رؤى نقدية تحتفي بالتجليات الإبداعية لمنير عتيبة
تحفل المسيرة الإبداعية للكاتب السكندري منير عتيبة بثرائها وفرادة معالجتها للقضايا الانسانية وتجدد جماليات أسلوبها، هذه المسيرة احتفى بتجليات عوالمها عدد كبير من النقاد وناقشتها دراسات أكاديمية قدمت لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، وقد شهد قصر ثقافة الشاطبي ندوة أضاءت جوانب مهمة في كتابات عتيبة في مجالات الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل، أدارها د. أدهم مسعود القاق وشارك فيها أدباء ونقاد وقراء بمداخلات نقدية ثرية، وهنا نستعرض أهم ما طرح من رؤى نقدية.
قصص قصيرة جدا
في مداخلتها تناولت الناقدة أميرة عبد الشافي العوالم الإبداعية في القصص القصيرة جداً لمنير عتيبة مؤكدة أنه من أهم كتاب القصة القصيرة جدا في مصر، له مشروعه الخاص في كتابة هذا النوع الأدبي؛ ثلاث مجموعات "روح الحكاية، وأرواح أخرى، وقطعة من جوليا روبرتس"، وقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته "روح الحكاية" عام 2015.
وأضافت عبد الشافي "في كثير من قصص منير عتيبة القصيرة جدا يختار كسر المألوف، ومزج ما هو حقيقي، بما هو غرائبي، وما هو واقعي، بما هو غير واقعي، وما هو واع بما هو غير واع، بقوة الخيال المبدع؛ فيجعل أهل القبور من الموتى رفقاء له يقضون معه يوم العيد؛ والمرأة تحمل في قرد، والإنسان يصير شبحًا، وذلك الذي يطلب من الآخرين تركه مستيقظا لأنه يحلم، والآخر الذي يصير بلا هيكل عظمي، والقرية التي تتحول بكاملها لمحمية وأهلها لحيوانات بسبب تأخر أهلها عن ركب التقدم الذي تسير فيه البشرية، المرأة التي تشك في زوجها فتقطع قلبه بالسكين لتتأكد من خلوه من أي امرأة أخرى، ثم نامت مكان تجويف القلب، وذلك المسكين الذي رأى يدا تمتد إلى صدره فتنزع قلبه ومن وقتها وهو يبحث عن قلبه في أيادي الناس. وقهوة حبيبته التي حولت ماء البحر والمباني إلى اللون البني، وتركت أحجار الكورنيش ترقص معا، الغراب الذي يحكي قصة تعليمه لقابيل كيف يدفن أخاه، وطرح القصة على لسان الطرف الصامت دائما، وبيان رؤيته الخاصة لها.
وقالت أنه استخدم عدة تقنيات لبلورة فكرته في قالب اللامعقول منها التناص، وأوضحت "يعد التناص من التقنيات الجمالية التي تمنح النص ثراء؛ لأنه يخلق شبكة من العلاقات بين النص والنصوص الأخرى التي يتماس معها، فيفتح التأويلات ويزيد العمق الدلالي، ويعد من أهم الأدوات التي استخدمها منير عتيبة في كتاباته ولا سيما القصص القصيرة جدا، فكان وسيلة تساعد على التكثيف وتعميق المعنى، لأن مجرد الإشارة للفكرة المتناص معها يحيل ذهن القارئ مباشرة إليها، وقد وظف عتيبة عدة أنواع من التناص كالتناص الديني، والأسطوري، والتاريخي، والفني، والتناص مع الموروث الشعبي.
وتابعت عبد الشافي لأن ذات الإنسان المستنزفة والمتعبة من الحياة هي هم عتيبة الأول، فقد برزت في نصوصه مجموعة من الثنائيات، جانب منها يمثل المعاناة، الواقع الذي تعيشه روح الإنسان، والجانب الثاني من الثنائية يمثل الخلاص، الحل، الأمل، الحلم، وكل ما هو مفقود ومنشود. فقد نجد ثنائيات الموت والحياة، الحلم واليقظة، الخير والشر، الغنى والفقر، النور والظلام، الحقيقة والخيال، الأمل واليأس.. إلخ. يقول عتيبة في قصة "قرار آخر خاطئ": " عندما التف الناس حولي، شعرت باختناق لمرأى وجوههم المحملقة القبيحة، وعرفت أنني اتخذت قرارا آخر خاطئًا بقتلي نفسي في وجود الآخرين". ويقول في قصة "مطاردة":" كان دائما ما يدخل إلى النوم هربا من أفكاره، يجري في شوارعه الضيقة، يختبئ خلف تلاله المعتمة، الآن عليه أن يعدو أسرع ويختفي أبعد؛ فقلبه هو من يطارده".. نجد في تلك القصص وقصص أخرى غيرها أن الكاتب دائما في حالة بحث عن شيء مفقود أو هو حالة هروب من واقع مؤلم وقاس إلى عالم آخر ينشد فيه الراحة حتى وإن كان هذا العالم هو عالم ما بعد الموت. من شأن الثنائيات التقابلية أن تضع القارئ دائما بين فكي الرحى تفتح ذهنه على الواقع وتضعه وجها لوجه مع مآسيه وآلامه وأوجاعه وتضع له في المقابل حلولا حتى وإن كانت غير منطقية، إلا أنها تخبره دايما أن على الجانب الآخر من الظلام يوجد نور وأن اليأس يعقبه الأمل وأن المشكلة دائما لها حل، فقط علينا الاعتراف أولا بالمشكلة، لا الهروب منها.
