التي نقصدها ليست مستقاه من العدم، ولكنها جماع تجربة الإنسان الحضارية الطويلة، ونتاج رحلة النضال البشري الساعي إلى كسب الحرية والوصول إلى العدالة وتحقيق السعادة لبني البشر. وبوسعنا أن نجد هذه المبادئ والقيم في كل الفلسفات التي جعلت الإنسان شاغلها الأوحد. ومع ذلك فإن هذه الأفكار إذا ظلت أفكاراً في رؤوس معتنقيها، فإنها ستكون عديمة التأثير، إذ لابد وأن نناضل من أجل أن تتحقق، وكي تتحقق لابد وأن يكون ذلك من خلال قوى اجتماعية وطبقية مؤثرة، تتبنى هذه الآمال، وتؤمن بها وتسعى بكل الطرق لتحقيقها. وفي هذه الحالة قد يحدث أن تتحول هذه الأفكار الراقية إلى أيديولوجيات تدافع عن مصالح طبقية ضيقة، وتتخلى عن دعواها الإنسانية الواسعة. وهنا تنشأ الحاجة مرة أخرى إلى رؤى فلسفية جديدة تتبنى أفكاراً مغايرة، وتسعى إلى تجاوز ماهو قائم، وتتبنى قيماً وآمالاً إنسانية جديدة تتجاوز كل ألوان التعصب الديني، والتحيز الطبقي والعنصري. وهكذا يمكننا القول أن تاريخ الفلسفة هو في نفس الوقت تاريخ الصراع بين الفلسفة والأيديولوجيا، أو بين التسامح والتعصب، وبين الحرية والقمع، وبين المنفتح والمنغلق.