عربية المصلي الغريبي باحثة تونسية تراوح بين الإبداع التشكيلي والتدريس

الفنانة التشكيلية ستناقش أطروحة دكتوراه عن 'تونس' من خلال الرسوم المائية لشارل للمان في اختصاص علوم التراث.

الفنانة التشكيلية والباحثة عربية المصلي الغريبي تواصل تجربتها بين الإبداع الفني التشكيلي والتدريس بالجامعة والبحث الأكاديمي وقد قدمت عددا من المشاركات الفنية التشكيلية، فضلا عن الاسهانات الثقافية في فعاليات بتونس وخارجها، حيث أقامت بباريس لفترة في مجال تخصصها الأكاديمي ومقتضيات بحثها الذي دام لسنوات والذي تتوجه هذه الأيام بمناقشة أطروحة دكتوراه بعنوان "تونس" من خلال الرسوم المائية لشارل للمان في اختصاص علوم التراث (تاريخ– تراث – آثار)، بإشراف الدكتور الهادي جلاب، وذلك يوم الثلاثاء الموافق لـ28 يناير/كانون الثاني 2025 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.

ويكون شارل للمان Charles Lallemand (1826-1904) موضوع الأطروحة ومن خلال رسومه المائية .. ومن ضمن البحث المقدم لنيل الدكتوراه ما يلي "في أواخر القرن التاسع عشر كانت بلدان المغرب العربي موضوعا للرسم والتصوير من قبل العديد من الرحالة والرسامين المستشرقين ومنهم المستشرق الفرنسي شارل للمان الذي اهتم بالتراث المشرقي والمغاربي فكانت رسومه المائية سنة (1890-1892) مستوحاة من تراث تونس حيث رسم لنا المدن والمعمار من (أسوار وأبواب....) كما وثق اللَّباس والحياة اليومية والعادات والتقاليد ومعالمنا التاريخية، فكانت بذلك رحلة مصَّورة لعناصر التراث التونسي فترة الاستعمار ورؤية جمالية رغم نقائها وثغراتها وغاياتها غير بريئة"!..

الفن فسحة وجدان وعنوان تواصل وكشف واكتشاف.. كانت أعمال بول كلي في رحلته التونسية عنوانا بارزا للقول بالخصوصية التونسية في الألوان والظلال والأنوار.. بقيت رسوماته من بدايات القرن الماضي إلى يومنا هذا ماثلة أمام الفنانين والنقاد ونشطاء الفنون الجميلة .. هكذا رأى كلي صورتنا وملامح حياتنا وتفاصيلها... وغيره كثر .. الرحالة والفنانون الذين كانوا بيننا عبر التاريخ تركوا شيئا من انعكاس الحالة التونسية على كتاباتهم وتلويناتهم وهنا نذكر لوحات وأعمال شارل للمان الفنية والتشكيلية التي رأى من خلالها تفاصيل تونس من مشاهد وتراث وعادات ومختلف مظاهر الحياة اليومية.. وهو مستشرق رحّالة، خلّف لنا خلال رحلته إلى تونس سنة (1880- 1895) عددا هامّا من الرّسوم المائيّة، ارتبطت بتراثنا المادي واللامادي وثقافتنا التونسية خلال القرن التاسع عشر..

الباحثة والفنانة التشكيلية التونسية عربية المصلي الغريبي اهتمت بهذا المجال في إعداد أطروحة الدّكتوراه وهي حاصلة على ماجستير في جماليّات وممارسات الفنون المرئيّة في اختصاص فنون تشكيليّة بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة بملاحظة حسن بعنوان "النصوص التقديميّة للمعارض الفنّية وواقع الممارسة التشكيليّة: نصوص النّاصر بن الشيخ والحبيب بيدة نموذجا". خبيرة تكنولوجية تدرس بجامعة القيروان بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقيروان. أقامت عددا من المعارض منها معرض شخصي بعنوان "نافذة تشكيليّة للتراث التونسي من خلال أعمال شارل للّمان" بالمدرسة السليمانيّة بتونس ومعرض جماعي بعنوان "تنويعات" وذلك بفضاء حضرموت بالمسرح البلدي بسوسة والمشاركة في معرض جماعي للفنون التشكيليّة بالمتحف الأثري بسوسة ومعرض جماعي تحت عنوان "تجلّيات" بالمتحف الأثري بسوسة. ومعرض جماعي تحت عنوان "رؤى تشكيليّة" بالمركز الثقافي الجامعي يحي بن عمر بسوسة، إلى جانب المشاركة في ندوات من خلال محاضرات ومداخلات علمية منها مداخلة بعنوان "التراث التونسي: من خلال رسوم المستشرقين .. شارل للّمان نموذجا" بفضاء المدرسة  السليمانيّة من تنظيم المعهد العالي لمهن التراث بتونس بمناسبة الاحتفال بشهر التراث ضمن محور عام هو التراث بين المحافظة والتّثمين.

