إنخيدوانا أول شاعرة في التاريخ
تبقى الحضارة السومرية هي مهد حضارات العالم أجمع، وهو أمر يكاد يتفق عليه الجميع، فقد شهدت هذه الحضارة بزوغ الإختراعات الكبرى التي مهّدت لعالم حداثي النزعة يتطوّر شيئاً فشيئاً للخروج من الظلام الى النور، ويحقق الطفرات الإبداعية.
من رحم هذه الحضارة التي وجدت جنوب العراق قبل أكثر من سبعة آلاف عام، وتحديداً في مدينتي أور وأريدو القائمتين اليوم في محافظة ذي قار (الناصرية) ولدت الكلمة الأولى والحرف الأول (الكتابة السومرية) والآلة الموسيقية الأولى (قيثارة شبعاد) والملحمة الأولى (ملحمة جلجامش) ومن ثم تحديد الريادة الشعرية في العالم كله والتي يتفق عليها كثير من علماء التاريخ الذين أكدوا بأن إنخيدوانا هي أول شاعرة في التاريخ، وهي شاعرة سومر كما وصفت في عديد المقالات التاريخية والأدبية التي كتبها وشهد بها أدباء من دول عالمية عدة.
مؤخراً صدر عن دار ومكتبة عدنان بالتعاون مع جمعية المترجمين العراقيين كتاب بعنوان "إنخيدوانا شاعرة سومر" وهو إصدار يأتي ضمن سلسلة المئة كتاب مترجم، ويضم الكتاب الذي جاء بأكثر من مئة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط سبعة مقالات طويلة لكتاب أجانب ومختارات من نصوصها، فضلاً عن مقدمة وخاتمة كتبها مترجم الكتاب الدكتور قاسم محمد الأسدي.
في مقدمة الكتاب يقول المترجم ما نصّه "من الواضح أن سرجون وضع ثقة هائلة بإنخيدوانا ورفعها الى منصب الكاهنة العليا لأهم معبد في سومر (في مدينة أور)وترك لها مسؤولية دمج الآلهة السومرية مع الأكدية لخلق الاستقرار اللازم لازدهار إمبراطوريته، علاوة على ذلك يعود الفضل لإنخيدوانا في إنشاء نماذج من الشعر والمزامير والصلوات المستخدمة في جميع أنحاء العالم القديم، والتي أدت الى تطوّر الأنواع المعترف بها في الوقت الحاضر".
في المقال الأول الذي لا يحمل إسماً لكاتب معين، وربما كتبه المترجم نفسه نعيش سياحة تاريخية في عوالم الشاعرة السومرية إنخيدوانا حيث نتعرف عليها عن قرب عبر سيرة جميلة لها ولبعض منجزها حيث يرد في هذا المقال ما نصّه "يترجم إسم أنخيدوانا الى "كاهنة السماء العليا" "إله السماء" أو زوجة الإله نانا، وقد جاءت من مدينة أكد الشمالية، بحسب الباحث كريفانشينك، "كان يمكن أن يكون لها إسم ولادة سامي لكن عند الإنتقال الى أور، معقل الثقافة السومرية، فحصلت على لقب رسمي سومري وهو إنخيدوانا".
وفي المقال ذاته يورد الكاتب حكاية طرد إنخيدوانا من المعبد وإعفائها من منصبها حيث يرد ما نصه "في قصيدتها "تمجيد إينانا" تروي قصة طردها من منصبها ككاهنة كبيرة وإجبارها على النفي، فكتب نداء لطلب المساعدة من الإلهة إنانا في تقديم إلتماس الى الإله آن طلباً للمساعدة:
تم إحضار القرابين الجنائزية،
كما لو أنني لم أعش هناك.
اقتربت من النور لكن النور أحرقني
اقتربت من الظل، لكنني كنت مغطاة بعاصفة
أصبح فمي المعسول مخادعاً
هلّا أخبرتي الإله آن عن لوغال آتي
وعن مصيري .!!
فلربما سيبطل الإله آن كيد لوغال آتي،
حالما تخبريه عن الأمر العضال،
وسيعمل على تحريري.
ويبدو أن إنانا سمعت صلاتها، ومن خلال الشفاعة الإلهية، أعيدت إنخيدوانا أخيراً الى مكانها الصحيح في المعبد".
في هذا المقال سنتعرف على المنجز الشعري الكبير لهذه الشاعرة السومرية، وهو حتماً ليس المنجز الكامل فالإكتشافات الأثرية لم تنته بعد وبالتالي قد نجد منجزاً جديداً، وهنا سنتعرف على بعض المنجزات:
- ني مي سر را وتعني "تمجيد إنانا" وتتألف من 153 سطر.
