السياسات الثقافية تقتل المسرح المغربي كل يوم!
الرباط ـ يشهد المسرح المغربي اليوم تدهورًا متسارعًا بفعل سياسات مشوهة تتخفى وراء دعم وزارة الثقافة، في ظل غياب رؤية استراتيجية حقيقية قادرة على إنعاش هذا الفن العريق. يتمتع المسرح المغربي بتاريخ غني يعود إلى عصور الازدهار الأولى، عندما بدأت ملامحه تتشكل مع مسارح وليلي وليكسوس في القرن الأول الميلادي، حيث تأثر بالتقاطع الثقافي بين الأمازيغية والرومانية. خلال هذه الفترة، تطورت فرجة تفاعلية جذبت الجمهور المغربي، لتنشأ لاحقًا أشكال شعبية كالحلقة والبساط، التي ازدهرت في ساحات جامع الفنا وباب المنصور، محافظةً على روح التواصل الشعبي المغربي.
مع ظهور المسرح المعاصر في مسرح ثيربانتيس عام 1913، انطلقت مرحلة واعدة، لكن هذا الإرث الغني يواجه اليوم تهديدًا حقيقيًا بسبب سياسات الدعم غير المتوازنة. أصبح دعم المسرحيات وسيلة لتقييد الإبداع بدلًا من تمكينه، حيث يتركز على فئة محدودة من الفرق المسرحية متجاهلًا التنوع التاريخي الذي شكّل هوية هذا الفن عبر العصور. هذه السياسات تُضعف الأسس التي قامت عليها التجربة المسرحية المغربية، وتهمل الهواة والرواد الذين كانوا القلب النابض لهذا الفن.
في الماضي، ازدهر المسرح المغربي بحرية الإبداع غير المقيدة، متجسدًا في استعراضات إمذيازن بين القرى، حلقات الحكي في الأسواق، ومجالس البساط التي وحّدت بين النخبة والعامة. هؤلاء المبدعون غير المؤطرين ألهموا روادًا كبارًا أمثال الطيب الصديقي وعبدالقادر البدوي والطيب لعلج، وكانوا قادرين على تقديم أعمال مستمدة من التراث تجمع بين التجديد والتميز.
اعمال مستمدة من التراث تجمع بين التجديد والتميز
اليوم، تقيد السياسات الرسمية المسرح بإطار أكاديمي صارم، حيث تحصره في خريجي المعاهد، مما يضعف الإبداع الحر ويمنح الأولوية للشهادات على حساب المواهب الطبيعية. استُبعد الرواد الأصليون والهواة، ليُتركوا في الظل بدلًا من أن يكونوا جزءًا من المشهد الحي الذي ميّز المسرح المغربي تاريخيًا. التفاعل الشعبي الذي كان سمة بارزة، كما في حلقات "الحلايقي" بساحة جامع الفنا وأورار الأعراس في سوس أو شعر إزران بالأطلس، بدأ يتلاشى. في المقابل، تدعم الجهات الرسمية فرقًا تفتقر إلى الصدى الجماهيري، مما يعمّق أزمة المسرح المغربي ويحرمه من جذوره.
إضافةً إلى ذلك، يعاني المسرح المغربي من غياب تسجيل المسرحيات وبثها عبر وسائل الإعلام، مما يحد من انتشارها ويحصرها في قاعات مغلقة ذات جمهور محدود. في حين أن هذا الفن كان تاريخيًا يتسم بانفتاحه، حيث استوعبت مسارح وليلي الآلاف وجذبت الحلقات الشعبية الجماهير بقصصها المغربية. ومع توفر وسائل الإعلام الحديثة، كان من الممكن أن يصل المسرح إلى كل بيت مغربي، لكن غياب هذا التوثيق يحرم المسرح من الانتشار ويعوق استمراريته.
ويُظهر الاقتباس المفرط من المسرحيات العالمية افتقار المسرح المغربي إلى هويته الثقافية. يتم تجاهل التراث المغربي الغني، الذي يشمل قصص "ألف ليلة وليلة"، أساطير "سيف بن ذي يزن"، وشعر إمذيازن وآهال، لصالح أعمال مقتبسة تفتقر إلى الروح المحلية.
في السياق ذاته، تدعم الجهات الرسمية فرقًا تشارك في مهرجانات عربية، لكنها تقدم عروضًا مركبة تبقى بعيدة عن اهتمام الجمهور المغربي وتُهمل الأعمال المستلهمة من التراث الشعبي. هذا التوجه يعكس أزمة هوية عميقة تُفقد المسرح ارتباطه بجذوره الشعبية وتجعله عاجزًا عن التجدد.
الوضع الراهن يستدعي تغييرات جذرية تعيد الاعتبار للمسرح المغربي وتنقذه من الانهيار. لقد صمد هذا الفن عبر العصور بدءًا من مسارح جوبا الثاني مرورًا باستعراضات عبيدات الرما، لكنه يحتاج اليوم إلى دعم شامل يشمل الهواة والرواد، ويفتح المجال للإبداع الحر، ويوثق أعماله ويُبثّها للجماهير عبر التلفزيون أو منصات البث الحديثة. المسرح المغربي، الذي يمتد تراثه من وليلي إلى جامع الفنا، يستحق مكانة أفضل من أن يُترك للإهمال.
إحياء المسرح المغربي ليس مجرد ضرورة ثقافية، بل هو احترام لتاريخه العريق وضمان لاستمراريته كجسر تواصل حي بين الماضي والحاضر. الهواة هم أصل كل الفنون، ويجب أن يكون لهم دور محوري في النهضة المسرحية. إنقاذ المسرح المغربي يتطلب إعادة تقييم شاملة تعيد له مكانته وتستلهم من التراث لخلق أعمال مبتكرة تعكس الواقع المغربي، وبغير ذلك سيظل المسرح المغربي أسيرًا لسياسات تُحكم عليه بالموت البطيء، بعيدًا عن دوره التاريخي كصوت شعبي حي ومبدع.