فرانسواز ساغان وروح العصر
يُمثل المبدعُ روح عصره ليس من خلال نصوصه ومآثره الفنية فحسب بل إنَّ سيرته التي قد تكون مصدراً في تشكيلة المواد الإبداعية تعبرُ عن تحدياتٍ قد اختبرها فبالتالي تزيده الوقائع وعياً بطينة البيئة التي عاش على كنفها.لذلك فمن الطبيعي أن يبادرَ بعض الأدباء برواية رحلة حياتهم واستعادة المحطات المفصلية من المشاهدة والتجربة وبذلك تتمُ تغطيةُ لعبة الحياة بزخمها اللامحدود واتجاهاتها المرئية أو اللامرئية إذن فما يضمهُ العمل الأدبي ليس إلا جانباً من المُعادلة في حياة صاحبه، وما خفي قد يكون مثيراً للجدل أكثر ويفوق تشويقه على مايتصدر الواجهة لذلك إلى جانب الملعب الإبداعي هناك أرضية أخرى للحياة إذ ثمة من أدرك قيمة هذه الفرصة،ولم يتوانَ من الارتماء نحو الواقع الحافل بالاحتمالات اللامتناهية إذن فلاغرابة من الإهتمام الذي تحظى به سيرة بعض شخصيات أدبية بحيثُ قد غدت زاداً ملهماً لكتابة نصوص روائية أو لانتاج روائع سينمائية.
وقد لاتكفي مروية واحدة لمتابعة حياة المرء بأكملها لذا بادر ديني ويستهوف وهو ابن فرانسواز ساغان من زوجها الثاني بسردِ سيرة أمها في كتابه المعنون بـ"ساغان وابنها" ومن المعلوم أنَّ ساغان قد نشرت سيرتها "مع أطيب ذكرياتي " ساردةً فيها مراحل من حياتها الإبداعية والشخصية.
ولم تفوتها الإشارةُ إلى روافد تكوينها المعرفي حيثُ ذكرتْ ثلاثة عناوين كانت أعمقَ تأثيراً على ذائقتها الثقافية وتشكيلتها الفكرية قوت الأرض، إشراقات، الإنسان المتمرد.
هذا فضلاً عن اشادتها الكبيرة بشخصية سارتر وكتابه "كلمات" فبرأيها من أكثر كتب روعةً في الأدب الفرنسي كما تقعُ ضمن تضاعيف الكتاب على الرسالة التي كتبتها ساغان لصاحب "الغثيان" وهي تعبرُ عن الارتباط الروحي بين الإثنين، هنا يكونُ السؤالُ قائماً بشأنِّ مايمكنُ أنْ تضيفهُ السيرةُ الغيرية على ماوردَ في السيرة الذاتية؟ طبعاً يتوقع المتلقي بأنَّ السيرة الجديدة قد تكشفُ ماسكتت عنه ساغان في سيرتها الذاتية كما أنَّ صيغة العنوان تعِدُ بأنَّ النص يتوقفُ حول ماتعنيه الأمومة في مسيرة صاحبة "ابتسامة ما" الإنسانية.
واللافتُ هو مايقولهُ الابنُ في المقدمة حيثُ يعلنُ صراحةً بأنَّه ليس كاتباً ولايدعي الامتلاك لمفاتيح حقيقة مُطلقةٍ وبالتالي لايعتبرُ نفسه أكثر من شاهدٍ متيقظٍ أحياناً ومتسلٍ أحياناً أخرى للوقائع قد دونها في مؤلَفِه.ويتابعُ مشيراً إلى أنَّ كتابهُ هو ضربة مكنسةٍ على المعلومات المبركة التي شاعت عن والدتها.
النجومية
يبدو أنَّ الهدف من نشرِ سيرة أُخرى على لسان الإبن هو تشذيب الصورة من الافتراءات المغرضة التي تزدادُ تضخماً مع صعود الأسماء الجديدة ومن المعلوم أنَّ الرواية الأولى لساغان كانت بمثابة أوراق اعتمادها لنادي المشاهير.وكما يقولُ ديني أنَّ والدته قد اشترت بعائدات باكورتها الروائية سيارة جاغوار.