- إن نن سا غور را مكونة من 274 سطر وتعني "العاشقة كبيرة القلب.
- إن نن مي هوس آ وتعني "إلهة القوى المخفية"
بالإضافة الى عملين: تراتيل المعبد وترتيلة لإنانا.
المقال الثاني في الكتاب يحمل عنوان "في البدء كانت إنخيدوانا السومرية" والذي كتبه الباحث ميشيل بارتيل كراتس وفيه يتوغل هذا الكاتب في حياة الشاعرة السومرية ويلتقط لنا عبر توثيق صوري كثير من أشعار واشتغالات أخيدوانا، متوقفاً عند حياتها وبعض نصوصها الموثقة على أحجار ورقم طينية حيث يقول "اخترع السومريون أول نص مكتوب في التأريخ وطوّروهفي النصف الجنوبي من العراق الحالي، وقد استخدمت إنخيدوانا هذا النص، المعروف باسم المسمارية، لكتابة أول نصوص أدبية معروفة في التاريخ، كما أنها علّمت نساء أخريات في المعبد كيفية الكتابة".
ويعترف صاحب المقال بأهمية منجز إنخيدوانا الأدبي، ويؤكد على أنها كانت الملهمة الأولى لكل من كتب الشعر والمزامير والترانيم في الحضارات العالمية الأخرى حيث يقول "لقد أقرّ التأريخ بأهمية إنخيدوانا الأدبية ووفقاً للباحث بول كريفانشيك، بقيت مؤلفاتها، على الرغم من إعادة إكتشافها فقط في العصر الحديث، على أنها نموذج لصلاة التضرّع والتوسّل لعدة قرون، وعن طريق البابليين، أثّروا وألهموا صلوات ومزامير الكتاب المقدّس العبري وترانيم هوميروس في اليونان، ومن خلالهم يمكن سماع أصداء إنخيدوانا الخافتة،وهي أول كاتب أدبي سجّله التأريخ، ويمكن سماع صداها حتر في تراتيل الكنيسة المسيحية المبكرة".
المقال الثالث في هذا الكتاب جاء بعنوان (إنخيدوانا – أول شاعرة ومؤلفة في التاريخ) وقد كتبه الباحث سيرجي ماركوف ومقدمة هذا المقال وحدها تشي بحبّ كبير يحمله للشاعر السومرية إنخيدوانا، فمن ضمن الإقتباسات نجد ما نصّه "سيدتي، سأعلن عظمتك وجدك في كل الأراضي! في طريقك وأعمالك العظيمة، سأظل أمتدحك دائماً!، أنا ملك لك! ودائماً سأكون هكذا! عسى أن يحنّ قلبك عليّ".
المقال يسير على خطى من سبقه، في البحث والتقصي عن تاريخ ومنجز الشاعرة حيث يتفق مع كثير ممن كتبوا قبله أو بعده، ولكنه أيضاً يجيء لنا بجديد يحتاجه الباحث عن أسرار إنخيدوانا، فهو يدلنا علي شيء مهم جداً وهو أن إنخيدوانا ليست سوى إبنة الملك سرجون وعمّة الملك نارام سين حيث يورد ما نصّه "كانت إنخيدوانا إبنة الملك سرجون الأكدي، أول حاكم يوحد شمال وجنوب بلاد الرافدين، ويزعم سرجون أنه إبن كاهنة، وكانت والدتها الملكة (تاشلولتوم) أيضاً سومرية من جنوب بلاد ما بين النهرين".
وعن شقيقها يرد ما يلي "كانت قادرة على إلهام الناس للقتال ضد الملك المتمرد وحققت تسعة إنتصارات في تسع معارك، وقد ساعد ذلك إبن أخيها نارام سين الذي كان آنذاك ملكاً، بتوحيد سومر وأكد ذلك بنجاح ولعدة سنوات".
رابع المقالات التي وردت في هذا الكتاب جاء تحت عنوان "إنخيدوانا إبنة الملك سرجون الأميرة والشاعرة والكاهنة"، وهو مقال رائع بغض النظر عن تكرار بعض المعلومات التي وردت في مقالات سابقة لكن هناك كثير من الإضافات التي أوردتها صاحبة المقال جانيت روبرتس وهو مقال نقدي أكثر من كونه تاريخي، حيث تلتقط الكاتبة إشتغالاً جديداً يخص السياسة، حيث تؤكد الكاتبة على أن أنخيدوانا إشتغلت في السياسة وقد سيست كتاباتها لصالح الإمبراطورية حيث تقول الكاتبة "تعتبر إنخيدوانا هي أول كاتبة يتم تسييس قصائدها بشكل كبير لتعكس غضبها عند سقوط قيادة والدها للإمبراطورية، و تنقل الأبيات الشعرية المشحونة للغاية – وهي أبيات شعرية حسّية وحميمية وشخصية للغاية".
