بين الإرث والمستقبل: الحفاظ على الطابع الديمقراطي في الكويت

انقلاب العلاقة بين النائب والناخب من أهم أسباب تراجع السياسة في الكويت، حيث أصبح النائب هو المسيطر على القرارات بينما يخضع الناخبون لأولوياته.

شهدت الكويت بعد تحريرها عام 1991 فورةً ملحوظة في النشاط والحراك الشعبي، وذلك بفضل الدور المحوري لمؤتمر جدة الذي انعقد في أكتوبر من نفس العام. ضمّ المؤتمر نخبة من 1200 شخصية كويتية شاركت في صياغة أحد أهم الاحداث في تاريخ الكويت ربما تفوق أهميته حدث 1962 حينما تم إقرار الدستور.

شكل مؤتمر جدة منصة للحوار الوطني وتوحيد الصفوف خلف القيادة السياسية، والتأكيد على أنها الممثل الشرعي عن الشعب الكويتي، وتم الاتفاق حينها ايضا على اعادة العمل بالدستور المعطل عام 1986، وساهم المؤتمر في تعزيز اللحمة الوطنية أمام التحديات التي واجهتها البلاد في ذلك الوقت العصيب.

عززت مشاعر الانتصار التي حملها قادة الحراك بعودة البرلمان ثقة الشارع السياسي بمكانته وتأثيره على السياسات العامة في الدولة. وقد انعكس ذلك على تصاعد النشاط السياسي والثقافي، وتزايد حجم واعداد الندوات والمؤتمرات التخصصية.

ولم يكن نشاط المجتمع الكويتي وليد اللحظة، وانما هو ابن التراكمات التاريخية في المشاركة الشعبية والعمل السياسي والنقابي والنشاط الطلابي وثقافة الديوانية. وهو خلاصة جهود "نشرة البعثة" و"عالم الفكر" و"مجلة العربي" والبرامج الحوارية والصحافة الجريئة.

وتعد مجالس الامة التي تلت التحرير في الغالب افرازا طبيعيا لحركة ووعي الشارع السياسي، عندما كان نواب البرلمان يستجيبون بقدر المستطاع الى رؤية الشرائح السياسية والاجتماعية التي انتخبتهم، ويتبنون اولوياتها.

كان من المتوقع ان يتطور الوعي السياسي لدي الشارع عاما بعد عام، وهو ما سينعكس تلقائيا على تطور مخرجات مجلس الامة، ولكن ذلك لم يحدث، حيث شهدنا تراجعًا ملحوظًا في جودة اختيار النواب، وانخفاضًا في معايير الاختيار، ويهمنا هنا معرفة كيف حدث هذا؟

يمكن تفسير هذا التراجع من خلال اعتماد مفهوم "العزلة الخفية"، اذ تشير المعطيات إلى أن بعض النخب السياسية والاقتصادية فرضت سياسة العزلة بين البرلمان والرأي العام، خوفًا من تنامي الوعي السياسي لدى الشارع.

تمثل احد أهم خطوات هذه العزلة في تضخيم مكانة النائب بحيث يتحول الى قوة تضاهي قوة الحركة السياسية او الاجتماعية التي ينتمي لها وربما يتفوق عليها، ووسيلة ذلك تمكينه من توظيف الناخبين وتخليص معاملاتهم، والتدخل في توجيه مناقصات الدولة، وتوفير الفرص الاستثمارية، وتجاوز القوانين.

وقد أدت هذه السياسات الى انقلاب العلاقة بين النائب والناخب، حيث أصبح هو المسيطر على القرارات بينما يخضع الناخبون لأولوياته. ولم يكن تركيز الخدمات داخل البرلمان نابعًا من حرص عليه، وانما لاضعاف نشاط المجتمع فقط، ولتشتيت البرلمان عن مهامه التشريعية والرقابية.

هذا التضخيم جعل من البرلمان محورا رئيسيا في الذهنية العامة، واصبح الوصول له هدفا حتى لمن لا يمت للشأن السياسي بصلة. ويفسر ذلك سبب تدني مستوى المرشحين لمجلس الامة، وتدني مستوى الخطاب السياسي، وغلبة اصحاب الحناجر على أصحاب الافكار.

ويقدم أيضا تفسيراً معقولا لركود الحركة السياسية خارج البرلمان، وضعف المؤسسات، وغياب الفعاليات، وفشل مبادرات تصحيح مسار البرلمان خلال السنوات الأخيرة.

ولذا يأمل المهتمون أن تُشكّل المرحلة المقبلة فرصة للتأمل العميق في مستقبل البلاد، وإعادة الاعتبار للانشطة النهضوية، وتفعيل دور المجتمع المدني في تعزيز الديمقراطية، ايذانا بعودة الحياة السياسية الى طبيعتها في الاشهر المقبلة.