مايعني تحقيق أرقام قياسية في مبيعات الكتاب وبالمُقابل قد شهدَ الوسط الأدبي استنفاراً ضد الظاهرة الساغانية إذ تكفلت إحدى صديقات الكاتبة بنشر شائعة ونسبت "مرحبا أيها الحزن" إلى نفسها مدعية أن ساغان ليست الكاتبة الحقيقية للرواية وعندما سئلتْ فرانسواز ساغان عن صحة كلام صديقتها قالت ساخرةً "لايُضايقني أن تقولَ إنها تكتب كتبي طالما لاتقولُ إننى أنا من يكتبُ كُتبَها" ولم تنتهِ الحملةُ عند هذا الحد بل طالت الشكوك أعمالها الأخرى واُتهمت بأنَّ روايتها "الكلب المُتربص" مأخوذة من إحدى قصص جان هوغرون القصيرة بعنوان "المرأة العجوز" وبدوره فتح جان-بير فاي جبهةً على الكاتبة المُغامرة واصفاً مانشرته ساغان بالبديل المبتذل لرواية العبث وما كان ردها إلا صاعاً بصاعين "لم تنتظرْ عبثية الوجود لاسارتر ولاكامو كما أنها لم تنتظرني لتوضع في روايةٍ ، وكذلك الأغبياء لم ينتظروا قرننا هذا لتقديم تعليقات بهذا الأُسلوب"علق الفيلسوف "غابرييل مارسيل" على اصدار رواية ساغان إذ وصفها بالخطر على سمعة الفتاة الفرنسية.
وعن تغيير النسبة وما أثاره من اللغط ينقلُ ديني عن والدته بأنَّ مردُ ذلك كان رينيه جوليار الذي أبدى انزعاجه من وجود اسم كواريز على الغلاف مطالباً منها اختيار بديلاً له وصادفَ أن تزامنَ الاتصال مع انكباب ساغان على قراءة "البحث عن الزمن المفقود" وهنا رشحت للناشر"ساغان" وهو اسم لإحدى شخصيات رواية "مارسيل بروست".
يُذكر أنَّ بروست لايغيبُ أيضاً من لائحة قراءات الإبن يقولُ "وقعت معه في حيص بيص، وشعرتُ كأننى في دوامة خيل إذ الكلمات والجمل تقذفك من حافةٍ إلى حافةٍ من تفكيرك، مستعيداً في هذا الإطار رأي والدته عن التوغل في غابة بروست "يمكننا أن نقرأ بروست عشر مرات دون أن نكون قد قرأنا بروست على الإطلاق" وهذا ما يوحي بأن الحساسية النقدية كانت حاضرةً لدى فرانسواز ساغان.
الجنون
ولم تتوقفْ مغامراتها عند زاوية الأدب والإبداع، كانت تحبُ لعبة الروليت وطاولة سكة الحديد إذ رأت فيهما أقصى درجات الإثارة واشترت بالمبالغ التي ربحتها في القمار قصراً في النورماندي، وذاقت في كازينو كليرمونت مرارة الخسارة وطعم الربح في آن واحد.
وقد سردتْ ساغان تفاصيل هذا الموقف في القسم المعنون ب"القمار" بِمذكراتها ويروي ديني حيثيات ماعاشته مؤلفةُ "هل تُحبين برامس" في الكازينو اللندني وخسراتها لمبلغٍ فادح بحيثُ أرادت العودة إلى باريس وتبيع سيارتها ومنزلها غير أنها لم تنسحبْ من اللعبة ولملمت شتاتها الذهني وتمكنت في نهاية المطاف من الوقوف على رجلها والخروج من قاعة اللعبة بعد أربع ساعات من الصراع المستميت مع الحظ إلى أن روضته.
هكذا تكتسبُ ساغان درايةً بهذه اللعبة فبرأيها أنَّ القمار يتطلبُ قوة الإرادة والبسالة ورباطة الجأش ولاتنكرُ الجنون الذي يحلُ على طاولة المُقامرين كما أدركت المساحةَ التي يشغلها المالُ في حياةِ المرء "ثقل المال يمنعُ الإنسان من التسامي .إنَّ له تأثيراً على أولئك الذين يمتلكون المال بقدر مايؤثر على أولئك الذين لايمتلكونه" إذن فما تناولهُ الإبنُ في كتابه يؤكدُ بأنَّ الجنوح إلى المُغامرات كانَ محركاً لحياة ساغان.قد جذَّبها كل ماليس مُطمئِناً.وهذا مايفسرُ اطلاقها العنان لأقصى السرعة في سياقة السيارة، الأمر الذي كاد أن يودي بحياتها في عام 1957 وتمزقت إلى ألف قطعة على حد قولها وتم انتشالها من حطام السيارة وهي على مرمى أنفاس من الموت.
