هل تُصبح الفلسفة مصدرا للطمأنينة؟

الباحث المغربي سعيد ناشيد يتطرق في كتابه الجديد 'الطمأنية الفلسفية' الى آليات التواصل بين الفلسفة والواقع الإنساني المُعاصر ومايمكن التوصل إليه عبر إستقراء آراء الفلاسفة لسبك القواعد التي تحسن القدرة على الحياة.
سعيد ناشيد يفرق بين غرائز السمو وغرائز الإنحطاط
غرائز السمو تدعم إرادة الحياة وغرائز الإنحطاط معادية للحياة
سعيد يؤكد على المُصالحة مع الذات وحب الإنسان لقدره ومعرفته لحدود إمكانياته
الكبت الجنسي يتسبب في العنف السياسي والإجتماعي

صناعة الأسئلة هي وظيفة الفلسفة بإمتياز وينشأُ المشروع الفلسفي من بذور السؤال عن مظاهر الحياة والمصير الإنساني ولا يوجدُ ما يقعُ خارج مجال المُسائلة طالما يكون مرتبطا بالوجود وعنصرا مؤثرا في تشيكل الوعي ونمط التفكير.
 لذا من الضروري أن تبدأَ مناقشة مضمون آخر ماصدر للكاتب والباحث المغربي سعيد ناشيد بعنوان (الطمأنية الفلسفية) دار التنوير بصيغة السؤال إذ يأتي كتابه الجديد حلقة مكملة لما شرعه في (التداوي بالفلسفة) بعكس ماتوقعهُ أندريه مالرو حيثُ قال بأنَّ القرن الحادي والعشرين إما لايكون أو يكون قرنا دينيا فيعتقد ناشيد بأنَّ الفلسفة ستصبح عنوانا للألفية الثالثة معلنا عصر مابعد الأديان وذلك يتبدى أكثر في إنهيار الآيدولوجيات الخلاصية.
 ومن علامات هذه المرحلة الجديدة برأي مؤلف (قلق العقيدة) هي فقدان الأديان لمحتواها الروحي وبالتالي تتخذُ الأمور الدينية طابعاً دينويا بحتا ويشير سعيد ناشيد في هذا الإطار إلى وجود سوء الفهم لدى الأغلبية لرؤية كارل يونغ حول إمكانية التعاطي مع الأديان بوصفها أنظمة علاجية إذ بدأَ المشعوذون بترويج للخرافات محورين لمغزى نظرية يونغ.

هذا الكتاب إضافة إلى مايضمهُ من قواعد فلسفية ملهمة بسلوك سليم يثيرُ أسئلة بشأن مايصفه سعيد بالروحانية المُعلمنة أو روحانية بلا أديان
 

والحال هذه فإن دور الفلسفة يكتسبُ مزيدا من الأهمية بالنسبة للإنسان المُعاصر.وذلك نتيجة تفاقم الفراغ الروحي في العالم اليوم الأمر الذي يؤكده الفلاسفة وعلماءُ النفس في آن واحد.
عليه فإنَّ أهمية الفلسفة تتضاعف عندما تطرح خيارا ثالثا بين الأصولية والإلحاد.ويكون الرهان على الفلسفة مُستساغا إذا تأكدنا بأنها لن تتحول إلى مادة في الصراعات الآيدولوجية المُحتدمة.
المبدأ الإبيقوري
مقابل تغول الماديات وسلعنة القيم وشراهة الرغبة الإستهلاكية تتوالى الإصدارات الفلسفية التي تتناولُ محايذر الإنسياق وراء الرغبات غير المُنظمة وتفضحُ عملية تضخيم الأوهام المبرمجة عن مفهوم السعادة التي لاتعني شيئا في الأنظمة الرأسمالية سوى المزيد من الأرباح.
 وهذا الواقع يفرضُ العودة إلى الفلسفة بإعتبارها وصفة لتنظيم العقل وتحسين النظرة إلى الحياة.
