خديجة طنانة تحلق خارج الفضاء المألوف

الفنانة التشكيلية المغربية إشكالية على نحو ما فهي لم تلد لتتنفس هواء ملوثاً بل تقاتل بلوحتها بريشتها وألوانها وهذا ما تملكه كي يبقى الهواء نظيفاً.

أن تعرض لوحة تشكيلية في معرض جماعي وفي متحف فني معاصر وفي هذا الزمن بالذات حيث باتت الكرة الأرضية قرية صغيرة فعلاً، بل لعبة يلهو بها كل من يدبدب عليها، وما يجري في الغرب يصل صداه للشرق بسرعة الضوء وأكثر والعكس صحيح، وحيث وسائل التواصل والعرض في أسرع حالاتها، من العرض على صفحات هذا التواصل إلى العرض في الغاليريات الإلكترونية إلى البث المباشر، تدعو لا إلى الحيرة بل إلى الجنون، أقول أن تعرض لوحة في هكذا ظروف ويتم منعها وسحبها لأسباب باتت من الضرورة تجاوزها وترك العنان للفنانين يعبرون عما يختلج دواخلهم بحرية، فالفنان هو الوحيد القادر أن يحمل وزر أعماله، فكل الرقابات باتت بالية فكيف إذا كانت هذه الرقابة بعقلية تنتمي إلى عصور ما قبل الميلاد، أتحدث هنا عن الفنانة التشكيلية المغربية خديجة طنانة وعملها "كاماسوترا" الذي فضح القائمين على الشأن الثقافي في المغرب، والذين على ما يبدو ما زالوا يحملون المقص ذاته الذي كان يستعمله أهل الكهف .

فمن بداية آذار ولمنتصف نيسان / 2018 وبالتعاون ما بين المعهد الثقافي الفرنسي والمعهد الثقافي الإسباني وبإشراف وزارة الثقافة المغربية وفي فضاء متحف الفن المعاصر بمدينة تطوان المغربية كنا على موعد لمعرض جماعي تشارك فيه خديجة طنانة بعمل يحمل عنوان "كاماسوترا 2× 2,75 م" المأخوذ من نص هندي قديم والمستوحاة من كتاب تراثي "الروض العاطر في نزهة الخاطر" لمؤلفه التونسي عمر بن محمد النفزاوي والذي كان قد ألفه عام 1218 هجري ويضم عمل طنانة 246  قطعة جاءت كل منها على شكل اليد أو الخميسة كما هو معروف باللهجة المغربية، رسمت على كل منها ما يجسد وضعية ما من تلك الوضعيات الجسدية /الجنسية التي يتداولها أهل الهند عبر حكايتهم التي حملت اللوحة اسمها والتي تطرق إليها النفزاوي أيضاً قبل أكثر من 1200 عاماً في كتابه المذكور، وتشكل كل تلك القطع لوحة كبيرة أيضاً على شكل اليد، لكن ما لم يكن في الحسبان أن يسحب عمل طنانة ويمنع من العرض تبعاً لمزاج الرقيب أو لفكر ظلامي مازال يتحكم في العباد، وأمام دهشة الفنانة واستغرابها من هكذا قرار، لم تجد إلا أن تكتب " كاماسوترا ممنوعة من العرض" وتعلقها في المكان ذاته حيث كانت لوحتها الممنوعة معلقة ومعروضة وتقوم بتكميم فمها ويديها وتجلس تحتها كخير تعبير عن الإدانة وبأنه لا إبداع دون حرية، وبأن كل رقابات الأنظمة لم تعد تجدي، فها هي لوحتها وأخبارها تعرض بكم هائل لا تحصى ولا تعد، على شبكات التواصل المختلفة وفي أقنية الإعلام الورقية والمرئية والالكترونية، ناطحة بكل الرقابات علّها تكون درساً تاريخياً ويقظة لعقولهم المتجمدة .

خديجة طنانة فنانة تشكيلية مغربية، إشكالية على نحو ما، فهي لم تلد لتتنفس هواء ملوثاً بل تقاتل بلوحتها، بريشتها وألوانها وهذا ما تملكه كي يبقى الهواء نظيفاً، فللفن كما تقول وهو كذلك طاقة قوية وسحرية على الفكر والأفكار، وربما هذا ما دعاها إلى تطليق السياسة والقانون حيث كانت أستاذة القانون والعلوم السياسية في جامعة فاس المغربية، وتختار العيش مع فرشاتها وألوانها، لتحجز لنفسها مكانة تليق بها في الوسط التشكيلي المغربي، فلا ترضى أن تكون رقماً في هذا الوسط بل فعّالة فيه بقوة، بثقتها الكبيرة بما تنتجه وتحليها بجرأة قل من يتحلى بها وخاصة من النساء.

فمنذ سنوات بعيدة قد تعود إلى بداية السبعينات من القرن الفائت حين بقيت وجوه الخادمات بشقائهن وتعبهن ترافق ذاكرتها التي لن تموت، بل ستبقى وقودها في كل تجربة قد تخوضها في مضمار الفن، أقول منذ ذلك الحين وفنانتنا طنانة تضع يدها على الجرح الذي لم يندمل بعد في الوسط الاجتماعي المغربي، الجرح الذي يرسم آفات كثيرة في حياة الإنسان، فحين أدركت طنانة وهي أكثر من تدرك أن مجتمعها بات مرتعاً لأخلاقيات سلبية كالتحرش والاغتصاب، وزواج القاصرات وبأن ذلك الجسد الذي خلقه الرب كأجمل إبداعاته، هناك من يعمل من نفسه إله أرضياً ووصياً عليه، وهو أول من يضعه في مزاد علني في سوق النخاسة، وجدت طنانة أن هذا الجسد يستحق أن تشتغل عليه وتمنحه كل تجربتها، فمن الخطوة الأولى يتضح لنا السقف الذي تتمتع به طنانة من الجرأة، هذه الجرأة التي وضعتها في حالة من الصدام الدائم مع الفكر المستورد من القرون الوسطى، سنكتفي بهذا الجزء كخبر مدان بكل التفاصيل على أن نعود إلى قراءة تجربتها الفنية لاحقاً.