وبالطبع أنَّ هذه الحادثة كانت لها تبعات على حياةِ فرانسواز ساغان إذ لم تعدْ توأماً للحظ واللامبالاة والموهبة والمجد، والغريب أنَّ ساغان وصل بها النزقُ لدرجة أرادت أن تكون حرةً في تدمير نفسها.ولم تكفْ عن تعاطى المخدرات والمواد الكحولية على الرغم من تعرضها لملاحقات قانونية.واستفحلت معاناتها مع الألم بعد حادثة السير ما يعني أنَّ المهرب الوحيد بالنسبة إليها كان الأدوية المُهدئة ومن ثمَّ تخضع لعملية جراحية حتى تصرف النظر عن الكحول نهائياً وزادت عليها وطأةُ الأزمات بعد رحيل صديقتها المقربة باولا.تتواردُ في سياق هذه المروية الإشاراتُ إلى اهتمام ساغان بتكوين ابنها المعرفي إذ كانت ترشحُ له الروايات كما حاولت إقناعه بضرورة مزاولة الرياضة.ومن المواصفات البارزة التي رأها ديني في شخصية والدتها الفكاهة التي اعتقدت بأنَّ الافتقار إليها عاهة فكرية مرهقة، كذلك كانت تتمتعُ بالذكاء وسرعة البديهة في الرد والعناية بالمظهر كانت جزءاً من برنامجها اليومي كما أنَّ السخاء هو المشترك بينها وبين معلمها سارتر.
والطريف أنَّ مايذكره الإبن عن موقف يجمع بين ساغان والمخرج بازوليني فهي تعلنُ بصراحة أنها لاتفهم أفلامه المرهقة واللاأخلاقية فإذا بشخص يقدمُ في المقهى قائلاً "بييرباولو بازوليني تشرفت بك" وكانت ساغان شغوفاً بمتابعة السينما لدرجة التقمص مع أبطال الأفلام والتفاعل مع الحدث.
عملة الحب
لايستغرقُ الراوي في الحديث عن علاقات ساغان العاطفية ويكتفي بالإشارة إلى زواجها مرتين كما يلتفت إلى صداقتها الودودة مع بعض الشخصيات السياسية وما كلفتها القرابة والتضامن مع رموز اليسار الفرنسي من المحن حيث تألبت ضدها الحكومة اليمينية.وتراكمت عليها الضرائب.
إذا كانت ساغان قد خطفت الأضواء في شبابها بحضورها اللافت وتوقها للحياة وطيها للمسافة الفاصلة بين البدايات والمجد بزمن قياسي فهي قد عانت الأمرين في أيامها الأخيرة كانت ترزحُ تحت عبء الوحدة والمرض ولم تحظَ بأي اهتمام رسمي وحتى الابن لم يتجرأ بأن يتقبل بتركة والدته كونها ملغومةً بالملفات الضريبة أياً يكن الأمر فأنَّ العمر والحب والمال كل ذلك برأي ساغان لابدَّ أن يتمُ صرفه فضلاً على كل ماسبق ذكره أنَّ الابن يشيرُ إلى مواقف والدته بشأنِ مامرَّ به العالم أنذاك من الرعب النووي والحروب يشارُ إلى أنَّ ديني ويستهوف يعترف بأنَّ ساغان الأسطورة ليست محمية من النقائص، لكن لاتزالُ حاضرةً بجرأتها وتشوقها للسعادة ومبدأها بأنَّ المأساة لاتعلمك شيئاً، وقناعتها بأنَّ الأولوية لابدَّ أن تكون للحياة المباشرة أما الاحتمالات والأوهام والحسابات فهي فقاقيع تتبدد.
يذكر أنَّ والدةَ ديني قد طُرِدت من مدرسة لويز دي بيتينييه وكانت تمضي يومها من الثامنة صباحاً إلى السادسة مساءً في التنزه بباريس وانهمكت على قراءة أعمال كامو وسارتر وكوكتو ومن خلال حياتها الحافلة بالمُغامرات قد مثلت ساغان روحَ ذلك العصر الاستثنائي.
مع أنَّ فرانسواز ساغان هي بؤرة مروية الإبن لكن الأخير يبدو مخلصاً لوالده أيضاً ويسردُ جانباً من نشأتهِ وتجربته في الجيش الأميركي والظروف التي التقي فيها بساغان.