فيبر بيرين يرصد ويحلل تاريخ البشرية مع الألوان

كتاب 'الألوان والاستجابات البشرية' يتضمن ملاحظاتٍ واقعية وافتراضية مثيرة حول تأثيرات الألوان في الحياة، مدعومةً بإشارات مرجعية تاريخية، ومدعومة أيضا بأحدث البيانات العلمية، كما يستعرض الاستجابات البيولوجيةَ والبصرية والعاطفية والجمالية والنفسية لها.

يقدم فيبر بيرين أحد أبرز المتخصصين في مجال الألوان وخصائصها العلمية والتاريخية والفنية، والذي كرَّسَ 30عاما من حياته في إجراء أبحاثٍ عن الألوان والاستجابات البشرية، في كتابه "الألوان والاستجابات البشرية" ملاحظاتٍ واقعية وافتراضية مثيرة حول تأثيرات الألوان في الحياة، مدعومةً بإشارات مرجعية تاريخية، ومدعومة أيضا بأحدث البيانات العلمية. كما يستعرض الاستجابات البيولوجيةَ والبصرية والعاطفية والجمالية والنفسية للألوان، مشيرا إلى الاستخدامات الرمزية للألوان قديما، وكذلك إلى تطبيقاتها في البيئة المعاصرة. وتهدف توصياته حول الألوان المستحَب استخدامها في المنازل والمكاتب والمستشفيات والمدارس إلى تخفيف مظاهر التوتر والقلق في حياتنا المعاصرة.

يعلن بيرين في كتابه الذي ترجمته صفية مختار وراجعه محمد إبراهيم الجندي وصدر عن مؤسسة هنداوي، إلى أن معظم كتاباته (البالغة في مجملها 25 كتابا) تناولت الجانب الإنساني للون، وتأثيراته البيولوجية والثقافية القديمة والمعاصرة، وتطبيقاته العملية في الحياة المعاصرة، والأنماط الجديدة للتعبير بالألوان المستندة إلى دراسات استقصائية أُجريت مؤخرًا حول إدراك الألوان "سبَّب لي ذلك بعض الحزن بصفتي كاتبا في موضوع الألوان؛ إذ أصبح من الصعب تصنيف توجهي، ومن السهل انتقادي. في هذا الكتاب، مثلا، من الممكن أن يقول أحد الصوفيين إنني متشكك للغاية، وقد يتهمني أحد العقلانيين بأنني صوفي إلى حد كبير! هذا الأمر لا يزعجني. بصراحة، كثيرًا ما كان هدفي في كل الأعمال التي كتبتها عن الألوان تقريبًا مسلطًا نحو غاية واحدة؛ هي الناس. وإذا وجد بعض الأشخاص المنتمين لتوجهات معينة يتبنون وجهات نظر باطنية، وإذا كان غيرهم يريدون فقط أطروحات يمكن إثباتها على نحو كامل، فكلهم بشر على أي حال. إنني أحب الجميع، ومستعد تمامًا للاستماع لآرائهم، سواء وافقتهم الرأي أم اختلفت معهم".

