محمد حياوي: أسعى إلى إدامة فعل الإدهاش في الرواية
كتابة الرواية هي تأثيث لعوالم مختلفة بالكلمات إذ تتراءى الأمكنةُ والأشياءُ بصورة جديدة مغلفة بغلال أسطوري في فضاء العمل الروائي.
ومن الواضح أن مكر المبدع يكمن في قدرته على تحويل المعطيات الواقعية المألوفة إلى عناصر داعمة لتوليد ما هو غَرائبي في بنيان أعماله. الأمر الذي تراه بالوضوح في أسلوب الكاتب والروائي العراقي محمد حياوي إذ تتخذ الأمكنة في روايتيه "خان الشابندر" 2016 و"بيت السودان" الصادرة مؤخراً عن دار الآداب بُعداً جديداً، وتتبلور علاقة جدلية بين الحاضنة المكانية والشخصيات، ما يضفي خصوصية للتشكيلة السردية المُطعمة بالمثيولوجيا والأساطير القديمة في أعماله.
المكان المطبخ الذي تنضج فيه الأحداث
* من المُلاحظ احتفاؤك في روايتيك "خان الشّابندر" و"بيت السودان" بعنصر المكان، ويبدو أن البيئة التي تسودها النساءُ صورة مُناقضة لما هو سائدُ خارجها من الحرب والتناحر، هل يمكنُ تفسير هذه التشكيلة السردية بوصفها نشداناً لليوتوبيا الجديدة، تعكس التوقَ إلى الاستقرار في مكان مثالي؟
- يؤدي المكان دورًا جوهريًا في أعمالي الروائية، حتى أن عناوين تلك الأعمال غالبًا ما تعتمد المكان بالدرجة الأساس، فهو عندي مصدر الخيال الأوّل وحاضنته ومطبخه الذي تنضج فيه الأحداث، وتعتمل خاصية التخيّل مع شظايا من بعض الصور الواقعية، التي تومض في مخيّلتي أو تُخزن في الذاكرة لتصبح جاهزة للاستدعاء لحظة الكتابة، وبما أن المرأة بشكل عام في مجتمعاتنا الشرقية ارتبطت بالمكان أكثر من الرجل، فإنّني أجد خاصية من نوع ما في حيواتها شبه السريّة، التي يعتريها الغموض في أغلب الأحيان، ونظرًا للتقاليد والأعراف الضاغطة، فقد اتخذت المرأة عندي من المكان صندوقًا مقفلًا لأسرارها وأمنياتها وأحلامها، سواء المحبط منها أو اليانع والمثمر.
إن الاشتغال وفق هذه الرؤية الخاصة هو عماد أسلوبي الكتاب ورؤيتي المختلفة، أو التي أسعى لأن تكون مختلفة وبخصوصية متفردة لا تشبه أيّ كتابة أخرى، وبين المكان وألفته وحميميته من جهة، وأسرار النساء ولهفتهن وعذاباتهن من جهة أخرى، تتجسد تفصيلات اليوتوبيا وتُقام العوالم الغامضة، وهي حالة درجت عليها منذ تجاربي الأولى في الكتابة، سوى أنّها نضجت الآن وأصبحت أكثر احترافية وعمقًا، أو هكذا آمل على الأقل.
حين نزيح عن المرأة أصباغ التقاليد والتدين الفولكلوري
* مُعظم شخصيات "بيت السودان" تتصفُ بالغرائبية الناجمة عن الجذور المُبهمة ومع ذلك يوجدُ التعايش والتلاحم بين هؤلاء، هل الغرضُ من ذلك هو طرحُ رؤية مخالفة للهوس أو لتوثيق الهوية؟
- لست معنيًا بالهوية في الحقيقة، والشخصيات عندي تكتسب هويتها من موقعها الذي أضعها فيه، ونساء "بيت السودان" يمتلكن ماضيا من نوع ما قبل أن يأتين إلى "بيت السودان"، لكن لحظتهن الراهنة في ذلك البيت تشكل حقيقتهن وما أردته لهن أن يكنّه، وما أردته هو أن يجسدن الطيبة والرقة والجمال ونكران الذات، وهي صفات المرأة الحقيقية في جوهرها حين نزيح عنها أصباغ التقاليد والتدين الفولكلوري ومفاهيم العيب، وثمة خاصية تجمعهن كونهن من ذوات البشرة السمراء، في محيط لا يتقبل المختلف بسهولة، بل يحاول الحطّ من قدره.
وقد عُرفَتْ فئة السود في العراق بطيبتها ومرحها وحبّها للفرح، كردّ فعل لنظرة الآخرين لهم بسبب التخلف، الأمر الذي منحهم قوّة داخلية وقدرة هائلة على المحبّة والابتكار والتمتع بالمواهب، و"بيت السودان" الذي أتحدث عنه هنا كان موجودًا في أطراف مدينة الناصرية إبان فترة الستينيات والسبعينيات، عندما كنت طفلًا وكنتُ مأسورًا به وبنسائه وطقوس الفرح التي تقام فيه ليالي الجمعات، وقد حاولت في الرواية تسليط الضوء على حياة هؤلاء الناس من الداخل وتقاليدهم وما جبلوا عليه من ميل نحو الخير والحب والوطنية أيضًا.