المقال الخامس والذي كتبه جيروم روتنبرغ كان بعنوان "تراتيل المعبد السومري السبعة" كان غنياً بالمقاطع الشعرية والترانيم الدينية التي كتبتها إنخيدوانا، كما كانت هناك إضاءات كثيرة وماهو أقرب للقراءة النقدية، حيث يؤكد الكاتب على القدرة التصويرية للشاعرة، حيث يرسم لتلك التراتيل مداخل عدة بعد أن يقسمها الى سبعة ترانيم، ووما ورد في هذا المقال ما نصّه "قامت الشاعرة بكتابة كل ترنيمة الى المعبد نفسه، كما لو كان كائناً حياً يتمتع بالقوة والتأثير على شاغله الإلهي، وفي معظم التراتيل تكتب الى الإله راعي المدينة، وتخاطب إنخيدوانا المعبد بصيغة الشخص الثاني".
ويورد الكاتب في المقال ذاته نموذجاً من نصوص إنخيدوانا جاء فيه :
يا منزل كيش!
طابوقك المعطاء الولّاد
برج معبدك يزينه تاج لازوردي
أميرتك،
أميرة الصمت
وسيدة السماء العظيمة التي لا تسقط
عندما تتكلم تهتزّ السماء وتزأر فاتحة فاها.
المقال السادس جاء بعنوان "الحركة النسوية في التاريخ" وهو للكاتب مايكل آر بورش وهو مقال فيه استعراض جديد لحياة السومريين والأكديين بعد إندماج حضارتيهما، كما يركز المقال على مواهب أخرى تمتلكها هذه الأميرة الشاعر واصفاً ما تقوم به بأنه كان منطلقاً للحركة النسوية التي تشارك في الحكم والإدارة، كما ترد في هذا المقال بعض الإضاءات للنجاحات التي تحققها المرأة السومرية آنذاك حيث يقول "أرى في إنخيدوانا مديرة مماثلة، والتي على الرغم من موقعها المتميز كأميرة كبيرة للناس، سيتعين عليها أن تعمل بجدّ مضاعف أكثر من الرجل، لإثبات أن ثقة والدها في قدرتها لم تكن في غير محلها".
ثم يقول "ربما كانت إنخيدوانا رائدة النسوية، أو على الأقل أول نسوية نعرفها بالإسم".
في المقال السابع والذي كتبته روبرتا بينكلي تحت عنوان "كتابات إنخيدوانا: سيرتها ودراسة نقدية لكتاباتها الرئيسية" ومن العنوان نعرف أن محتوى المقال يتصل بباقي المقالات من حيث التوغل في سيرة هذه الشاعرة، ثم يبدأ بتحليل النصوص التي كتبتها نقدياً، بل نرى الكاتبة أو الناقدة تفكك تلك النصوص نقدياً، وتقف عند كثير من الكتابات لتعطينا رأيها النقدي كما جاء في هذا المقطع "في تمجيد إنانا، هناك حضور لافت للمؤلف لا مثيل له في الإبداع الأدبي القديم حتى وقت سافو- إنها حاضرة بوعي ذاتي في عملية الكتابة وفي القصيدة. إن الاستخدام المزدوج للضمير "أنا" حاضر دائماً في مركز الترنيمة. وتصبح الترنيمة تكويناً خطابياً من التعقيد العاطفي، وهو الموت والولادة والدمار والخلق .. تلك الأشياء التي تشغل أعمق جزء من النفس".
كما تضمن الكتاب مجموعة من النصوص التي كتبتها شاعرة سومر إنخيدوانا وسنختار منها هذا النص الذي جاء فيه :
أنا إنخيدوانا، أصلّي إليك إنانا
إليك يا إنانا المقدّسة
سأنزل دموعي كشراب حلو
وسأخبرها عن قرارك
لا تقلقي حول اشيمبابار
وفيما يتعلّق بطقوس التطهير للإله آن المقدّس
لوغال آن هو من غيّر ودنّس
وهو لوغال من جرّد آن من الكهنوت المقدّس
فلم يرتعب ولم يخف من الإله الأعظم
وفي الكتاب نجد ملحقاً بأهم عشرة آلهة سومرية وهم نامو وآن وكي وغولا وإيريشكيغال وأوتو ونانا وإنكي وإنليل وإنانا.