 يشيرُ سعيد ناشيد إلى المؤلفات الروائية المكتوبة بإيحاء طروحات الفلاسفة ولعلَّ الكاتب الأميركي إيرفين يالوم أشهرُ من مررَ المفاهيم الفلسفية في صيغة روائية إذن فإن الإشتغال على حيثيات التفكير الفلسفي لم يعدْ وظيفة نخبوية.
 كما لايجوز فصل الفلسفة عن هموم الحياة اليومية مثلما أنَّ الطبَ لايجدي نفعا إذا لم يخفف من ألم المريض كذلك بالنسبة للفلسفة تفقدُ قيمتها إذا فشلت في معالجة معاناة العقل. وإنطلاقاً من هذا المبدأ الأبيقوري الذي يعتبر بأن الأشياء لاتسوء إنما تسوء أفكارنا حول الأشياء يتوخى سعيد ناشيد الإبانة عن آليات التواصل بين الفلسفة والواقع الإنساني المُعاصر ومايمكن التوصل إليه عبر إستقراء آراء الفلاسفة لسبك القواعد التي تحسن القدرة على الحياة لأنَّ مايدمر الحضارة ويزيدُ من إستفحال الأزمات هو مرض العجز عن الحياة برأيه.
ومن الواضح على هذا الصعيد هو الجدلية القائمة بين السلام النفسي والسلام الإجتماعي لأنَّ الإنسان الذي يمتلك راحة النفس لايزعج نفسه ولاغيره على حد قول أبيقور.
ولا يُنكرُ بأنَّ الهدف الأساسي للمشاريع الفلسفية يتمثلُ في تنظيم الأفكار وبدونه يصبحُ الإنسان فريسة للوهم والأحكام المسبقة مايعنى تصاعد حدة الإنفعالات ومن ثم إنفلات الغرائز والرغبات هنا يفرق سعيد ناشيد بين غرائز السمو (الجرأة، التفوق، تحقيق الذات) وغرائز الإنحطاط (الضغينة، الإنتقام، الخوف) فالأولى تدعم إرادة الحياة بينما الثانية معادية للحياة ويرى صاحب (دليل التدين العاقل) بأنَّ الخطاب الديني يغذي مايسميه إسبينوزا بالأهواء الحزينة أومايصفه نيتشة بغرائز الإنحطاط أو غرائز الموت حسب المُصطلح الفرويدي.
وإن إصلاح هذا الخلل لايتمُ إلا من خلال إعادة الإعتبار للتصوف الفلسفي الذي يرفدُ الأهواء المُبهجة.
خيارات الفلسفة
إذا تمَّ الإقتناع بضرورة الفلسفة بإعتبارها طريقة لمُعالجة الشقاء الروحي فلابدَّ من السؤال عن خياراتها في الإجابة على الإشكاليات المزمنة بالنسبة للإنسان وما تقدمه من الوصفات لترتيب الإحتياجات غير الروحية مثل الغريزة والرغبة ومن ثم الوصول إلى ماسُمي لدى الإغريق بـ"الأتاراكسيا" حيث يجدُ سعيد ناشيد في الطمأنينة والتوازن النفسي مقابلاً للمصطلح اليوناني.
طبعاً أن السؤال عن المصير ومرحلة مابعد الحياة قد رافق الكائن البشري في كل أطواره أكثر من ذلك فإن جميع المواقف والأفكار مرتبطة بهذه المشكلة حسب رأي ناشيد.
يقول سقراط "أن نتفلسف معناه نتعلم كيف نموت" ويعرف هايدجر الإنسان بأنَّه كائن من أجل الموت ومايفهم من فحوى هذه العبارة بأنَّ الإقرار بالموت وحتمية الفناء يوفر الأمن الروحي ويخففُ من التوتر والإضطراب النفسي وذلك لايعنى الركون إلى الكسل والإستسلام لأنَّ ليس من التعقل أن تمضي حياتك في ترقب النهاية فهذا مايورثُ غير الشقاء والعصاب النفسي.