وفي هذا السياق، تقول الفنانة والباحثة عربية المصلي عن معرضها بعنوان "نافذة تشكيليّة للتراث التونسي من خلال أعمال شارل للّمان" وبخصوص سؤالنا لها عن منطلق المعرض، "هو معرض تشكيلي شخصي، أقيم بفضاء المدرسة السليمانيّة بتونس بمناسبة الاحتفال بشهر التراث مستوحى من بعض أعمال الفنّان الفرنسي شارل للّمان (Charles Lallemand). ولعلّ اختياري البحث في هذه الرّسوم المائيّة، كان ضمن وعي منّي كباحثة تشكيليّة بصدد إعداد أطروحة الدكتوراه في مجال التراث، أنّه من الضروريّ اليوم العودة والرّجوع للاشتغال على التّراث التونسي وعلى التّاريخ لأنّ لدينا تاريخا ثريّا يستحقّ الدّراسة والتّحليل، فالفنّان التّشكيلي مطالب اليوم بالبحث في ميدان التراث إلى جانب المؤرّخ حتّى يتمّ  التعاون بين الاختصاصين (التّراث والفنّ)، فرؤية الفنّان للتراث من شأنها أن تجدّد التراث وتعيد إنتاجه من جديد، فيصبح لدينا تراث خاصّ بنا وبالفترة التي نعيشها حاليّا، على أنقاض التراث الذي خلّفه لنا الأسلاف والأجداد، تراث مساير للتطوّر التكنولوجي الحاصل على مستوى الصّورة في العالم..".

وبخصوص محتوى المعرض تضيف "يحتوي المعرض على مجموعة من اللّوحات اتّخذت نفس الأبعاد (50 سم X 40 سم) على محمل (قماشة)، تنوّعت فيها المادّة المستعملة بين مادّة الأكريليك والرّسم الزّيتي وتقنيات مزدوجة، سعيت من خلال اللوحات المعروضة إلى استحضار بعض صور من ذاكرتنا الجماعيّة، صور غائبة (من الماضي)، صور من تراثنا التونسي، فالاستحضار كفعل تشكيلي، تمّ أولا على مستوى استحضار المكان، لما له من ارتباط وثيق بالانتماء والهويّة، حيث رسمت أماكن مختلفة، لها هويّتها، تحيلنا على آثارنا المادّية، مثلا أبواب مدينة تونس مثل 'باب البحر' و'باب الخضراء'، فهذه المعالم الدفاعيّة لها هويّتها في المكان، وتذكّرنا بتاريخنا التونسي خلال القرن التاسع عشر، فهي مآثر مادّية شاهدة على معمارنا التّقليدي وثقافتنا المحلّية (مثل فنّ الزّخرف، الخطّ العربي، فنّ البناء، الأقواس)... وكذلك استحضرت من خلال اللوحات المعروضة المدينة القديمة التي تمثّل موروثنا عن الأجيال السّالفة بتصميمها القديم مع استحضار للمجتمع التونسي آنذاك. كما تمّ استحضار اللّباس التقليدي النّسائي والرّجالي، الذي يخصّ مدينة تونس فللّباس أهمّية كبيرة في إلقاء الضّوء على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة للشّعوب، مثل رسم الجبّة والكبّوس، البرقع، العمامة ... ثانيا: استحضار على مستوى الزمن والتّاريخ، فهذه الصور من الذّاكرة نافذة على فترة زمنيّة معيّنة ومحدّدة يعني خلال القرن التاسع عشر.. ثالثا: استحضار على مستوى الموادّ: سعيت من خلال ممارستي التشكيليّة إلى توظيف موادّ لها علاقة بالمكان مثل التّراب، من خلال تنقّلي إلى نفس المكان الأصل، فإدخال لعنصر جاهز مثل 'التّراب' أكسب اللوحة ثراء ماديّا على مستوى الصورة نفسها دالّة على آثار وقدم هذه الأماكن، معتمدة في ذلك على تقنية التلصيق (Collage) ونلاحظ ذلك في لوحة 'باب البحر' و'باب الخضراء'. كما استحضرت صورا من المعالم الدينيّة مثل 'جامع صاحب الطابع' و'جامع القصبة'، فهي معالم لها اسمها وهويّتها التونسيّة، تحيط بنا في ذاكرتنا الجماعيّة وتشدّنا إلى الماضي وإلى مجتمعنا التونسي الذي قوامه الدّين الإسلامي".