يقول "حتى عصر النهضة تقريبًا، كان الإنسان يولي اهتماما للرمزية والغموض والسحر، وكان استخدامه للألوان يمليه عليه الصوفيون والفلاسفة والكهنة. لم يكن يطلق العِنان لخياله على الإطلاق. ميزت مستحضرات التجميل الأعراق البشرية بعضها عن بعض، وكانت الحُلي تتكون من تمائم ذات أغراض معينة، وكانت زخارف المقابر والمعابد تروي القصص، بل حتى الزخارف التجريدية كان لها معنًى مرتبط بالآلهة والحياة والموت والمطر والحصاد والانتصار في الحروب.أما الواضح والمميز، فهو أن لوحةَ الألوان التي استخدمها الإنسان القديم كانت بسيطة ومباشرة، ولا يكاد يوجد اختلاف في درجة اللون المستخدم في أي مكان في العالم القديم. تمثلت الألوان المستخدمة في الأحمر والذهبي والأصفر والأخضر والأزرق والأرجواني والأبيض والأسود. كانت علبة الألوان المصرية ـ التي توجد في المتاحف ـ مقسمة لثمانية ألوان، ونادرًا ما كانت تزيد عن ذلك. أما بالنسبة لألوان الإغريق، فقد يندهش القارئ من هذا القول المقتبس عن الرسام البريطاني البارز السير ويليام بيتشي (1753ـ 1839) تعليقا على الزخارف الإغريقية المتعددة الألوان؛ إذ يقول "نلاحظ أن الاستخدام المشار إليه ـ استخدام ألوان متشابهة في عناصر متشابهة في الزخرفة والنحت ـ لا يبدو نتيجة أي نزوة عارضة أو خيال طارئ، لكنه نتيجة نظام راسخ في العموم؛ لأن ألوان الأجزاء المتعددة لا تبدو متنوعة من ناحية المواد المستخدمة في أيٍّ من المثالين المعروفين بالنسبة لنا.. ويصعب أن نشك في أنهم خصصوا لونًا معينًا لتلوين كل جزء من الأجزاء المختلفة للمباني وفقًا للإجماع العام، أو تبعًا لأصول الحرفة المتفق عليها".

ويوضح بيرين"كان الإنسان البدائي يرى الكون في صورة عناصر، واستمرت تلك الفكرة حتى العصور الحديثة، وسأقتبس مرة أخرى من كتابات "الأوبانيشاد" الهندوسية تلك الإشارات المثيرة عن أهمية اللون الأحمر واللون الأبيض واللون الأسود؛ حيث تقول: "لكل الكائنات الحية يوجد حقًّا ثلاثة أصول فقط؛ فمنها منبثق من البيضة، ومنها منبثق من كائن حي، ومنها منبثق من جرثومة.. اللون الأحمر للنار المتأججة هو لون النار، واللون الأبيض للنار هو لون الماء، واللون الأسود للنار هو لون الأرض. وعلى هذا النحو يختفي ما نطلق عليه نارًا؛ إذ هي مجرد نوع، مجرد اسم ناشئ من الكلام، والأمر الحقيقي هو الألوان الثلاثة. اللون الأحمر للشمس هو لون النار، ولونها الأبيض هو لون الماء، ولونها الأسود هو لون الأرض. وعلى هذا النحو يختفي ما نطلق عليه الشمس؛ لأنها مجرد نوع، ولأنها مجرد اسم ناشئ من الكلام، والأمر الحقيقي هو الألوان الثلاثة. اللون الأحمر للقمر هو لون النار، ولونه الأبيض هو لون الماء، ولونه الأسود هو لون الأرض. وعلى هذا النحو يختفي ما نطلق عليه القمر؛ لأنه مجرد نوع، ولأنه مجرد اسم ناشئ من الكلام، والأمر الحقيقي هو الألوان الثلاثة. اللون الأحمر للبرق هو لون النار، ولونه الأبيض هو لون الماء، ولونه الأسود هو لون الأرض. وعلى هذا النحو يختفي ما نطلق عليه البرق؛ لأنه مجرد نوع، ولأنه مجرد اسم ناشئ من الكلام. الأمر الحقيقي هو الألوان الثلاثة.

ويتابع "أعلن عِليةُ القوم من المؤمنين ورجال الدين الكبار الذين عاشوا في الأزمنة السابقة وعلموا هذه الحقيقة الأمرَ نفسه قائلين: "من الآن فصاعدًا، لا يمكن لأي أحد أن يقول لنا أي شيء لم نسمع عنه أو ندركه أو نعلمه".