أعمال روائية
وحللت الناقدة د.حنان الشرنوبي ثلاثة أعمال روائية لعتيبة كالتالي:
حكايات آل الغنيمي
تتناول الرواية أحوالَ القرية المصرية المتغيرة في تسعينيات القرن العشرين، كاشفة العلاقات الاجتماعية المختلفة التي تتحكم ببعضها المصالح الخاصة، والجديد فيها أنها تبحث لنفسها عن أماكن أخرى غير المناطق العشوائية، والبلدة ليست بالريفية ولا بالحضرية، لكنها قريبة من الإسكندرية – لم يسمها ولكن من خلال مطالعة أعمالِه الأخرى أرجح أنها خورشيد، التي أَهدى إليها بعض أعمالِه وافتتح أخرى بها، وكان هدفُه تحريكَ البِرك الراكدة؛ لكشف ما يُخفيه ظلام القرية من بعض السلبيات.
أسد القفقاس
رواية وجهات النظر.اعتمد فيها الكاتب على البطل التاريخي، وحياة بطل القوقاز (شامل بن زكاو)، وهو أحد أئمة الشيشان وداغستان، الذي انخرط مريدًا في الطريقة النقشبندية، التي حافظت على روح الإسلام عفيّة بالقوقاز. وتتابع الرواية كفاح الإمام (شامل) ضد الروس على مدار ربع قرن تقريبًا، ثم وقوعه أسيرًا في يد القيصر إسكندر الثاني، ثم الإفراج عنه لتوافيه المنيّة عام 1871 في المدينة المنورة، وقد حاولت الرواية رسم ملامح البيئة الاجتماعية والجغرافية ورصد الوقائع والأحداث الإيهامية. ولقد كتب العديد من النقاد عن أسد القفقاس ناظرين إليها على أنها رواية تاريخية.
وأختلف مع هذا الرأي؛ لأن الرواية التاريخية والسير (الذاتية، الغَيْرية) تشمل وقائع حقيقية ووثائق تاريخية وعلاقات لشخصيات فعلية وردت بالتاريخ. وأغلب الظن أن الأديب لمح عبر كتب التاريخ شخصية "شامل"؛ فاشتعل وميض الخيال ونسج روايتَه بحِرْفية؛حتى جعل المتلقي يتساءل أهي رواية تاريخية أم سرد للتاريخ؟ أم تاريخ مدوّن من منطلق ذاتي؟ أم أراد أن يوضح وجهة نظره بموضوعية؟ أهو أدب خالص أم تاريخ محض؟! والواقع أن الكاتب عمل على إثارة اهتمام القارئ عبر إيهامه بـ «(الوظيفة الإغرائية)؛ إذ يغري بكشف اللثام عما يحتويه من أسرار ومعلومات، ويؤكدها إيهامُه بواقعية الحدث مبعدًا الجانب التخيلي عن ذهن القارئ.
وفي أسد القفقاس نجد نظرة الذات للآخر كما حدث في رواية حاجي مراد لتولستوي والحاج مراد احد ابطال اسد القفقاس.. كمان ان شامل مذكور في رواية تولستوي بوجهة نظره للذات فالحاج مراد من المجاهدين.
موجيتوس
استلهم فيها الأديب التاريخ للإيهام بالواقع؛ إذ يقرر عشرون رجلاً من أهل الأندلس بناء سفينة وغزو صقلية غزوة سريعة باسم الإسلام؛ ليعودوا بعدها محملين بالغنائم والفخر ورضا الرحمن، لكن السفينة تجنح بهم تحت ضربات عاصفة مهلكة؛ وتلقي بهم على شواطئ فرنسا؛ فيجدون أنفسهم في مكان لا يعرفونه أمام أطلال قلعة رومانية قديمة على البحر، وتتحكم في الطريق الرئيسية بين الجبال. ومن هذا المكان يمدون نفوذهم لمئة عام على جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، حتى يصل إلى سويسرا. وفي هذه الرواية يلتقط عتيبة حكاية ضائعة بين رفوف التاريخ، ثم يحلق بخياله الخصب حولها مستعينًا بما قرأه عن هذا الزمن؛ فتتجسد لنا موجيتوس. وقد ابتكر الكاتب فيها تقنية تداخل الشخصيات؛ حتى إن القارئ في الوهلة الأولى يجد نفسه – إن لم ينتبه - يسقط في متاهة الشخوص المتعددة، التي يكتب مجاهد (الشخصية المحورية في الرواية) على لسانها.
