فضيلة الفاروق: لا أرهق نفسي كثيرا، أكذب على عشاق الكذب

الكاتبة والروائية الجزائرية تناقشُ أسئلة مستوحاة من آراء الروائية الفرنسية مارغريت دوراس حتى يكون الملتقي مستشفاً لنمطين من التفكير الكامن بين السطور راصداً خطوط تتقاطع فيها صاحبة "تاء الخجل" مع مؤلفة "مرض الموت" المتلذذة باطلاق الشتيمة على الخصوم.

الحوارُ مع المبدع هو محاولة لفتح أدارج يريدُ المتلقي معرفة محتوياتها ومعاينة مايقعُ ضمن خصوصيات صاحب الأثر ولايشفي مضمون المؤلفات الأدبية غليل المتابع إنما يريدُ الأخير الإنصات إلى صوت المؤلف لذلك فكان رولان بارت محقاً في رأيه بأنَّ المقابلة أو الحوار لعبة إجتماعية لايمكنُ التواري عنها.يهدفُ الحوار إلى الكشف عن مناورات المبدع وهذا لايتحققُ  دون البحثُ عن صياغات جديدة إذا أريد أن لا تحلَ الرتابة على أجواء الحوار  فلابدَّ من وجود ما يخدمُ الحس الاكتشافي في معطيات الكلام المسترسل. بناءً على إدراك هذا المبدأ نطلقُ سلسلة من الحوارات فهي أقرب في صيغتها إلى المواجهة إذ تتفتحُ الحلقة الأولى الكاتبة والروائية الجزائرية فضيلة الفاروق وهي تناقشُ أسئلة مستوحاة من آراء الروائية الفرنسية مارغريت دوراس فالبتالي يكون الملتقي مستشفاً لنمطين من التفكير الكامن بين السطور راصداً الخطوط التي تتقاطع فيها صاحبة "تاء الخجل" مع مؤلفة "مرض الموت" التي كانت تتلذذ باطلاق الشتيمة على الخصوم.

1 - هل توافقين مارغريت دوراس في رأيها بأننا "لانكتبُ شيئاً خارج الذات"؟

 هذه عبارة دوراس الشهيرة التي يرددها الجميع ثم يكذبون جهارا نهارا على أنهم يكتبون خارج ذواتهم. وفي الحقيقة نحن الكتاب العرب نختلف عن الكتاب في الغرب، لأننا نخاف من المجتمع ومن السلطة الدينية والإجتماعية بأسلحة العادات والتقاليد، لهذا لا يمكننا أن نواجه القارئ بهذه الحقيقة خاصة أنه يحكم سلفا على كل نصوصنا على أنها "سيرة ذاتية" مخبأة في ثنايا القصة.  لكن الحقيقة هي أننا نكتب وجهة نظرنا، وأفكارنا، وأجزاء من تجاربنا وتجارب من عايشناهم وهذا ما تقصده دوراس بالبالكتابة من قلب الذات.  نعم لا نكتب شيئا خارج الذات وهذه ليست تهمة لنتنصّل منها.

2 - ما رأيك عن نظرة صاحبة "العاشق" للكتابة بأنها محاكاة للجنون الذي يسود الحياة؟

من أجمل روايات دوراس "العاشق" وهي نابعة من تجربة شخصية، أبدعت فيها بأخذنا لأعماق العشق، حين تعيش في مجتمع حر هذا لا يسمى جنونا، بل نسختك الحقيقية دون أقنعة أمام الناس، حين تكتب شيئا كهذا في مجتمعنا المكبّل بقيود متنوعة يجب أن تدعي أنه جنون ولا مجال لوقوعه في الحياة.

3 - هل ينطبق ماتقولهُ دوراس  عن نفسها "لم يكن لدي أي نموذج لقد تمردت رغم أنفي" على تجربتك الإبداعية؟

هل تعرف أن حبي لدوراس نشأ من تشابه نصها بما عشته وشعرت به في هذه النقطة بالذات، رغم اختلاف حياتينا عن بعضهما بعضا.  لقد وجدتني هكذا وتم تصنيفي أني متمردة وأنا بعد لا أعرف بالضبط ما هو التمرّد، كنت صغيرة وواعية وذكية ولم أكن أعرف مخاطر خطواتي تلك لرفض كل ما يزعجني... فيما بعد حين كبرت ووجدتني في حرب مستمرة مع أطراف من العائلة ومن محيطي الدراسي ثم الجامعي ثم الإعلامي والأدبي، كنت قد أصبحت في قلب ساحة الوغى وأصبح من الصعب رمي السلاح ورفع الراية البيضاء... لقد أرغمني الجميع على القتال والتمرد لأنهم جميعا أرادوا ترويضي لأشبه باقي النساء. الآن تعبوا مني وربما تفرغوا لشابات في مقتبل العمر لإرجاعهن للحظيرة وأنا مثل بعض القلة نعيش الهدنة مع الجميع.

4 - كيف يكونُ ردك على دوراس وهي تعتبرُ بأنَّ الشتيمة قوية كالكتابة وهي مرضية مثل نظم قصيد جميل معترفةً بأنها شتمت أناساً في مقالاتها؟

لا أدري في أي سياق قالت دوراس هذا الكلام، هو ربما صحيح، وربما لا، بالنسبة لي الكلمات شكل من أشكال الذكاء والاستيعاب. نحن نختار كلماتنا بدقة لإيصال أفكارنا، وقد نستعمل كلمات "نظيفة" للإيصال رسالة قاسية لأحدهم وهكذا قد تكون بحجم شتيمة، لكن أن تكون الشتيمة قوية كالكتابة فالصورة غير واضحة لدي.