من خلال هذه الألوان الثلاثة علموا كل شيء؛ فكل ما اعتقدوا أنه يبدو أحمر علموا أنه لون النار، وكل ما اعتقدوا أنه يبدو أبيض علموا أنه لون الماء، وكل ما اعتقدوا أنه يبدو أسود علموا أنه لون الأرض، وكل ما اعتقدوا أنه غير معروف تمامًا علموا أنه خليط من تلك الثلاثة". وبالنسبة للإغريق القدماء كانت توجد أربعة عناصر، وما زالت تلك العناصر معترفًا بها من قِبل الصوفيين المعاصرين، واعترف بها ليوناردو دافينشي خلال عصر النهضة، وتمثلت تلك العناصر في الأرض والنار والماء والهواء.

 وقد قال أرسطو في كتاب "الألوان" (الذي ربما كتبه تلميذه ثيوفراستوس): "الألوان البسيطة هي الألوان الحقيقية للعناصر؛ أي ألوان النار والهواء والماء والأرض. الهواء والماء في حالة النقاء يكون لونهما الطبيعي هو الأبيض، والنار (والشمس) لونها أصفر، والأرض لونها الطبيعي أبيض، وبقية الدرجات اللونية المختلفة التي تكتسبها الأرض تكون ناتجة عن التلون بفعل الخضاب، كما نراه في حقيقة تحول الرماد إلى اللون الأبيض عند احتراق الرطوبة التي لونته. صحيح أن الرماد لا يتحول إلى الأبيض الناصع، لكن هذا يرجع إلى أنه يتلون من جديد، أثناء عملية الاحتراق، بفعل الدخان؛ ذلك الدخان أسود اللون.. والأسود هو اللون الحقيقي للعناصر أثناء عملية التحول. وقد يكون من السهل رؤية أن بقية الألوان تنشأ عن المزج، من خلال خلط هذه الألوان الأساسية".

ويلفتبيرين إلى أن وجهة النظر تلك ظلَّت مقبولة لقرون عديدة. أما الصينيون فقد اعترفوا بوجود خمسة عناصر هي: الأرض ذات اللون الأصفر، والنار ذات اللون الأحمر، والماء ذو اللون الأسود، والخشب ذو اللون الأخضر، والمعدن ذو اللون الأبيض، وحذفوا عنصر الهواء. وعلق تشارلز ألفريد سبيد ويليامز في كتابه "أطر الرمزية الصينية" قائلًا: "قام نظام الفلسفة الصينية بأكمله على هذه العناصر الخمسة، أو مكونات الطبيعة النشطة دائمًا". وفي القرن الأول الميلادي، ربط المؤرخ اليهودي يوسيفوس اللون الأبيض بالأرض، والأحمر بالنار، والأرجواني بالماء، والأصفر بالهواء. وبعد ذلك بخمسة عشر قرنًا، قال الرائع ليوناردو دافينشي في كتابه "دراسة عن الرسم":"أول الألوان البسيطة كلها هو اللون الأبيض، ورغم ذلك لن يعتبر الفلاسفة أن أيًّا من اللونين الأبيض أو الأسود يعتبر من الألوان؛ لأن اللون الأول هو المسبب أو المستقبِل للألوان، بينما اللون الآخر محروم من الألوان. لكن نظرًا لأن الرسامين لا يمكنهم الاستغناء عن أيٍّ منهما، فإننا سوف نضعهما بين الألوان الأخرى. ووفقًا لترتيب هذه الأمور، فسوف يأتي الأبيض في المرتبة الأولى، والأصفر في المرتبة الثانية، والأخضر في المرتبة الثالثة، والأزرق في المرتبة الرابعة، والأحمر في المرتبة الخامسة، والأسود في المرتبة السادسة. لنعتبر أن اللون الأبيض هو ممثل الضوء الذي من دونه لا يمكن رؤية أي لون من الألوان، وسنعتبر الأصفر لون الأرض، والأخضر لون الماء، والأزرق لون الهواء، والأحمر لون النار، والأسود لون الظلام التام".