وتتابع "كما سعيت من خلال بحثي التشكيلي على فتح فضاء اللوحة، ثمّ إعادة تغريسها كما نشاهد ذلك في لوحة 'جامع القصبة'، وعلى مستوى الأبواب وذلك لغرس هذه الذّاكرة في ذهن المتلقّي، فهذه الصورة تمثل معمارنا التونسي خلال القرن التاسع عشر وفي ذلك ترميم للحظة التاريخيّة وللصورة من شأنها سرد واقع تاريخي معاش في القرن التاسع عشر، فهي بمثابة ذكرى تتعلّق بماضي بعيد، فبهذه الطريقة تبدو أعمالي دالّة على الذاكرة الجماعيّة التي تمثّل هويّتنا التونسيّة. ومن خلال استحضاري لصورة 'جامع صاحب الطابع' سعيت إلى توظيف خيط سميك من النسيج، على مستوى الأعلى للوحة، معتمدة في ذلك تقنية التلصيق (Collage)، فهذا المعلم الدّيني الذي يوجد في نسيج الذاكرة ونسيج المدينة العتيقة تمثّلته تشكيليّا من خلال حضوره في الصّورة ومن خلال فعل الشدّ وحركته التي يتطلّب قوّة مادّية من الشدّ على هذا المعلم والحفاظ على صورته المادّية. واستحضرت صورة 'المدرسة السليمانيّة' من خلال استعمال الخطوط المتشابكة المتداخلة في بناء فضاء اللّوحة، وفي ذلك إحالة على عمليّة الاستحضار لهذه المدرسة، خطوط انسيابيّة على شكل حلزوني دالّة على فعل التذكّر، تمثّل نسيج ذاكرتنا، فهذه الخيوط هي نسيج من الذاكرة. وقد وظّفت في هذه اللّوحة تقنية التلصيق (Collage) وذلك للمحافظة على هذا المعلم من الاندثار. في لوحة 'تربة البايات' سعيت إلى استحضار تربة البايات بهندستها ومعمارها القديم برؤية تشكيليّة تأويليّة للصّورة المادّية مع توظيف التقنية المزدوجة. كما كانت حاضرة في ذاكرتي صورة 'مدخل حمام القشاشين' بالمدينة العتيقة بتونس، وذلك للدّلالة على أهمّية الحمّام في المجتمع الشرقي وبيان جملة عناصره الزخرفيّة آنذاك خلال القرن التاسع عشر مستعملة تقنية الرسم الزيتي. كما سعيت خلال معالجتي للّوحة إلى التنقّل من الرسم إلى التأويل الفوتوغرافي موظّفة بعض أجزاء من الصور الفوتوغرافيّة التي قمت بها خلال البحث الميداني لهذه الأماكن تمثّل صورا من (الواقع الحالي)، وفي ذلك سعي إلى تغييب الصورة الأولى وهي صورة الماضي لبناء صورة  الحاضر..".

وعن مستوى الألوان، تقول "استعملت الألوان الأوّلية مثل اللّون الأحمر، الأزرق، الأصفر لتحقيق التباينات فيما بينها، لتعكس وظيفتها التعبيريّة والجماليّة ألوان تؤثّر فينا بفعل الزّمن ومرور التاريخ.. كما خصّصت بقيّة اللّوحات المعروضة لاستحضار صور من بعض اللّباس التّقليدي التونسي النسائي والرّجالي خلال القرن التاسع عشر مثل العجار، فهو لباس تقليدي قديم يجهله شبابنا الآن واللّباس الجربي. كما استحضرت لباس المرأة الريفيّة واللّباس الرجالي مثل البرنس موظّفة في تلك اللّوحات تقنية مزدوجة...".

وعن مضمون المعرض ودلالاته التشكيليّة، تقول "سعيت من خلال هذا المعرض التشكيلي لاستحضار صور دالّة على ذاكرتنا الجماعيّة وثقافتنا التونسيّة اعتمادا على استحضار صور غائبة (من الماضي) في زمن وتاريخ معيّن (خلال القرن التاسع عشر) وفق رؤية تشكيليّة تأويليّة للصورة، حيث تعاملت مع الصورة الأولى (صورة الماضي) بطريقة تسعى إلى تغييب الواقع وزواله قصد انسحابها لإنتاج صور أخرى من الذاكرة تقوم على الحاضر وفي ذلك طرح لمفهوم الصورة المتمثّل في الصورة نفسها، والتي من شأنها إنتاج العديد من صور من ذاكرة، فكلّ صورة حسب رأيي تنبني على أنقاض صورة أخرى فالماضي ينبني على أنقاض الحاضر والحاضر على أنقاض الماضي، فكلّ صورة تقرأ صورة أخرى. وفي ذلك تجاوز للصورة الكلاسيكيّة والمألوفة التي تقوم على نقل الواقع المرئي ومحاكاة أشيائه المرئيّة كما هي، فالفنّ تأويل للواقع وإعادة إنتاج صوره من جديد، وفي هذا السياق يقول هيغل: التجاوز للواقع ليس نكرانا  للذّات....".

هكذا هي الفنانة التشكيلية والباحثة عربية المصلي الغريبي التي تواصل تجربتها بين الإبداع الفني التشكيلي والتدريس بالجامعة والبحث الأكاديمي وقد قدمت عددا من المشاركات الفنية التشكيلية، فضلا عن الإسهامات الثقافية في فعاليات بتونس وخارجها، حيث أقامت بباريس لفترة في مجال تخصصها الأكاديمي ومقتضيات بحثها الذي دام لسنوات.