العبثُ وضد العبث في رواية 'الغريب'
يبدأُ العبثُ جراء توتر قائم بين تطلعات الإنسان وعالم مُخيب للآمال هذا هو تشخيصُ ألبير كامو لمفهوم العبث والسؤال الذي يطرحُ نفسه هو هل أدرك ميرسوُ بطل رواية "الغريب" طبيعة هذه العلاقة الإشكالية بين الإنسان وعالمه؟ وإذا فاته اكتشاف هذه الحقيقة فلماذا أصبحَ رمزاً للعبثية؟ هل المسوغُ لتسميته بالعبثي أنَّ المفاهيم ليست سوى معدنة لفظية لظواهر الحياة؟ مفاتيحُ تلك الأسئلة تضمر في مقولة صاحب "الطاعون" بأنَّ الإنسان يتعودُ على العيش قبل أنْ يتعلمَ عادة التفكير، ما يعني أنَّ المواقف التي يختارها ميرسو لاتتطلبُ التأمُلَ ولا الدراية بالفكر بل يكفيه التواصل مع مُعطيات واقعهِ حتى يبدوَ بالوضوح الشكل العبثي للعالم، وبالتالي فإنَّ ماينبسطُ في فضاء رواية "الغريب" يُمثلُ مُستنداً لروحية العبثِ من جهة وتمرداً على الإكراهات القيمية من جهة أخرى، وبذلك يكونُ أفقُ النصِ منفتحاً على قراءات مُتعددة كما أن شخصية ميرسو باختياراتها ومستويات تَمظهرها في أثير الرواية تضع النص أمام تقاطعات مع آليات التحليل النفسي والفلسفة الظاهراتية ورؤية الأبيقورية للحياة هذا ناهيك عن الجدل الوجودي العميق الذي يكونُ أحد طرفيه ميرسو والآخر هو الكاهن.
وعلى مستوى المبنى الحكائي سبك كامو شخصياتٍ تخدمُ التشكيلة السردية إذ يكفلُ الراوي بالإخبار عن الخلفية الاجتماعية والوظيفية والمهنية عن أقرانها الورقية مايعني أنَّ النص إضافة إلى تغطية حركة البطل المُضاد ميرسو يضمُ قصصاً فرعية في سياقه المُتتابع،وبهذا تنتقلُ عدسة الراوي بين صف من الشخصيات فاتحةً أدراجها بدءاً من توماس بيريز وشهادته عن الأيام الأخيرة لأُم المجرم مروراً بريمون وعراكه مع العشيقة وصولاً إلى سيلست ومايخلفه كلامه في المُحاكمة من مشاعر دافئة لدى ميرسو بحيثُ أنَّ الأخير يتشوق لمعانقة إنسانٍ لأول مرة، أكثر من ذلك فإنَّ المحتوى الروائي لايكونُ قيد أحادية المشهد والوضعية بل أنَّ العمل على الرغم من مساحته المُقتصدة فإنَّ المرونة في الحركة والحيوية في الوصف والتعددية في المشهد من مكونات رئيسة في هويته الإبداعية.