فيما يتعلق بالاستجابة "العامة" للألوان، يرىبيرين أن من الطبيعي تمامًا بالنسبة للبشر أن يحبوا أي لون، وكذلك كل الألوان. إن الرفض، أو التشكيك، أو الإنكار الصريح للمحتوى العاطفي للألوان يشير إلى إنسان مضطرب، أو محبط، أو غير سعيد. أما الابتهاج غير المستحق بالألوان، فقد يكون علامة على التشوش العقلي، وعلى تقلُّب الرأي، وعلى أن الشخص ينتقل من خيال أو لهو إلى آخر، ويتسم بضعف التوجه والثقة بالنفس. ومن الحكمة الوضع في الاعتبار أن الألوان المفضلة قد تتغير عبر السنوات. وإذا اعترف الشخص بذلك، فقد يدل هذا بالفعل على أن شخصيته قد خضعت للتغيير. وهذا من المحتمل وجوده إلى حد كبير بين الأشخاص الانقباضيين مقارنةً بالأشخاص المنبسطين.

ويؤكد أنه يوجد فرق كبير بين الأشخاص المنبسطين، الذين يحبون الألوان الدافئة، والأشخاص الانقباضيين، الذين يحبون الألوان الباردة. واقتباسًا لكلام الدكتور ماريا ريكيرز-أوفزيانكينا: "أخيرًا، توصل ينش مرة أخرى، بمفرده تقريبًا، إلى الفرق نفسه (الذي توصل إليه رورشاخ) بين الأصفر المحمر والأخضر المزرق. لقد وجد أن كل الناس يمكن تصنيفهم بطريقة مشابهة إلى أشخاص مصابين بعمى الألوان الذي لا يميز الأحمر والأخضر؛ أي يمكن تصنيفهم إلى أشخاص أكثر حساسية للطرف الدافئ من الطيف، وإلى الأشخاص الأكثر حساسية للطرف البارد منه. ويتسم الأشخاص الذين تسيطر عليهم الألوان الدافئة بعلاقة حميمة مع العالم المدرَك بصريًّا؛ فهم منفتحون ومتقبلون للتأثيرات الخارجية، ويبدو أنهم ينخرطون بسهولة كبيرة في محيطهم الاجتماعي، وتتسم حياتهم العاطفية بالمشاعر الدافئة، وقابلية الإيحاء، والمشاعر القوية، وتتسم كل وظائفهم العقلية بالسرعة والتكامل الشديد بعضها مع بعض.

ويلاحظ بيرين أنه فيما يخص علاقة الفاعل والمفعول، فإن تركيزهم منصبٌّ على المفعول.أما الأشخاص الذين تسيطر عليهم الألوان الباردة في تجارب ينش، فلديهم توجه منعزل "منفصل" عن العالم الخارجي؛ فهم يجدون صعوبة في تكييف أنفسهم مع الظروف الجديدة والتعبير عن أنفسهم بحرية. أما على الصعيد العاطفي، فهم باردون ومتحفظون. وفي علاقة الفاعل والمفعول، فإن تركيزهم ينصب على الفاعل. باختصار، الأشخاص الذين تسيطر عليهم الألوان الدافئة هم من النوع المتكامل خارجيًّا في رأي ينش. أما الأشخاص الذين تسيطر عليهم الألوان الباردة، فيعتبرهم من النوع المتكامل داخليًّا.» ويوجد قدر كبير من الحقيقة في ذلك، وهو قدر كافٍ لاعتبار هذه الملاحظة "حقيقية". وكحقيقة إضافية، فإن الأشخاص أصحاب الشخصية المنفتحة والطبع المنفتح من المحتمل أن يفضلوا الألوان البسيطة. أما الأشخاص الأكثر تعقيدًا وتمييزًا فقد يعبرون عن خيارات لونية تتسم بقدر كبير من الفروق الصعبة التمييز.

يذكر أن الكتاب يحويرسومٍ وصورٍ فوتوغرافية، بالإضافة إلى فصلٍ كامل عن معنى تفضيلِ الشخص لِلَونٍ معين، وأنهيعد مرجعًا أساسيا للمهندسين المعماريين والمعلمين ومهندسي الديكور والمصمِمين الصناعيين.