هل شتمت بعضهم في مقالاتي؟ إذا كانت مواجهة البعض بحقيقتهم وحجمهم الطبيعي يعتبر شتيمة فأنا فعلت، لكن الأكثر أن عددا كبيرا من المرضى فكريا شتموني شتائم بذيئة ولا أخلاقية لأن أفكاري لا تناسبهم. هل يمكنني اعتبار شتائمهم بحجم الكتابة الأدبية؟؟؟ بالتأكيد لا وإلا كل قليل حياء ومنحط فهو كاتب بالفطرة. 

5 - تشيرُ مؤلفة "لاشيء بعد الآن" بأنَّها نشرت كتباً غير مفهومة وقد قرئت هل يهمك أن تكون نصوصك مفهومة ولايتسربُ الغموض إلى لعبة الكتابة؟ هل يرافق الخوف العملية الإبداعية؟

تطرح سؤالين هنا، لنجب عن الأول: لكل كاتب قراؤه، وكلما زادت جماهيرية الكاتب كلما كشف ذلك عن بساطة لغته وأفكاره. دوراس كتبت وجهة نظرها حول أمور الحياة وشرحت فسلسفتها، أحب قراؤها عمقها وحقيقة ما نقلته من تجارب. لكني أعتقد أن السينما هي التي صنعت شعبيتها وليس الأدب، وذلك حين كتبت سيناريو فيلم "هيروشيما حبيبتي"، في ستينات القرن الماضي كانت السينما أكبر منصة إعلانية للكُتّاب.

أما عن سؤالك هل يرافق الخوف العملية الإبداعية؟ وسأجيبك باقتضاب أن بعض الكتاب دفعوا حياتهم مقابل الأدب. والكاتب أمام خيارات إما أن يكتب قصصا مسلية لقرائه ويفعل المستحيل لإرضائهم، وهنا لا خوف عليه سوى من أقلام النقّاد الجارحة، وإمّا أن يكتب أدبا حقيقيا ويطرح فيه قضايا إنسانية هامة وأفكارا تجديدية وهنا بالتأكيد سيشعر بالخوف ولكنه سيختار ما يرضي ضميره.

6 - تؤكدُ مارغريت دوراس على أنها لم تكذب في أي كتاب ولافي حياتها كذبتْ اللهم على الرجال.أين تتقاطع شخصيتك مع منطوق هذا القول؟

نعم يستحيل أن أكذب على قارئي، أمام الورق أنا في مواجهة نفسي، أمّا في الحياة فالبعض يجبرك على الكذب لأنّه لا يحب الحقيقة. خسرت أصدقاء وأشخاصا أحببتهم بسبب صدقي، وأعتقد أني بعد الخمسين أصبحت لا أرهق نفسي كثيرا، أكذب على عشاق الكذب لأن هذا ما يستحقونه ويحبونه، سأعطيك مثلا بسيطا، أصبحت أنزعج جدا جدا جدا من الذين يطلبون مني قراءة مخطوطاتهم، فبحكم عملي الذي يفرض علي قراءة كتابين كل أسبوع أجد من يكتب لي رسالة طويلة عريضة على أنه استثنائي في نصه ويعتبرني قدوته ومثاله الأعلى ومقابل هذه الرشوة العاطفية علي أن أقرأ المخطوط، وحين أعتذر بلطف شارحة ظروفي أتفاجأ بالوجه الآخر لصاحبه. يتطاول البعض علي بشكل يصدمني باتهامي أني مغرورة ومتكبرة وبلا أخلاق. أحيانا أضعف وأقرأ جزءا ثم أكتب ملاحظاتي لصاحبه لأفاجأ أيضا أنه لم يقبل أي ملاحظة ولا مفرّ من غضبه الساطع في هذه الحالة.. سأضيف لك ما هو أسوأ بعض الأصدقاء يحرجونني في هذا الأمر بالذات، فأجدني أمام خيارين الرفض وخسارة الصديق أوالكذب

عن مقولة دوراس أنها كذبت على الرجال، فلا أعرف ما سيكون موقفها في مجتمع كذاب مثل مجتمعنا حتى الأطفال فيه يكذبون، فما بالك حين يكبرون ويصبحون رجالا ونساء.

7 - "يحدثُ الشعور بالحب من تصدع مفاجيء في منطق الكون من خطأ من رفرفة عصفور من نوم من حلمٍ أثناء النوم من دنو الموت" هل يبدأُ الحبُ هكذا كما يبدو لمارغريت دوراس؟

يختلف الحب من شخص إلى آخر، الحب حالة، وإن كان سيكولوجيا متشابه لدى البشر، لكن توصيفه لغويا مختلف، أستطيع أن أعطيك عشر مفاهيم مختلفة للحب وكلها تعبّر عني، وقد يتفق معي البعض في بعضها وقد لن يوافقني أحد. سأقول لك أن الحب يحدث حين يصبح كل شيء جميل من حولنا، أو حين يملأنا الإيمان بالله فنشعر أننا في حالة صلاة. نعم تعبير دوراس جميل وبليغ، ولكنه ليس شعوري، أنا قدرية أكثر وروحانية وهذا ربما يعود لآثار طفولتي علي والأجواء التي عشت فيها، لذلك فمرجعيتنا ليست واحدة وهذا ينعكس على لغة كلِّ منا.