كانت تُسمى فلسطين. صارت تٌسمى فلسطين
"نحن نقترب من فلسطين"، هكذا أخبرت إحدى أعضاء طاقم شركة "رايان إير" للطيران الركاب على متن الطائرة القادمة من مدينة بولونيا الإيطالية والتي كانت تستعد للهبوط في مطار "بن غوريون" بتل أبيب، كما نقلت صحيفة "أيرش ميرور" الإيرلندية، في تقرير لها.
ذلك خبر صادم لا بالنسبة للإسرائيليين حسب، بل وأيضا للأوروبيين الذين لا يروق لهم أن تبقى فلسطين ماثلة أمامهم أو في ذاكرتهم لا كقضية ولا كشبح قضية أو ظلها ولا حتى كحق قانوني يمكن العودة إليه في إطار حقوق الإنسان التي ترفعها أوروبا في وجه الآخرين حين تشعر بالحاجة إلى ذلك. فالفلسطيني وقد حُرم من حقه في الانتماء إلى أرض بعينها هي أرض أجداده ومستقرهم الحضاري غير مشمول بتلك الحقوق إلا إذا تجرد من هويته. وذلك ما لم تفعله أكثر من سبعين سنة من الشتات. ما فعله الفلسطينون كان معجزة حقيقية حين حفروا اسم فلسطين في الذاكرة البشرية متبعين أساليب كثيرة لم تكن المقاومة المسلحة إلا واحدا من تلك الأساليب.
"على هذه الأرض، سيدة الأرض/ كانت تُسمى فلسطين، صارت تُسمى فلسطين" يقول محمود درويش في قصيدته "هنالك ما يستحق الحياة" وهو على حق. كانت فلسطين تتجدد عبر السبعين سنة الماضية. هُزمت جيوش ونُكبت شعوب وانكسرت مشاعر واكتظت الأحاديث بالخيبات غير أن فلسطين لم تُهزم. لا أحد يجرؤ على التفكير في ضياعها فذلك أمر عبثي. الأوطان لا تضيع ما دامت هناك شعوب لا تجد معنى لحياتها إلا من خلال التفكير من خلالها. تعرض الفلسطينيون لأسوأ أنواع القسوة في التاريخ وتخلوا عن كل سبل الحياة من أجل أن لا يتخلوا عن حلم العودة.
أُريد لهم أن يكونوا هنودا حمرا جددا. أُريد لهم أن يتعايشوا مع نهار عدوهم باعتباره نهاية لفجرهم الذي لن يتمكنوا من استعادته وهم يقيمون خارج النظر العالمي فاخترعوا للعالم حواسا جديدة ليستعملها في قراءة أشعارهم والإنصات إلى أغانيهم وشم رائحة مطبخهم وتذوق غذائهم وتلمس الطريق التي تقود إلى فلسطينهم.
وبغض النظر عن السياسة وألاعيبها ومفردات ممثليها، من اتفاق أوسلو الذي أنتج المقاطعة التي سُجن فيها ياسر عرفات إلى سلطة إلى رام الله لتي يرأسها محمود عباس مرورا بحروب حماس التي خطفت غزة وصنعت منها سلة معونات إنسانية كان الفلسطينيون، مفكرين وعلماء وشعراء وأطباء ومهندسين وأكاديميين ورسامين وبشرا عاديين قد صنعوا فضاء يقيم فيه وطنهم. فضاء لن تتمكن منه الخرائط الاستعمارية.
قبل أكثر من عشرين سنة كنت أدرس اللغة السويدية. سألت المعلمة أحد الطلبة "من أين انت؟" وكان ذلك سؤال تقليديا. قال "من فلسطين" ضحكت المعلمة وفرشت خارطة وسألته بسخرية "أين تقع فلسطينك؟" لم يكن هناك ذكر لفلسطين على الخارطة. بقي ذلك الشخص في مكانه وهو يضع يده على صدره، حيث مكان القلب وقال لها "هنا". صفقنا يومها لذلك الفلسطيني الذي هزم ببساطة احساسه نظرية استعمارية أُريد لها أن تستبدل الحقيقة بالواقع. كانت فلسطين هي الحقيقة التي رأتها مضيفة طائرة رايان أير.
فلسطين ليست فكرة ولا هي حلم. هي أرض وبشر، وطن ومواطنون. ذات مرة اشتريت قنينة زيت زيتون من أحد الباعة في عمان غير أنني انتبهت إلى أن تاريخ انتهاء الصلاحية لم يكن مسجلا عليها. سألت البائع عن السبب. أخبرني بأن زيت الزينون الحقيقي لا تنتهي صلاحيته. قال"هذا الزيت قادم من فلسطين". من المستحيل أن تجد تاريخا لانتهاء صلاحية فلسطين. ارتكب الأوروبيون جريمتهم، من وعد بلفور إلى تسليم فلسطين إلى العصابات الصهيونية. عبر أكثر من سبعين سنة كانوا يدافعون عن تلك الجريمة من خلال صنع تاريخ مزور. كل ذلك لم ينفع. فلا فلسطين ولا أهلها يمكن أن يُختما بتاريخ مزور لإنتهاء الصلاحية.
لم يكن لقائي بسامية حلبي في نيويورك عابرا. منذ أكثر من أربعين سنة وتلك المرأة تقيم هناك. لا تقول لك شيئا عن فلسطين غير أنك منذ اللحظة الأولى للقائك بها تُدرك أن فلسطين لا تزال حية، بل أنها تزداد حياة كلما رسمت حلبي لوحة جديدة. الرسم وفلسطين هما الشيء نفسه. تلك الـ"فلسطين" صارت تقع في كل مكان يصل إليه الفلسطينيون وهي أيضا في قلوبهم يبشرون بها كما لو أنها عقيدة.
"نحن نقترب من فلسطين" تلك نبوءة قيلت باللغة الانكليزية في طائرة ايرلندية.