الاستهلال المأتمي
الجملة الاستهلالية ترشحُ احتمالاتٍ في ذهن المُتلقي بشأنِ السناريوهات الكامنة في بواطن النصوص، ولامُبالغة في القول بأنَّ ما يستفتحُ به العمل الروائي يكونُ بمثابة نواةٍ تنطلقُ منها فروع القصة ، يرى آلان دوبوتون بأنَّ فاتحة رواية "الغريب" من أهم القطع الأدبية في القرن العشرين فعلاً ما يبدأُ به "ميرسو" سردهُ مُفاجيءُ ويندُ عن الأعراف السائدة في افتتاحية النصوص الروائية إذ يغيبُ وصف الطبيعة والمكان أو البيئة الحاضنة للحدث ويخبرك الراوي وهو ميرسو مباشرةً بتلقيه لبرقية من مأوى العجزة يفيد فحواها بأنَّ أمه قد ماتت واللافتُ في هذا المُستهل هو التيبس العاطفي الذي يوحي به كلام الراوي "اليوم ماتت أمي أو ربما ماتت بالأمس لستُ أدري" ولايبدو بأنَّ ما تلقاه المتكلمُ قد كسرَ جليد مشاعره الراكدة لذلك ينصرفُ عن الحدثِ مولياً فكره صوب المسافة التي يقطعها للمشاركةِ في تشيع الجنازة ومايستدعي ذلك من طلب الإجازة الأمر الذي قد يثيرُ حنق مُعلمه، مهما يكنْ الموقف فإنَّ الرحلة نحو مأوى العجز الواقعة في مارنغو ستبدأُ إذ يسبقُ الراوي المشهد الجنائزي متوقعا بأنَّ بعد الدفن يتلبسُ كل شيء مظهراً رسمياً كأنَّ الأهم ليس الكائن الذي تفارقه الروح بل الشكليات التي تصحبُ لحظة تواريه عن الانظار إلى الأبد، باستثناء السفر لايتبدلُ شيءُ في يوميات ميرسو وهو يمرُ على سيلست لتناول الأكل قبل أن يمضي قدماً نحو وجهته، ويستعيدُ لاحقاً ماسمعهُ من صاحب المطعم بأنَّ المرء ليس له سوى أمٍ واحدةٍ، ومايثيرُ الاستغراب هو عدم تخطئة ميرسو من رؤية ماعلت على وجوه أصدقائه من علامات الحزن والألم دون أن يبدي أي تفاعلٍ مع هذا التضامن، وعلى ذات المنوال يتصرفُ مع مظاهر ذلك اليوم إلى أنْ يلتقي بمدير مأوى العجز، إذ يكشف الموقفُ أنَّ الأمَ قد أمضت ثلاث سنوات هناك بعيدةً عن الإبن وذلك لضيق ذات اليد ويفهمُ من الحوار المسرود بأنَّ السيدة مارسو كانت مستأنسةً بالمكان والتواصل مع أصدقائها الجدد، ينفردُ صوتُ الراوي بالسرد مُعقباً على كلام المدير " في الأيام الأولى التي نزلت فيها المأوى كانت تبكي غالباً ،ولكن ذلك بسبب العادة فبعد عدة أشهر كانت ستبكى لو أنهم سحبوها من المأوى" يستعيدُ السجينُ لاحقاً وهو قابعُ في الزنزانة رأي أمه عن الانقياد لسياط التعود " المرءُ في النهاية يعتادُ على كل شيء" بعد مراسمِ الدفن ورفض الإبن القاء نظرة على وجه أمه لاتقعُ على مايشيرُ إلى ذكرى الراحلة سوى مرات معدودة إذ يتضاعفُ الشعور بالضجر لدى الراوي وهو يرى بأنَّ الشقة صارت أكبر مما ينبغي مايعني أنَّ المكان لم يعدْ مريحاً بل ينطقُ بالوحشةِ، غير أنَّ ذلك لايحول دون توحده مع العالم والتذاذه بالحميمية مع ماري وهو يشاهدُ من شرفته عودة مشجعي النوادي الرياضية واللاعبين الذين يهتفون بأنَّ فريقهمَ لن يهلكَ، إذن لاينقطعُ ميرسو عن واقعه لأنَّ "الإنسان لايتسطيعُ أن يخرجَ من المُجتمعِ دون أن يخرج بالتالي من صميم إنسانيته " حسب رأي دوركهايم.
