التفريغ الثقافي في الفن والإعلام: أزمة هوية أم تحولات ضرورية؟
الرباط ـ يُمثل الإعلام والفن المغربي فضاءات محورية لتشكيل الوعي الاجتماعي وصياغة الهوية الثقافية، مستمدين إمكاناتهما من التنوع الحضاري واللغوي الذي يميز المغرب، غير أن هذين المجالين، اللذين كان يُفترض أن يكونا منارات للتفكير النقدي والإبداع الفكري، يشهدان تحولًا ملحوظًا نحو الربحية والتسلية، مُتخليين تدريجيًّا عن دورهما كأدوات لتعزيز القيم الثقافية الحقة. ويتجلى هذا التحول في هيمنة المحتوى الاستهلاكي، الذي يُغفل قضايا التعددية الثقافية والهوية الوطنية والتحديات الاجتماعية، مُفضلًا إنتاجات تُلبي أذواق السوق العالمية أو المحلية السطحية، إذ يبرز هذا التوجه ديناميات تتعلق بالعلاقة بين الثقافة والسلطة والاقتصاد المغربي، وتتقاطع فيه تأثيرات العولمة مع التحولات الاجتماعية الداخلية للمملكة. وينبغي فهم هذه الظاهرة كجزء من إعادة إنتاج الخطاب الثقافي الذي يُحيّد الفن والإعلام عن غائيتهما النقدية، مُحيلًا إياهما إلى أدوات لتكريس الوضع القائم بدلاً من تحدّيه.
ويُظهر تحول الإعلام والفن المغربي نحو التسلية نزوعًا إلى تسليع الثقافة، عندما تُهيمن إنتاجات تُلبي منطق السوق على حساب المحتوى الهادف. ويُفسر هذا التحول مفهوم صناعة الثقافة، الذي تناوله تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتاب ديالكتيك التنوير، حينما يُصبح الفن والإعلام سلعتين تُنتجان للاستهلاك الجماهيري، مُفقدين قدرتهما على تحرير الوعي أو تحفيز التفكير النقدي. وتُكرس هذه الديناميكية محتوى يُعزز السلبية لدى الجمهور المغربي، مُتجاهلًا قضايا جوهرية مثل الهوية الشعبية المغربية، والتعددية الثقافية، والأخلاق الاجتماعية الدينية، مُفضلًا إنتاجات تُحقق أرباحًا سريعة. ويُحيل هذا التسليع الفن والإعلام إلى أدوات لتكريس الواقع الاستهلاكي، مُحرومين من إمكاناتهما كفضاءات لإعادة صياغة الهوية الثقافية أو مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
وتُعزز العولمة هذا التفريغ عبر فرض خطابات ثقافية تُهيمن على الإنتاج الإعلامي والفني المغربي، مُقلصةً من حضور الخصوصية المحلية. ويُوضح هربرت شيلر في كتاب الاتصال والهيمنة الثقافية مفهوم الإمبريالية الثقافية، مُبينًا كيف تُشكل النماذج الغربية الخطاب الإعلامي لتكريس هيمنة ثقافية موحدة، خاصة في البلدان العربية ومنها المغرب. وتُنتج هذه الديناميكية محتوى يتبنى معايير عالمية، مُغفلًا الإرث الحضاري، ومُعيدًا صياغة الهوية المغربية بصورة مشوهة تتماشى مع توقعات السوق الدولي. ويُحرم هذا التوجه الإعلام والفن من دورهما كأدوات لمقاومة التغريب، مُحيلًا إياهما إلى وسائط لنقل قيم مستوردة تُضعف الارتباط بالجذور الثقافية واللغوية.
ويُكرس الجمهور، بتفضيلاته الاستهلاكية، هذا التحول، إذ يميل إلى محتوى ترفيهي يُلبي حاجات فورية بدلاً من التأمل الفكري. وهنا يُبين الفيلسوف كارل ماركس في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية مفهوم الاغتراب، مُوضحًا كيف يُحيل النظام الرأسمالي الأفراد إلى مستهلكين منفصلين عن إنسانيتهم. ويُغذي هذا الاغتراب طلبًا على إنتاجات إعلامية وفنية سطحية تُعزز السلبية، مُتجاهلةً إمكانات الثقافة في تحفيز الوعي بالذات والمجتمع. ويُحيل هذا السلوك الفن والإعلام إلى أدوات تفريغ الثقافة من محتواها الجيد، مُعيقًا إعادة صياغة خطاب ثقافي يُعبر عن التنوع الحضاري المغربي.
ويُناقض البعض هذا النقد، مُجادلًا بأن التركيز على التسلية يُشكل استجابة طبيعية لتطلعات الجمهور، مُخففًا التوتر ومنفتحًا على الثقافة المغربية الأصيلة. ويُفند الفيلسوف يورغن هابرماس في التحول الهيكلي للمجال العام هذه الرؤية، مُبينًا أن تحول الإعلام إلى أداة تسلية يُضعف المجال العام كفضاء للحوار النقدي، ويُكرس محتوى يُحيّد الجمهور عن قضاياه الجوهرية، مُعززًا سلبية فكرية تُعيق التفكير في الهوية والعدالة. كما يُحرم هذا الواقع الفن والإعلام من إمكاناتهما كفضاءات للمقاومة، مُحيلًا إياهما إلى أدوات لإعادة إنتاج الوضع الثقافي والاجتماعي القائم.
ويُثير تفريغ الإعلام والفن المغربي من الثقافة الهادفة تساؤلات حول قدرتهما على استعادة دورهما كفضاءات للتفكير النقدي وصياغة هوية ثقافية متماسكة. فالمغرب مملكة ثقافية متنوعة، لكنها تربت تحت رعاية الكتاتيب والأخلاق الدينية والروابط الأسرية الرفيعة. ويخلق هذا التحول توترًا بين الرغبة في الحفاظ على الخصوصية الحضارية والضغوط الاقتصادية والعالمية، التي تُحتم تبني نماذج استهلاكية، مثل خلق صراع الطبقات الاجتماعية، وخلق طوائف وهمية وعرقية غير موجودة ويتم إقحامها عمدًا. ويتجاوز هذا الواقع كونه مجرد خيارات إنتاجية، إذ يتعلق بإعادة تعريف العلاقة بين الثقافة الحقيقية والمجتمع المغربي، الذي يواجه تحديات التغريب والتسليع. ويبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كان بالإمكان إعادة توجيه الإعلام والفن نحو بناء خطاب يُعزز التنوع الحضاري، أم أن استمرار هذا التفريغ سيُعيد إنتاج هوية ثقافية مشتتة، عاجزة عن مواجهة تعقيدات العصر.