المراهقة الممتدة: قراءة في سيكولوجية الجيل المتعثّر

يعيش الجيل الحالي في فضاء رقمي مفرط الخصوبة، حيث تقدم التكنولوجيا كل شيء جاهزا، من المعلومات السريعة إلى العلاقات الافتراضية.

في زاوية من زوايا مقاهي "سوق المباركية" في الكويت، حيث تتداخل أصوات النقاشات السياسية والاجتماعية مع رائحة القهوة المرة، يطل جيل الستينيات والسبعينيات، بوجوه تحمل أخاديدَ التجربة، بينما يجلس جيل الألفية الثالثة خلف شاشات الهواتف، يتبادلون النكات والصور ومقاطع الفيديو، وكأنهم في عالم مواز.

الفارق بينهما ليس في السنوات فقط، بل في درجة النضج التي تحوّلت مع الزمن إلى إشكاليةٍ ثقافية تلخص تناقضات العصر: فالشاب الذي كان يُعتبر بالأمس رجلا كامل المسؤولية وهو في سن الثامنة عشرة، يُوصف اليومَ – حتى بعد الثلاثين – بـ"الصبي" الذي تختلط في سلوكياته براءة الطفولة بتمرد المراهقة.

والبنت التي كانت انذاك تسمى امرأة وتتحمل مسؤولية بناء اسرة وتدير كفة عائلة كاملة، توصف اليوم في سن الاربعين والثلاثين بأنها "بنوته" لا تزال في بداية الطريق، وأنها تحتاج إلى المزيد من الوقت لتنضج وتتحمل المسؤولية، وقد تصدر منها ايماءات وحركات طفولية لا تتناسب مع سنها.

هذه الظاهرة لا تختص بفئة عمرية محددة، وان كانت تستغرق الاجيال الجديدة. فالمفارقة الأكثر قتامةً هي أن ظاهرة "التأخر في النضج" لم تعد حكراً على الشباب، وانما قد تمتد الى اجيال اقدم، اذ يلاحظ مثلا تشابه السلوكيات المراهقة بين الابناء الشباب وابائهم المسنين، والتي تشترك بكونها تخلو من الحكمة المتوقعة.

كيف انقلبت المعايير؟ ولماذا فشلت التكنولوجيا – رغم إغراقها العالمَ بالمعرفة – في صنع جيل أكثر وعيا ورشدا؟

لم يكن نضوج جيل ما بعد الاستقلالات العربية مختارا، بل كان رد فعل على واقع يفرض عليه تحمل المسؤولية باكراً. في الخليج والوطن العربي، كانت طبيعة التحولات الاقتصادية القاسية تُجبر الفتى على العمل وتحمل إعالة الأسرة في سن مبكرة. هنا، تحول النضج من "مرحلة عُمرية" إلى "شرط بقاء".

في ذلك الوقت، كانت طبيعة الاهتمامات الإجتماعية والسياسية مختلفة، كان التضامن مع القضايا العربية والاسلامية يبدأ بشكل تلقائي منذ الطفولة، ذلك الجيل يتذكر اجتماعات "فرصة المدرسة"، وحلقات المسجد النقاشية، ولقاءات المساء الثقافية، ومجلات الحائط الطلابية.

ان الفرق الجوهري بين الأجيال هو أن النضج كان يقاس سابقاً بالقدرة على تحمّل الأعباء المادية والمعنوية، أما اليوم فيختزل في الشهادة الأكاديمية أو المهارة التقنية. المجتمع كان ينتج الكبار لأن الحياة لم تكن تسمح بغير ذلك.

في المقابل، يعيش الجيل الحالي في فضاء رقمي مفرط الخصوبة، حيث تقدم التكنولوجيا كل شيء جاهزا، من المعلومات السريعة إلى العلاقات الافتراضية. هذا الفيضان انتج وعيا سطحيا، لاحظ مثلا كيف يعتمد الشباب اليوم على جوجل وشات جي بي تي كمصادر للمعرفة، بينما يعجزون عن فهم نص أدبي أو حدث سياسي بشكل نقدي.

هل يمكن القول ان هذا الجيل يعاني من "فصام الوعي"؟ فهو قادر على إدارة حسابات على خمس منصات اجتماعية في وقت واحد، وباحترافية عالية، لكنه عاجز عن إدارة حوار عائلي حول ازمة بسيطة؟ وعاجز عن تخطي ازماته النفسية التي صاحبت مشكلة اجتماعية صادفته قبل 10 سنوات مضت؟

ما يمكن ملاحظته في هذا السياق ان التكنولوجيا لم تقصر مرحلة الطفولة فحسب، بل طولت مرحلة المراهقة إلى ما لا نهاية. الشاب الذي كان يُفترض أن يصبح رب أسرة في العشرينيات، لا يزال يبحث عن هويته وهو ابن الأربعينيات.

قد يكون متزوجا ولديه أطفال لكنه في السلوك والشخصية لا يزال يراوح في دائرة سن المراهقة، سواء في طريقة تفكيره، او ادارة شؤون حياته، او ردود فعله تجاه الاحداث والازمات التي يمر بها، في كل ذلك تكتشف انه ناضج بيولوجيا لكنه لا يزال يحبو على مستوى الوعي الاجتماعي والنضج النفسي.

السؤال الأهم: هل نستطيع إعادة تعريف النضج بعيداً عن الخلفيات الاجتماعية والثقافية التقليدية؟ الإجابة قد تكمن في مشروعٍ تربوي يعيد الاعتبار للتجربة الإنسانية كمعلم أول، وللصراع مع الحياة كمدرسة لا تعوض.