القتل المجاني
يحققُ المؤلفُ نجاحاً في الدفعِ بالمتلقي لمتابعة متاهة المحكمة وحيثيات الاستجواب ويبلغُ الأمر إلى حد التورط في إطلاق الأحكام علي صنيعه الورقي بأنَّه موبوء بأنفاس عنصرية ويُمثلُ نظرة كامو الدونية للآخر الذي يقتله ميرسو مجاناً على الشاطيء صحيح أنَّ هذا القول يؤكدُ قوة وقائعية الخطاب الروائي لكن الذهاب إلى القراءة الإسقاطية والمراوحة في شركها غالباً ماتكمنُ ورائها عقلية اختزالية لاترى الثغرة بين المؤلف والنص، ويحتجُ بالأقوال المنطوقة في سياقات مختلفة ليس للإبانة عن الأبعاد المضمرة في المُعطي الأدبي بل لمُحاكمته، فما صرحَ به مؤلف "الإنسان المُتمرد" بأنَّه على رغم إيمانه بالعدالة إذا تطلب الأمر يدافع عن أمه ضد العدالة قد ألبَّ عليه الأقلام الساخطة إلى أن تحولَّ ميرسو القاتل ضمن هذه الحملة معادلاً موضوعياً لكامو، وفي حالة افتراض صحة هذا التأويل فمن الأجدرِ القولُ بناءً على المنطق نفسه أنَّ كامو يمقتُ باريس لأنَّ بطلَ "الغريب" قد رفض الانتقال بخدمته إلى مركز السلطة الاستعمارية، أيا يكنْ الأمر فإنَّ أجواء الرواية مشحونةُ بالأفكار وتضعُ القاريء أمام تحدياتٍ بشأنِ فك عقدة ميرسو وتعليقاته العابرة على الحب والصداقة والزواج وهو مابرحَ يؤكدُ بأنَّه لم يقتل العربي عن سبق الإصرار وعندما يُسئلُ عن الدافع الذي قاده لارتكاب الجريمة وما منه إلا أن يقولُ بأنَّ ذلك كان جراء الشمس، يرى سيرجي دوبروفسكي أنَّ فكرة الشمس تحددُ المقولة الأساسية في أنطولوجيا كامو، لايُحملُ ميرسو وزر جريمة القتل فحسب بل أنَّ موقفه من موت الأمِ ومُغادرته للمقبرة وجهله بعمر الراحلة وعدم بكائه لها يوم الدفن كل ذلك كان ضمن لائحة الاتهام، هل هذا يعني أنَّ ميرسو يعاني من فراغ القلب على حد قول المدعي العام؟ إذ يصفه بهوة يمكنُ أن يسقطُ فيها المجتمع، أزمة ميرسوُ ليست قسوة القلب ولا جفاف المشاعر لأنَّه اعترف بحبه للأم كبقية الناس كل مافي الأمر أنَّه لايحسنُ التمثيل ولايريدُ أن يكونُ نسخة مطابقة لشخصية القصة التي قرأها في الزنزانة حيثُ يخلفُ التمثيل واقعاً تراجيدياً،ولكن ألا تكلفُ الحقيقةُ الحياة بالنسبة لميرسو ؟ طبعاً هذا هو السؤال الأخلاقي المبثوث في نصوص كامو، ما يكسبهُ ميرسو في جولة المحاكم وعتمة السجن ليس البراءة من وصمة الجريمة أو الانجرار نحو الأمل إنما العودة إلى النفس لأنَّ الحقيقة تسكن في الباطن وفق التعبير الأوغسطيني وهو على مشارف الموت يدركُ قيمة الحياة فالإنسان لو عاشَ يوماً واحداً في الحياة ستكون أمامه مؤن من ذكريات تبعدُ عنه السأم لمئة سنةٍ وهذا الشعور العميق بالوجود يذكر بكلام هيدغر لأحد طلبته عندما سألته عن طريقة لاستعادة الوجود فقال علينا أن نقضي أطول مدة في المقابر كأن الإحساس بالوجود لاينضج إلا بجوار العدم، إذن فرواية الغريب كما قال سارتر عبث ضد العبث.
مملكة العالم
على غرار نيتشه قد أعلن كامو بأنَّ لايبحثُ عن مملكته خارج هذا العالم وهو يقولُ في "أعراس" إن كانت هناك خطيئة ضد الحياة ليست اليأسُ منها بقدر ماهي الأملُ في حياةُ أخرى يعبرُ بطل "الغريب" عن هذا المبدأ خلال حواره مع الكاهن إذ يشيحُ بوجهه عن الأمل الأخروي وهذا مايثيرُ استغراب القاضي والكاهن في الوقت نفسه، وما كان رفضه لزيارة الكاهن إلا جهراً بعدم الإيمان وإنَّ هذا الموضوع ليس ضمنَ مايهمهُ، فهل يفصحُ الجدلُ عن طبعية اعتقاد ميرسو بأنَّ العالم يفسرُ نفسه بنفسه؟ ما يقولهُ كامو على لسان إحدى شخصياته في رواية "السقوط" يضيء جانباً آخر من شخصياته العبثية، "يلجأُ المرءُ إلى الاعتقاد لافتقاره إلى الشخصية" إضافة إلى العبث فإنَّ الهشاشة والتحول والمصير من ثيمات أساسية في تركيبة رواية "الغريب".