 ولتفادي الوقوع في هذا البؤس يقدمُ سعيد ناشيد قواعد مُستقاة من المدونة الفلسفية منها المُصالحة مع الذات وذلك يعني حب الإنسان لقدره ومعرفته لحدود إمكانياته دون الإنشغال بما هو خارج نطاق قدراته هذا ناهيك عن الإخلاص للنوع البشري.
 وهنا يكمن معنى الفضيلة الحقيقية عطفاً على ماسبق ذكره فإنَّ المصالحة مع الذات تحيل إلى التدين الفرداني الذي يلبي مُتطلبات الفرد للنمو.
إذ فيما يتحدث الكاتبُ عن عصر مابعد الأديان لايتجاهل تجذر الدين في اللاوعي الجمعي وإستحالة أن تحلَ أكاديمية إفلاطون محل المعابد.
لذا فإن إيجاد الحل للتطرف الديني لايكون إلا بما يسميه إريك فروم بالدين الإنساني القائم على الخبرة الشخصية تحفظ للإنسان كرامته وشعوره وحريته وتحدو به نحو الأفضل.
وهذا ما يستدعي التخلص من الخوف بكل أنواعه لأنه العدو الأكبر للعقل السليم.
يكرسُ سعيد ناشيد أجزاءً من مؤلفه لموضوع الغريزة كونها تحتاج إلى الرعاية الصحية أكثر من أي مكون آخر وإذا تدهورت الغرائز يخسر معها الإنسان القدرة على العيش المشترك والتفكير ويسودُ الوهمُ والخرافة بدلاً من العقلانية وإن القيم الإخلاقية التي تهددُ صحة الغرائز بحيثُ تدعم غريزة الإنحطاط على حساب غريزة السمو يسميها نيتشة بأخلاق العبيد.
 يلتفتُ سعيد ناشيد أيضاً إلى الغريزة الجنسية إذ قد يكون نمط التفكير في الجنس عاملاً لنمو الكينونة وسموها وربما يتحولُ إلى عامل للإنحطاط وقد تنتهي بعض الأفكار حول الجنس إلى تهديد السلام الداخلي.
 وفي هذا الإطار يعزوُ ظاهرة العنف السياسي والإجتماعي إلى الكبت الجنسي.
يتوقف ناشيد عند عقدة الخوف من فقدان الفحولة وإنتشار العلامات الإشهارية في الخطاب الإعلامي وهذا ليس سوى خوف وجودي من فقدان الحياة ويشتدُ الخوف عندما يتمُ إختزال معنى الحياة في الفعل الجنسي من المعلوم أن غاية سعيد ناشيد من ترويس متن كتابه بآراء ومقولات الفلاسفة هي إرساء السلوك الفلسفي في نمط المعيشة وتنمية الحس الإستقلالي لدى الفرد الذي قد يقع في ورطة التماهى مع رغبات الآخرين إلى أن يستنزف كثيراً من طاقاته وقدراته الذاتية.
 تنفتحُ فصول الكتاب على آراء الفلاسفة من عصور مختلفة ومن الملاحظ إهتمام الكاتب بأبيقور والفيسلوف الروماني إبكتيتوس وماركوس أوريليوس.والشاعر والفيلسوف لوكريتيوس يجدُ سعيد تشابها بين وضع الفلسفة فيما كان عليه عقب رحيل أسكندر الأكبر ومايمرُ به الآن، ومايجبُ قوله أنَّ هذا الكتاب إضافة إلى مايضمهُ من قواعد فلسفية ملهمة بسلوك سليم يثيرُ أسئلة بشأن مايصفه سعيد بالروحانية المُعلمنة أو روحانية بلا أديان قد بزغت في زمن الخراب القيمي والروحي عودا إلى البدء فإنَّ الفلسفة كما قدمها ناشيد قد يكون عاملاً لتخفيف من الشقاء والشعور بالإطمئنان ولو نسبياً.