ملامح أدب الطفل
وتساءلت الناقدة إيمان الشيمي في قراءتها لأهم ملامح أدب الطفل في النتاج الإبداعي لعتيبة لماذا يكتب منير عتيبة للأطفال ويقبل هذا التحدي الصعب؟ وهو الكاتب الذي بلغ إبداعه مبلغا كبيرا لا يخفى على أحد في شتى ألوان الأدب، من الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدا، والمقالات أيضا، إذن لماذا قرر منير عتيبة خوض تلك المغامرة؟. أعتقد أن الطفل الذي بداخل منير عتيبة لديه الكثير من الحكايات والتجارب والشقاوة والمرح، وهذا الطفل مسيطر بشكل أو بأخر، فيظهر مرات ويختفي مرات، ولكنه يحسن الظهور فتتدفق القصة بقوة من عقله وقلبه وقلمه، كما أعتقد أن منير عتيبة يتفاعل بشكل مباشر مع الأطفال المحيطين به، ولذلك فهو يعيش عالمهم ويعرف الكثير من خباياه.
وتناولت الشيمي عالم الخيال المبني على التراث في قصص عتيبة للأطفال، والتراث متعدد فهناك التراث الديني، والتاريخي، والاجتماعي، والشعبي واللغوي. وتطرقت إلى التراث التاريخي في مجموعة "الأمير الذي يطارده الموت" والتراث الشعبي في المجموعة القصصية "حكايات عربية". وقالت "في المجموعة الأولى نجد الخيال المبني على الأسطورة، وهنا نحن أمام الأساطير الفرعونية بما تحمله من ألغاز وخرافات وإثارة وتشويق، وقد يتبادر سؤال مهم إلى الأذهان، ما حاجة طفل اليوم الذي يدرك أنه لم يعد هناك مكان في العالم لم يتم اكتشافه، إلى قصص تحكي عن الأساطير والخرافات القديمة؟ في الحقيقة إن هذه القصص تلعب دورا مهما أدركه علماء النفس والتربويون، لإنها تخرج مخاوف الطفل إلى النور وتقدم له الحلول، بل إن الطفل في حاجة إلى قصص الأساطير أكثر من أي وقت مضى، فهي تساعده على أن يفسر التناقضات التي يراها حوله وتعطيه ثقة في قدرته على التعامل مع الواقع، لإنه يندمج مع هذه القصص لكنه لا يصدقها، كما إنها تمنحه مزيدا من الخيال الذي هو نواه الإبداع والتميز، ومن أشهر هذه القصص "ثلاثية الخواتم" والمستوحاة من أساطير اسكندنافية، وقصة "الظلام يرتفع" للكاتبة سوزان كوبر، والمستوحاة من أساطير خاصة بالملك أرثر، وقدم لنا منير عتيبة في مجموعة "الأمير الذي يطارده الموت" القصصية أربع حكايات، "الأمير الذي يطارده الموت"، "حكايات عن السحرة"، "باتا ذو القلب الجميل"، "السكين الخرافي والثور العجيب" وقد استخدم سردا سلسلا وبسيطا لأقصى حد، كما ابتعد عن الوصف الزائد، ولم يغرق الأطفال بوصف التفاصيل، فنجح في اغراقهم في الحدث نفسه.
وفي المجموعة الثانية "حكايات عربية" نجد الخيال المبني على التراث الشعبي لأكثر من بلد عربي وقد قدمت هذه المجموعة الكثير من المتعة للأطفال، فتبدو المجموعة وكأنها رحلة سافر فيها الأطفال من بلد لبلد، ولكن الأطفال في هذه الرحلة لم يزوروا الأماكن السياحية الشهيرة، والتي تبرق كما الذهب، وإنما كانت رحلتهم إلى العمق في الأزقة والحارات، حيث الجدات ودفء حكاياتهن، حيث اللهجات والبيئات المختلفة أيضا، كما تدفقت المتعة من القصص التي جاءت على لسان الحيوانات والتي يحبها الأطفال كثيرا، فهو عالم لا يمل الأطفال من اكتشافه، كما أن قصص المجموعة على الرغم من إنها قد تبدو متشابهة للوهلة الأولى إلا إنها متنوعة في الشكل والمضمون، وإن كان هناك بعض القصص التي كانت تحتاج لحبكة أكثر واقعية.