غزة على طاولة القتل مرة أخرى
لم تنته حرب الإبادة إذا. قتلت إسرائيل أكثر من 400 فلسطينيا في ليلة واحدة فيما رفضت بريطانيا تصريحات وزير خارجيتها التي قال فيها إن إسرائيل خرقت القانون الدولي لمنعها دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بما يعني أن العالم مستمر في دعم آلة الحرب الإسرائيلية وهو لا يسمح بحدوث أي تصدع في موقفه بناء على محاولة البعض قول الحقيقة التي صار واضحا بعد حرب غزة أنها ليست كفيلة بحماية أهل غزة، المدنيون منهم بشكل أساس. الحرب إذ عادت فإنها أولا تكشف عن رغبة إسرائيل في ألا تكون لحماس قاعدة شعبية، حتى لو اضطرت إلى محوها وثانيا كل وسيلة تقرب ترامب من خطته في إجلاء سكان غزة سيكون مرحبا بها مهما كان ثمنها الإنساني باهظا. وليس أمام المجتمع الدولي سوى أن يعبر عن أسفه لتدهور الأوضاع مرة أخرى. ذلك كلام سائب لا يعبر عن موقف حقيقي في مواجهة الكارثة التي أحيت الموت في غزة بحيث لم يعد الناجون منه متأكدين من أنهم سينجون هذه المرة أيضا. لقد فُتحت أبواب الجحيم مرة أخرى بعد رسائل الطمأنينة التي بعثت بها حماس.
ألم تكن حركة حماس دقيقة في حسابات الوقت، بحيث لم تستدرك نهاية وقف إطلاق النار بمواقف تمنع من خلالها تجدد العدوان على غزة؟ كانت هناك مفاوضات. وقيل بطريقة يغلب عليها الفخر أن هناك خط إتصال مباشرا فُتح بين الوسيط الأميركي وحماس وهو ما كان سببا لتفاؤل لا يمكن إنكار واقعيته. ولكن التفاؤل لا يكفي لتغييب أهمية ما يجري في الكواليس. فما الذي تريده إسرائيل وما الذي تريده في المقابل حركة حماس؟ حكومة نتنياهو كانت تخطط للإنتقال من حرب الإبادة إلى حرب التصفيات إذا ما تم إطلاق الوجبة الأخيرة من الرهائن، الأحياء منهم والأموات. أما حركة حماس فإنها كانت تبحث عن ضمانات صلبة تؤكد لها أن إسرائيل لن تمضي في خطتها. كيف يمكن الحصول على تلك الضمانات في غياب الجهة القوية التي تجبر حكومة نتنياهو على التوقف عند حدود ما فعلته من جرائم؟ ليست مصر وليست قطر هي تلك الجهة طبعا. إنها الولايات المتحدة التي هي من سوء حظ الفلسطينيين لا تفكر إلا في إزاحة أهل غزة عن أرضهم لتقيم الـ"ريفيرا" التي ترامب بها.
ولكن ألا يفكر أحد ما في مصير أهل غزة وحمايتهم من القتل الذي يتهددهم في كل لحظة وقد تحولوا إلى سد بشري في ظل وجود بقايا مدينة حماس تحت الأرض؟ لا ترغب حكومة نتنياهو أن تخسر رهانها على القضاء على حركة حماس وتتراجع من أجل الإفراج عن بضعة أفراد، هي غير متأكدة من أنهم لا يزالون على قيد الحياة أو أنها تتظاهر بذلك. كما أن حماس لا تكشف شيئا من أسرارها لعدوها الذي لم تصدق حتى اللحظة أنه اخترقها مثلما اخترق حزب الله. كان ذلك هو سر انتصار إسرائيل الاستخباراتي. غير أنه في الوقت نفسه يكشف عن خلل عميق في علاقة حماس كما حزب الله بالقواعد الشعبية التي بلغ بها اليأس مرحلة، صارت تفضل فيها الخروج على السائد القطيعي بدلا من الانتحار. المشكلة ليست دائما في الأفراد الذين قرروا الانتحار اخلاقيا ووطنيا على طريقتهم.
ما حدث أن إسرائيل كانت هي الطرف المستفيد من تعثر المفاوضات وهي غير مسؤولة قانونا عن سلامة أهل غزة. ذلك لأن سياسة حكومتها تتبنى العنف المبالغ فيه من أجل إجبار حركة حماس على تسليم الرهائن. أما حركة حماس وهو المسؤولة عن سلامة أهل غزة ومصيرهم فإن التأخر في اتخاذ الموقف المطلوب للخروج بالمفاوضات من عنق الزجاجة كما يُقال لم ينفعها في شيء. فالعودة إلى الحرب لا تعني سوى مزيد من الضحايا الأبرياء من المدنيين الذين لم يكن لهم علم بما تم التخطيط له ليلة السابع من أكتوبر عام 2023. وكما يبدو فإن الأطراف المعنية بالمفاوضات لم تكن على علم بما تبيته حكومة نتنياهو التي استأنفت الحرب وهي تعرف أن ليست هنا قوة في العالم يمكن أن تقول لها "كفى قتلا وتدميرا".
لا يحتاج نتنياهو إلى لغة يفسر من خلالها أفعاله. ذلك ما يعرفه الجميع، بضمنهم حركة حماس التي صارت تفكر في اليوم التالي قبل أن تتأكد من أن الحرب لم تنته بعد. صحيح أن القتلى فلسطينيون لكن صحيح أيضا أن هناك مَن تخلى عنهم وجعلهم مادة لوحشية نتنياهو وعصابته.