حرية التعبير في العالم العربي بين الإطلاق والتقييد

إيجاد نموذج متوازن لحرية التعبير في العالم العربي لا يمكن أن يتم دون إصلاحات جوهرية تعزز الإعلام الحر.

لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت درجات الحرية من دولة إلى أخرى، تتجلى أزمة حرية التعبير بوضوح، حيث تصطدم بين واقع سياسي واجتماعي يسعى إلى ضبطها، وبين فضاء إلكتروني يكاد يكون بلا قيود.

الحرية كقيمة إنسانية بين المطلق والمقيّد

الحرية مفهوم معقد، إذ إنها لا تعني الفوضى ولا الإطلاق المطلق دون مسؤولية. فالحرية، خاصة حرية التعبير، ينبغي أن تكون مرتبطة بمعايير تحمي الحقوق الفردية والجماعية. فحينما تصبح الحرية أداة للتعدي على الآخرين أو تهديد استقرار المجتمعات، فإنها تفقد قيمتها الجوهرية كعنصر بناء في النظام الاجتماعي. ولذلك، فإن الدول الحديثة تسعى إلى إيجاد توازن بين ضمان حق الأفراد في التعبير عن آرائهم وبين حماية السلم المجتمعي من التجاوزات التي قد تنشأ عن هذا الحق.

في المجتمعات الديمقراطية، يتم تنظيم حرية التعبير وفقًا لضوابط قانونية تهدف إلى منع التحريض على الكراهية أو العنف، وحماية الخصوصية، وعدم نشر الأخبار الكاذبة التي قد تضر بالمصلحة العامة. أما في بعض المجتمعات الأخرى، وخصوصًا في العالم العربي، فإن القيود المفروضة على حرية التعبير تتجاوز مجرد التنظيم إلى محاولات للسيطرة على المجال العام ومنع أي خطاب ناقد للسلطة، مما يعزز الإحباط الشعبي ويحدّ من تطور الفكر النقدي والإبداعي.

حرية التعبير في العالم العربي: بين القمع والانفلات الرقمي

تعاني حرية التعبير في العالم العربي من مفارقة كبرى، فمن جهة تفرض الأنظمة السياسية قيودًا مشددة على الإعلام التقليدي وعلى الفضاء العام، ومن جهة أخرى يجد الأفراد في وسائل التواصل الاجتماعي متنفسًا للتعبير بحرية لم تكن متاحة لهم من قبل، وقد أدى هذا التناقض إلى ظهور أشكال جديدة من الحراك الاجتماعي، حيث بات الأفراد قادرين على تجاوز الرقابة الرسمية عبر المنصات الرقمية

ومع ذلك، فإن هذا الفضاء المطلق الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي يحمل في طياته تحديات كبرى، فمع غياب الرقابة المؤسساتية، تتحول بعض منصات التواصل إلى ساحة للفوضى، حيث تنتشر الأخبار الكاذبة، وخطابات الكراهية، والتحريض الطائفي والسياسي. كما أن هذه المساحة المفتوحة قد تُستخدم كأداة لقمع الحريات نفسها، من خلال حملات التشويه والاغتيال المعنوي للمعارضين، مما يخلق بيئة غير صحية للنقاش العام.

التحديات المرتبطة بغياب الضوابط في الفضاء الرقمي

في العالم العربي، يمثل الفضاء الرقمي تحديًا مزدوجًا لحرية التعبير، فمن ناحية يتيح للأفراد حرية واسعة قد لا يجدونها في الإعلام التقليدي، ومن ناحية أخرى، فإن غياب التشريعات العادلة والمنصفة يجعل هذا الفضاء سلاحًا ذا حدين، يمكن تلخيص أبرز هذه التحديات في النقاط التالية:

1- انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي: مع غياب الرقابة الفعالة، أصبح من السهل التلاعب بالمعلومات، مما يؤدي إلى تضليل الرأي العام وإثارة الفتن.

2- خطابات الكراهية والتطرف: تستخدم بعض الجهات الفضاء الرقمي لنشر محتوى يحرض على العنف أو يرسّخ الانقسامات المجتمعية، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.

3- التوظيف السياسي للفضاء الرقمي: تلجأ بعض الأنظمة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لمراقبة المعارضين أو توجيه الرأي العام من خلال الجيوش الإلكتروني.

4- التهديدات للخصوصية والأمن الرقمي: مع غياب قوانين تحمي خصوصية المستخدمين، بات الأفراد معرضين للاختراق الرقمي أو الملاحقة بسبب آرائهم.

نحو نموذج متوازن لحرية التعبير في العالم العربي

إن الحلّ لأزمة حرية التعبير في العالم العربي لا يكمن في فرض رقابة مشددة أو إطلاق الحرية بلا قيود، بل في تحقيق توازن يضمن حرية التعبير المسؤولة في إطار يحترم حقوق الأفراد والمجتمع. ولتحقيق ذلك، يجب العمل على:

1- إصلاح القوانين المتعلقة بحرية التعبير: ينبغي وضع تشريعات تحمي حق الأفراد في التعبير عن آرائهم دون خوف من العقاب، مع منع التحريض على العنف أو الكراهية.

2- تعزيز الإعلام المستقل: تحتاج الدول العربية إلى مؤسسات إعلامية حرة تضمن تدفق المعلومات بشفافية دون خضوعها لسلطة سياسية أو اقتصادية.

3- تعزيز الوعي الرقمي: من الضروري نشر ثقافة الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يتمكن الأفراد من التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة.

4- تطوير آليات رقابة مجتمعية مستقلة: بدلًا من الاعتماد على رقابة الدولة، يمكن إنشاء هيئات مستقلة لمراقبة المحتوى الإعلامي وفق معايير مهنية وأخلاقية.

والخلاصة إن أزمة الحرية وحرية التعبير في العالم العربي تعكس تعقيدات العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين القيم التقليدية ومتطلبات العصر الرقمي، وبينما يتيح الفضاء الإلكتروني متنفسًا جديدًا للتعبير، فإنه في الوقت نفسه يطرح تحديات تتطلب حلولًا حكيمة توازن بين حرية الرأي والمسؤولية الاجتماعية.

إن إيجاد نموذج متوازن لحرية التعبير في العالم العربي لا يمكن أن يتم دون إصلاحات جوهرية تعزز الإعلام الحر، وتنشر الوعي الرقمي، وتضع تشريعات تحمي الحقوق دون أن تتحول إلى أداة قمعية، فبدون حرية مسؤولة، لا يمكن للمجتمعات أن تتقدم أو تحقق الاستقرار الحقيقي.