هل هو حقا تراجع تكتيكي؟
يتحدث المرشد الأعلى للدولة الايرانية علي خامنئي عن "التراجع التكتيكي" الضروري والمفيد أحيانا، وهو بذلك يشير للمواجهة بين "حلف المقاومة" وبين أعدائه المفترضين المعلن عنهم وفي مقدمتهم الولايات المتحدة "الشيطان الأكبر" واسرائيل.
لكن الرئيس الايراني مسعود بزشكيان يتحدث عن "الأخوة" بين الولايات المتحدة وإيران، وأنه لا شيء يمنع فتح صفحة جديدة من العلاقة بين الطرفين. وتلك ليست مسألة تكتيكية على الإطلاق، بل يمكن القول إنها تمثل بداية تحول استراتيجي نحو السعي للتفاهم مع الغرب بدلا عن سياسة المجابهة. فالشيطان الأكبر لا يمكن أن يصبح أخا في التكتيك، وفتح صفحة جديدة في العلاقات المأزومة بين الغرب وإيران لا يمكن أيضا أن يكون تكتيكا. والتفسير الأقرب للمنطق أن إيران وصلت في مناورتها الاستراتيجية مع الغرب والتي تهدف في النهاية للاعتراف بها كدولة اقليمية عظمى تمتلك حق أن يتعامل معها الغرب كشريك إلى نهايتها. بالتالي فقد حان وقت الحصاد، ومن أجل الحصاد لابد من الذهاب لطاولة المفاوضات، فالثمار لا يمكن جنيها في الحقول، بل في الغرف المغلقة، ومن خلال الكلمات المنمقة وليس صرخات مثل "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل". وإضاعة الوقت بينما الثمار قد نضجت يعني المخاطرة بخسارة تلك الثمار وسقوطها نحو الأرض.
ربما أيقظ إحساس قادة الجمهورية الاسلامية الايرانية بضرورة تغيير الاستراتيجية وليس التكتيك أن مخاطر فقدان ما جمعته ايران من أوراق للتفاوض على الطاولة بدا وكأنه مهدد في الفترة الأخيرة، فسمعتها العسكرية قد أصابها الضرر بعد فشلها في الرد المناسب على قتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي في الغارة على السفارة الايرانية بدمشق في الأول من نيسان/ابريل 2024، ثم فشلها في الرد على اغتيال قائد حماس اسماعيل هنية في قلب طهران وتحت حماية الحرس الثوري، ثم فشلها في تقديم الدعم لحماس التي اعتبرتها طهران جزءا من حلف المقاومة، وفشلها اليوم في دعم أهم حلفائها في المنطقة وأعني به "حزب الله" بينما يتعرض لأخطر موقف عسكري واجهه منذ أن أقامته ايران في لبنان.
ولابد أن نضيف مقتل الرئيس السابق ابراهيم رئيسي في حادثة سقوط أو اسقاط طائرته بالقرب من اذربيجان، هذا الحادث الذي سلط الضوء على هشاشة لم تكن منظورة أو متوقعة للدولة الايرانية سواء لجهة وسائل تنقل أعلى قيادات الدولة وتأمين السلامة والحماية لتلك القيادات أو لجهة الفشل في تحديد موقع الطائرة لفترة طويلة استدعت تدخل تركيا للمساعدة.
وعلى إثر ذلك الحادث الكارثي كتبت جريدة الفاينانشال تايمز البريطانية في 20 أيار/مايو 2024 واصفة الحادث بالضربة الموجعة للنظام الايراني ومرشده الأعلى علي خامنئي.
وعلى الصعيد السياسي، لم تتمكن إيران خلال فترة رئاسة بايدن الديمقراطي من فك العزلة والانتهاء من العقوبات التي اقامها سلفه الرئيس ترامب، ومجرد احتمال فوز ترامب مرة ثانية برئاسة الولايات المتحدة أصبح يشكل بالنسبة لها كابوسا حقيقيا.
وعلى الصعيد الداخلي لا يمكن تجاهل فشل التيار المتشدد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وذلك ليس سوى أحد المؤشرات المتعددة للحالة التي وصل إليها المجتمع الايراني في تطلعه نحو تغيير جوهري للسياسات التي سار عليها المرشد علي خامنئي خلال مدة حكمه الطويلة منذ العام 1989.
واليوم فإن احتمال فقدان حزب الله قوته العسكرية سيحمل معه تداعيات خطيرة على النفوذ الايراني ليس في لبنان وحده، ولكن في المشرق العربي بكامله بعد أن وصل ذلك النفوذ إلى مأزقه التاريخي في فشله بإيجاد أرضية مستقرة لتقبل شعوب المنطقة العربية له بعد أن تم استهلاك أدواته الطائفية المتخلفة الخارجة عن العصر.
ومجمل ما سبق يلقي الضوء على كون التراجع الذي أوصى به علي خامنئي يمثل نقطة تحول في السياسة الايرانية قابلة للاندفاع نحو الأمام أكثر من قابليتها للانتكاس نحو الوراء.
أي أنه تراجع استراتيجي وليس تراجعا تكتيكا، ولابد أن خامنئي يعرف ذلك في قرارة نفسه لكنه لا يريد أن يظهر كما ظهر سلفه الخميني حين وافق على إنهاء الحرب مع العراق وقال قولته المشهورة إنه يوقع على قرار وقف إطلاق النار كما لو أنه يشرب السم.
ويمكن للمرء تقدير أن عقل المرشد الأعلى خامنئي لا يتقبل فكرة التراجع لكنه يعزي نفسه ويوهم شعبه أن التراجع هو مجرد تكتيك.