العمل الإبداعي نتاج قناعات الكاتب ونظرته للحياة
* لا تغيبُ مستوياتُ الوعي في أعمالك الروائية، الأمر الذي تُمثلها شخصية عفاف والسيد مُحسن في "بيت السودان" فالأخير شخصية مُتقلبة وانتهازية شبقية بينما الأولى تتصرف بوحي المبدأ والرسالة، كيف يمكن لك مقاربة هذه النماذج الفكرية بدون الوقوع في مطب الانحياز الأيديولوجي؟
- تأخذ الشخصية عندي ملامحها وصفاتها مع تقدم العمل الروائي، ليس عشوائيًا، بل بقصدية تامّة من الروائي، ووفق ما يخدم الخطّ العام للعمل، وفي المحصلة فإن العمل الإبداعي هو نتاج قناعات الكاتب ورؤاه وأفكاره وقناعاته ونظرته للحياة وفهمه لطبيعتها، وبالتالي لا يمكن للكاتب أن يكون محايدًا وإن تقصد ذلك، لأن تلك القناعات والرؤى ستوجه مسار ومخيلة الكاتب حتى بدون وعي منه، لكن في المقابل لا يمكن أن يكون العمل الروائي وسيلة لتمرير تلك الأفكار بطريقة ساذجة ومباشرة ومكشوفة، لأنّه سيقع في المباشرة والسطحية.
وطالما قلت إن العمل الفني لا يحتمل توجيه الرسائل أو الإيحاءات، لأنّه يُكتب بطريقة عفوية تامّة، وبعكس ذلك سيفقد مصداقيته، وهذا بالتحديد سبب فشل الكثير من الأعمال التي كُتبت بقصدية مسبقة مخيّلاتيًا، مثل الروايات التي تُكتب عن أحداث وقعت ويراد تمجيدها أو توثيقها، أو الروايات التي تعتمد السير الذاتية لشخصيات معينة، وهذا لا يعني أنّها ليست أعمالًا إبداعية، لكنها لا تعتمد الخيال المطلق الذي أعدّه شرطًا أساسيًا في عملية الخلق.
حاجة الى الحس الإنساني العميق
* يحضر في رواية "بيت السودان" صوتُ "نانسي" المجنّدة الأميركية التي تنجذبُ إلى بيت السودان ويشي كلامها بأنها واقعة في شرك خداع الخطاب السياسي، برأيك لماذا تبقى معالجة مسألة الاحتلال من منظور المُحتل شحيحة أو شبه غائبة؟
- السبب الحقيقي في تلك الإشكالية يعود إلى عدم فهمنا الآخر، أو عدم محاولة فهمه، فقد اعتدنا على أحادية الرؤية والحكم على الأحداث من منظور واحد، أو من وجهة نظر شخصية، وفي الغالب يطغي موقفنا السياسي أو الأيديولوجي على مواقفنا الإنسانية بعيدًا عن التحليل النفسي العميق، وهذا النقص الفادح لا يمكن أن يسدّه إلا الأدب الحقّ، وما ورد في رواية "بيت السودان" من مواقف وتوصيفات وأحداث ما هو سوى خلفية درامية لإدامة الحس الإنساني العميق، الذي يسعى لسبر أغوار الشخصيات وتقديم معدنها الحقيقي، على محفّة الخيال الذي يسعى إلى أن يكون خلّاقًا، أي النجاح في خلق عوالم خيّاليّة مطلقة من شأنها أن تترك أثرًا عميقًا لدى المتلقي وتديم فاعلية التخيّل لديه، ويبقى السؤال الجوهري: هل نجحت "بيت السودان" في تحقيق هذا الهدف؟ الجواب متروك بطبيعة الحال للقرّاء والنقّاد.
رواية الخيال المطلق
* يتداخلُ الحلمُ بالواقع وما تنفك صور الماضي بشقيها المأساوي واليوتوبي تطاردُ شخصيات في رواياتك هل هذه التقنية تهدف إلى تفادي المباشرة في السرد؟
- نعم بالتأكيد، فأكثر ما يقلقني في العمل الإبداعي هو المباشرة لهذا تراني أبالغ في تجنبها حتى على صعيد اللغة، لأن لغة العمل الإبداعي يجب أن تكون لغة ثرية وعميقة ورقيقة وسلسة في آن، على العكس من لغة التقارير الصحافية أو لغة التوثيق، وضمن هذا المسعى تراني دائم المحاولة لإدامة فعل الإدهاش، وهي عملية اشتغال معقدة للغاية وليست سهلة على الإطلاق، أقصد أن تكون ملمًّا أو قادرًا على تطويع الخيال المجنّح في عملك الروائي والوصول به إلى حدود اليوتوبيا، لأن الرواية عندي هي رواية الخيال المطلق المستند إلى صور متشظية من الماضي والحاضر، وهذ هو الفرق، من وجهة نظري، بين العمل الروائي الجيد والمُجيد والعمل السطحي أو رواية الحدوتة، كما يطلق عليها، فالأولى صعبة ومؤذية ومعذّبة للكاتب وتتطلب جهدًا أسطوريًا وتتسبب له بضغط نفسي كبير، بينما الثانية يمكن أن يكتبها باسترخاء كل من يمتلك قدرة على الكتابة بالفصحى وحسب.